فصل:
واقعة الوسيم
بدون سابق إنذار ،تفتح ” الحاجة عذرا”باب شقتنا،فتصل إلى سمعي وسمع البنات حشرجة شتلة المفاتيح التي ترافقها دوما، وكأنها سجان .. والحق يقال إنها سجان طيب لا وجود له في الواقع ، تأتينا بالشاي والحلوى والحكايات والضحكات النادرة في حياتنا ، فنقهقه حتى تكاد صدرونا تنشق وتنير ، وتنثر شيئا من الفرح النادر في يومياتنا . وتعلمنا الكثير، وبصوتها المرتفع تنادي:
- واش يا بنات نتاع الزمان ..رقدتو بعدا؟؟ آيا نوضو نوضو..
ضاجة مثل الرعد، تدخل” الحاجة عذرا” الصالة بألبستها الفضفاضة ذات الألوان المتعددة ،يغلب عليها الأسود الليلي البَرّاق ، أطرافها تطير في كل مكان حتى كأنها تجرجر وراءها الأشياء ،إلا أن القماش الهفهاف العريض يمر مثل الماء مداعبا وسائلا فوق كل شيء دون أذى، و من كثرة ما ترفع مناديلها حول كتفيها ،تمتلئ الأمكنة بروائح المزيج من طيوب صحراوية، لا تشبه في شيء العطور الفرنسية التي نتنافس على شراء أشهرها من سوق الطرباندو ،كلما سمحت إمكانياتنا بذلك.
تلج الصالة وبين يديها سينية كبيرة نحاسية ، تحتضنها بعناية فائقة وكأنما هي طفل تخشى عليه شيئا ما، عليها علب مزركشة بألوان ورسومات غاية في الدقة ، علبة الشاي ،وعلبة السكر، وربطة كبيرة من النعناع مبللة، وحزمة صغيرة من نبات الشهيبة ، ومجمر تطقطق جمراته الحمراء الناطقة ، وصحن من البلح.
تجلس على الأرض في الوسط تماما ،غير آبهة، وكأنها متأكدة أننا سنخرج من غرفنا المطفأة الخرساء للتو .. وكالعادة تبدأ في تحضير الشاي على طريقتها الخاصة، تضع كمشة من الحبيباته الخضراء في إبريق الشاي الفضي”البراد”،تنطق اسمه يتفخيم الراء حتى يكـاد النصب يصبح رفعا. يقبع البراد في وسط السينية رافعا أنفه بشموخ ، وكأنه ديك يقف منتصبا على أشده . تشلله بقليل من الماء المغلي ، تتركه قليلا ثم تشلله مرات أخرى، مطوحة ذراعها كله تلوح بالبرّاد في الهواء ،حتى تكاد تسمع حشرجة حبيبات الشاي بداخله، و تعيد الماء ليغلي فوق المجمر .. للماء المغلي الفوار سحر لدى “الحاجة عذرا”، أشعر أن بعينيها لذة قصوى وفرحا عارما. لا تفتأ تنظر إلى الماء المغلي وهو يئن فوق النار ..تضع قطع السكر الكثير ثم تنتظر قليلا قبل أن تقلبه في كأس كبيرة عدة مرات، لتعيده إلى البرّاد وتملأه أخيرا حتى التمام بالماء المغلي ،تفكك ربطة النعناع المنظف ذي الأوراق الحرشاء بتوأدة وحب واعتناء ، وكلما حركته فاضت منه رائحته المهدئة ، ثم تضعها جانبا وكأنها تريد أن تنعش رائحتها المكان قبل أن تدسها أخيرا في برّاد الشاي يزداد لمعان فضته مع الحرارة ،وتضيف في الأخير نبتة “الشهيبة ” ذات الرائحة النفاذة المنعشة. ترمي بين الحين والآخر نظرة إلينا ونحن جالسات حولها على الأرائك البنية في ثياب نومنا، بعيون متعبة ووجوه شاحبة واجمة منكسرة ، تبتسم و هي تقلب السواك بين أسنانها الناصعة .. أفكر أحيانا أن الحاجة عذرا من خلال ابتسامتها المبهمة تلك، تقرأ ما بدواخلنا ،وتعرف ما قمنا به خلال النهار دون حتى أن نخبرها بشيء من ذلك.
منذ أن أقمت في بيت الحاجة عذرا، وأنا لا أزداد إلا رهبة من هذه المرأة المدهشة الغامضة الضخمة ، ذات الوجه ذي الجمال النادر بملامحه المنسجمة في تناسق غريب ، الآتية من الجنوب البعيد الحار . في صوتها حشرجة وكأن بقايا الرمل لا يبرح حنجرتها القوية، يتململ مع كل جملة تنطقها. لا أدري لماذا آخذ كل ما تقوله على مأخذ الجد ، على الرغم أنها لا تتكلم إلا وهي هازئة ساخرة ،فلا تعرف هل أن ما تقوله حدث فعلا ،أم أنها تطعّمه بخيالها الخصب الواسع وسع الصحراء التي جاءت منها. يبدو لي أحيانا أن الحاجة عذرا سرب خيام متراصة من أسرار ،ملونة متينة الأوتاد.
في الحقيقة ” الحاجة عذرا” لا يأسرها شرب الشاي كثيرا ،مع العلم أنها لا تستغني عن سحره أبدا ، بقدر ما تعشق طقوس إعداده ،وتوزيع كؤوسه ،والتمتع برؤية راشفيه و ببهجة المتمتعين بلذته.
تأخذ الكأس الصغير المذهبة أطرافه بعد أن توزع علينا مثله. لا تملأ الحاجة عذرا الكؤوس إلا للنصف أو بالكاد، إلا أن الكؤوس الشفافة الهشة الرقيقة تلك ،تتدافع رغوة فضية حتى أطراف رؤوسها.
تضحك الحاجة عذرا وهي تتأمل الكأس، ثم وكأنها فجأة تغيب بعيدا وتنطق بكامل لا وعيها:
-وأنا صغيرة ، كان جدي سيدي محمد بن امبارك يرفع البرّاد عاليا جدا، ثم يهوي بسرعة بالسائل على الكأس ،كي تشتد الرغوة فيه و تزداد و تتناسل..وكان يبالغ في شدة حركته تلك حين يملأ كأسي من دون الحاضرين، ليمتلئ بالرغوة الفضية فيقول لي بزهو:
-آه يا عذرا .. ستصبحين ذات مال كثير حين تكبرين .. انظري الدراهم الكثيرة. ..يقول ذلك وهو يشير إلى فقاعات الرغوة الفضية المتلاطمة وهي تفيض على شفاه الكأس و قد امتلأ حتى التمام .
-.. لم تكذب تنبؤات جدي سيدي محمد بن امبارك .. الحمد لله الآن لدي أملاك و مال كثير يكفيني .
ثم تتنهد حتى نكاد نلمح النار تندلع في صدرها، ثم لا تلبث ترمش عينيها كمن يستفيق من حلم ،وتبتسم وكأنها تعتذر.
يظل الكأس الصغير بيدها ،تتأمله بحنان، وتشرب بين الكلام والكلام جرعات صغيرة، هي لا تريد شرب الشاي لوحدها.
هو احتفال بالحياة كلما جاءت الحاجة عذرا لتحضّر لجلسة الشاي، تجعلنا روائح العطور نسافر بعيدا كلما انزلقت ككل جلسة شاي في الحديث عن المراتع البعيدة العزيزة لطفولتها وشبابها، ولعل ذلك يذكرها بطقوس إعداده وتناوله ،وخاصة انتظاره ..انتظار جماعي لاحتفال بمتعة جماعية،و الحق يقال إنه جو تصنعه الحاجة عذرا بمنتهى الدقة والبراعة، تستحضر جغرافيتها الصحراوية التي تحن إليها تستقدمها من الذاكرة ،وتعيشها بجزئياتها الصغيرة من أصوات ووجوه وألوان ..إنها بيننا ، تأسرنا بأحاديثها، وتعمل أن يظل انتباهنا مستيقظا لسماعها ،لكنها بعيدة جدا ونحن مجرد كمبارس .
المستأجرون لشقتها شركاء لها في إيقاظ الذاكرة، وهمز المخيال المليء بعوالم أخرى تختلف في كل شيء عن هذه المدينة الباردة.
إنها لا تشركهم جنونها الدفين ب”التاي” كما تنطقه و طقوس جلساته الطويلة فحسب ، بل تخلق طقسا قطعة من العالم الصحراوي الذي تحن إليه بعد أن افتقدته منذ زمن .بدورنا تزيدنا جلسات الشاي دهشة بعد أخرى..إنه إدمان الشاي وما له .
- قعدة التاي مقدسة يابنات !
نجلس في البدء حولها صامتات ،بأثوابنا المسائية تتهدل حول أجسامنا النحيلة المتعبة ، والنمل يتكاثر في أسفل الأقدام من كثرة السعي في هذه المدينة الغولة التي نتشارك جميعنا في غربتنا فيها، كل واحدة في داخل رأسها دخان اليوم الطويل في البحث عن المبتغى، يتصاعد في التواءات قليلا قليلا مثل أفعى راقصة.
لا يبدو أن «الحاجة عذرا” تنتظر منا شيئا، ثم إنني لست أدري إن كانت تشفق على حالنا ،أو تتسلى برؤيتنا عابسات يائسات ،وقد بدت أحسن حال منا ،رغم شبابنا و قدر الجمال لكل واحدة منا.
سعادتها القصوى حين تبدأ بصب الشاي في الكؤوس الصغيرة المذهبة الأعناق، وقد رفعت الإبريق الفضي شامخ الأنف عاليا عاليا جدا ،حتى تخاله معلقا في السقف ،فيسيل الشاي الأصفر المتلألئ المتراقص في الهواء ، وكأنه شعاع أو شهاب يهوي نحو حتفه . لا تخطئ الحاجة عذرا مرماه أبدا ،ولا تتسرب أيه نقطة منه خارج الكأس الصغير، لتلك الحركة بهجة تدخلها إلى نفسي ، فيتفتت مزاجي العكر فجأة وأبتسم. ومثلي تشق الابتسامة وجهي رفيقتي العابستين إلى نصفين .
تمتد جلسة الشاي طويلا ،وعلى دفعات ومراحل، بمنهجية فائقة الدقة، تملؤها الحاجة عذرا بأخبار نساء ورجال أهل الصحراء ، عشقهم وزواجهم ،وطلاقهم ، وولاداتهم، ورقصاتهم ، واحتفالهم بمواسم النجوم، والأولياء الصالحين ،ورحلاتهم ، وعاداتهم ،وسهراتهم تحت سماء لا مثيل لصفائها ولشساعتها وقربها، ووصف ليومياتهم في دقائقها، حديثهم الأساسي عن الماء وتوزيعه بالقسط عن طريق نظام “الفوغرات”، الطريقة المتفردة في العالم لتوزيع هذه المادة العزيزة بالعدل على ناس الصحراء،و تحدثنا عن الفرح السائد في البيوت .. لست أدري لماذا لا تختار الحاجة عذرا إلا الحكايات السعيدة ، كل شيء تتحدث عنه يملؤه عبق الفرح. كلما استرسلت في حديثها بصوتها الجهوري الهادئ الذي تميزه بحة وكأن الحروف تخرج من أنفها، إلا وتلاشت غيوم الكآبة عن قلبي، خاصة حكايات الحب ،والغدر، وحيل النساء ،وأخبارهن، و أسرارهن الغريبة ،التي لا يعرف منها الرجال شعرة واحدة ، مهما أوتوا من دهاء.
كثيرا ما تختم جلساتنا المؤنسة ، فتعزف على آلة الإمزاد ذات الوتر الوحيد، يخرج آهات متواصلة ،تضع الآلة في حجرها ثم تمرر القوس الصغير ،وبصوتها المتهدج نصف النائم، نصف الغائب ، تغني ..
في البدء، لم أستسغ هذا النوع من الموسيقى و الغناء، أنا التي تربت أذني على أغاني الصخب والصياح، ولكن مع تردادها وسماعها، أضحيت أشعر بحركة لذيذة في صدري ، ورجفة حين يئن هذا الوتر الوحيد في حجرها..مزيج من الرهبة والنشوة والإعجاب . ثم وقعت في غرام هذه الآلة الغريبة فأردت أن تكون لي واحدة ألمسها وأتأملها عن قرب متى شئت .ذات يوم ذهبتُ عند بائع الأدوات الموسيقية في أكبر شارع في المدينة، محل ضخم وفاخر يحتوي على عدد كبير من الآلات الموسيقية الجميلة ،فقلت له بثقة :
- أريد آلة الإمزاد من فضلك .. !
لم يتردد أن يتفرس في وجهي عن قرب ثم ضحك مني هازئا ، هازا رأسه الضخمة يمنة ويسرة:
- واش هذا .. عمري ما سمعت به !؟؟
لكنني على الرغم من وجهي الذي احمر من المفاجأة وربما الغضب .. كررت أمام وجهه:
الإمزاد .. الإمزاد .. الإمزاد نتاع الطوارق. !
ثم خرجت وأنا ألوح بذراعي من قلة الحيلة .
فطنتْ الحاجة عذرا إلى أن من أحاديثها التي تشدنا إليها أكثر ،هي تلك التي تتناول سير الرجال وعلاقتهم بالنساء ،وما يدور في كواليس النساء خاصة من تدابير عفاريتية للحيل.. فتسترسل سخية في أوهجها تشويقا وإثارة ،مفصلة، مؤكدة ،محللة ،معلقة .. لم تكن الحاجة عذرا لطيفة مع الرجال على الرغم من إعجابها الكبير بهم ، واهتمامها بأخبارهم الصغيرة والكبيرة ..وحين تبدأ بوصف أحد منهم فإنها تفتت جسده بالقول والمعني إلى تفاصيل لا تدركها غير عارفة بأمورهم الدقيقة، وكانت تسميهم “الذْكُورَا”.
- أنا اللي نعرفهم الذْكُورَا هاذوك .. أنا اللي نفهمهم وهي طايرة .. !
في آخر كل سهرة، تتعالى ضحكاتنا حتى لتكاد تشق سقف الغرفة .. ليس هذا فحسب ،بل نكاد نشعر وكأن يومنا الهالك لم يذهب سدى، وقد اجترحنا منه ما يكفي من الانتصار على الرتابة والفشل ، وأشياء أخرى ،في هدف كل واحدة منا.
في بداية الأمر، لم نكن نستسيغ الدخول المفاجئ للحاجة عذرا إلى الشقة، كنا نشعر أنه يكفي أننا ثلاثتنا في البيت ،فبالكاد نتحمل بعضنا البعض ، فلا يجب أن تضيف حضورها اليومي الثقيل، لكن والحق يقال، وبعد فترة ،صرنا نحبذ مجيئها ،و على شوق ننتظره لكسر رتابة المساء بل النهار كله .ثم إنها لا تتدخل أبدا في حياتنا الخاصة، ولم تسأل إحدانا مرة عما تفعله في الخارج طوال النهار .. يبدو أن الحاجة عذرا لا يهمها الإطلاع على أخبارنا ، بل يهمها أن نستمع إليها لا غير ، إنها تحتاج إلى من ينصت إلى حكاية حياتها الغريبة الغنية بالأحداث ، التي لا تكرر سردها ، ولم يحدث أن سمعنا قولا لها مرتين ،حتى إننا ،أحيانا، نشك في حقيقة بعض التفاصيل العجيبة في قصصها ،إلا أن طريقتها المتقنة في الحبكة ،و التدقيق ،والتأثيث بذكر الأسماء والأماكن والتفاصيل والأحداث والتواريخ ،تجعلنا نتنفس الصعداء ،ونحن نكاد أن نصير متأكدات على أنها لا تضحك على ذقوننا ..بالكاد ..
يا إلهي ..ما هذا الجيش كله الذي عرفته ” الحاجة عذرا ” من الناس وخاصة من الرجال.
وهل كل تلك القصص الغريبة في علاقاتها مع “الذْكُورَا ” كما تسميهم ، ولا تدخر جهدا في التفنن حين قصها علينا حقيقية ..؟
وهل هي أيضا مثل أحوالنا قصدت هذه المدينة بحثا أو هروبا أو انتقاما من أحدهم ..؟
على كل حال للتفاصيل في حكاياتها عن الذْكُورَا أشياء تولد فينا الرغبة في التصديق أنها فعلا حقيقية .
” الحاجة عذرا ” ابنة الطوارق، جاءت إلى هذه المدينة الساحلية الرطبة ذات صيف، آتية من أقصى الجنوب رفقة خليجي وسيم ،حضر و بالصدفة حفلة طلاقها، ونتيجة لعلاقاته القوية بذوي النفوذ في البلد ،أسكنها حيا راقيا لا يصل إليه العاديون .
-والله العظيم يابنات سآخذكن..ذات يوم لزيارة داري بنادي الصنوبر!..
أخبرتنا أنه بعد أن تم طلاقها من آخر أزواجها ، بسبب عدم إنجابها له،شعرت أنه بدأ يتلكأ ويبدي الامتعاض من محنته ، فلم تتردد في الانفصال عنه، وتبعا لعادة الطوارق في الاحتفال بالمطلقة ، لم تخرج عذرا المطلقة الشابة عن العادة العتيقة ،فأقامت حفلة جميلة صاخبة، حضرها كبار القوم وصغارهم ،ولم تستثن في دعوتها أحدا . وفي الحفلة التاريخية تلك، صادف وجود رجال من بلد خليجي في المنطقة، يقيمون لفترة بغرض ممارسة هواياتهم في صيد الغزلان ،والظباء ،وحيوانات الصحراء الشاسعة الغنية بكل شيء من ثروات باطنية وظاهرية حية يزخر بها البلد ..
وكأنها تلعن وجودهم هناك ،لا تتردد الحاجة عذرا في تبيان اشمئزازها، أفضت لنا أنهم يقومون باستغلال كل شيء دون حرج، وكأنهم في بلدهم ، أو أنهم اشتروه بأموالهم الطائلة. ثم أخبرتنا هامسة وكأنها تسر بشيء خطير :
- إنهم أصدقاء الرئيس وخيرُهُم سابق عليه ، يقال إنهم استقبلوه في ديارهم قبل ركوبه كرسي الرئاسة،واليوم يريد أن يجازيهم ويرد جميلهم ،فجعل تحت تصرفهم الصحراء و الهضاب العليا، ملعبا لهم يحطون بطائراتهم الخاصة ،وسياراتهم الضخمة الفخمة ،وأسلحتهم للصيد وصقورهم على أكتافهم.
- لماذا لا يجازيهم من جيبه .. والله العظيم زْمَر ..
تصف الحاجة عذرا وهي القديرة على الوصف حفلتها ، كانت لا تنسى، ولا مثيل لها بين حفلات الطلاق في تاريخ النساء الطارقيات . فقد نصبت خيمة كبيرة من وبر الجمال الحر ،بحضور جميع سكان المنطقة، ولم تتوان عن دعوة هؤلاء الخليجيين ،الذين كانوا يجوبون المكان بحرية، بعدما جذبهم صوت الموسيقى والرقص والزغاريد، جاؤوا لغرض الاكتشاف والتطفل ،خاصة وأنهم استغربوا ،وتضاحكوا كيف لمطلقة أن تقيم حفلة طلاقها .
-شلون يصير هاذ .؟
بلغت سمعها تلك الجملة.. تقول الحاجة عذرا وهي رافعة حاجبيها، تدحرج عينيها يمنة ويسرة وعلى وجهها ابتسامة ساهمة، إن فكرة جهنمية جابت ذهنها فجأة ، فأقسمت اليمين أن تصيدهم، فكما جاؤوا ليصيدوا، فذنبهم على جنبهم، بدورها سترمي بشباكها الخاصة وليذهب إلى الجحيم مضيفهم، وهم ما هم عليه من الثراء والبذخ الذي ما انفكوا يظهرونه ويتمظهرون به، وكأن بهم ستستسلم لهم الرمال وغزالات الصحراء بكل أنواعها .
-تعالوا سأورّي لكم . !
نعم .. حفلة طلاقي لم تشهد مثلها سماء الصحراء من قبل .. كان الغناء يصل عنان السماء المفتوحة على الغيب والغياب ، والرقص في أوج جنونه، ورائحة البخور والحناء تتسرب إلى أبعد خلية في أجسام الحاضرين..
حَطِّيتْ عيني على واحد منهم .. كان أوسمهم و أجملهم وجها وجسدا، عيني العارفة عرَّتْه في طرفة رمش .. علمت في ما بعد أن أباه تزوج أمه من بلاد تدعى السويد، بعد أن التقى بها في شاطئ مخصص للعراة هناك، فأسقطَتْه من علياء شمسه إلى ثلجها.. ثم تزوجها وأخذها إلى بلده .
الحق يقال كان آسرا ،تتداخل سمرته النحاسية بما يشبه حليب النوق الرائب، وشفتاه تلمعان من بعيد مثل تمرة براقة وسط عرجون معلق في أعالي نخلة. !
وتسترسل الحاجة عذرا في ضحكة جهورية متصلة القهقهات ، وهي تلوح بذراعيها في الهواء، قبل أن تصفق يدا في يد، بينما جسمها الضخم يموج في مكانه.
بحساسيتها الطارقية العليمة، اختارت” الحاجة عذرا ” الوقت المناسب و اللحظة القاتلة بعد أن سخن الحفل، في ذروة لحظاته النارية، ترجلت عن جلستها الملوكية ،فارتفعت الزغاريد.. وكيف لا.. أليست هي عروس الحفل؟!،
توسطت الجميلة عذرا المحتفى بها الحضور ،فوسعوا لها ساحة الرقص، باعدوا بينهم حتى فرغت الحلبة لها وحدها ،وانطلقت في رقصة يمامة برية زرقاء ، يشع ثوبها الأزرق اللماع كأن المرايا تسكنه ، أسقطت منديلها الأسود الفاحم من على شعرها المحنى ، اشتدت الموسيقى سرعتُها ،فازداد توحشها الجميل .. كانت ترقص بكل شيء يستطيع أن يتحرك في جسمها، من شعرها المحنى ،إلى حاجبيها إلى أخمص قدميها..تدوس الأرض بالكاد ..حتى التراب كأنه استفاق تحت خطواتها ،كان يشمها ويتعرف على أجزائه الواقفة منه فيها ،يتناثر ويمد ذراته شفاها راغبة في لثمها، متسربا من بين الحُصُرِ و الزرابي الحمراء المبسوطة .
كانت ترفرف بأطراف أصابعها في رقصتها الطارقية المدهشة، وكأنها تسبح بحمد خالقها .. ثم اقتربت من صيدها ..اقتربت منه كثيرا .. لم تلمسه، بل أرسلت بحرارة جسمها المتعرق حوله، كانت روائح الحلي من الأحجار العطرية، والعطور القوية الملتصقة بالجسد، تتحلل إلى ذرات تحت حرارة الطقس وطقس الرقص..تملأ عينيه، وفمه ، وخياشيمه، ورئتيه ،وبطنه ،وكيانه ،و لتبلغ حتى أعمق جزء فيه.. لم تلامسه .. اقتربت منه أكثر، ورفعت ذراعيها قريبا جدا منه دون أن تنظر إليه ، ثم أرسلت من بين أهدابها برقا حادا قاصما.
- ضيقتُ أهداب العين مني هكذا.. مثل قوس على السهم، ورميته فأصبته. !
دارت حوله مثل زوبعة وكأنها تطوقه بنارها ..كاد أن يغمى عليه.. لم تلامسه أبدا.. اقتربت، حتى خيل له أنهما يتداخلان..كأنها تسمع تنهده وأنينه.. لم يعد الحاضرون الكثر حاضرين.. غياب هم جميعهم.. لم يعد يرى أحدا غير هذه الطارقية ترقص بحفلة طلاقها .. بدا الغريب الثري القادم من شبه الجزيرة متشنجا، كل ما فيه أضحى مشدودا على آخره.. مد يده المرتجفة دون إرادة منه.. إلا أنها ابتعدت راقصة ،ثم جلست بهدوء في مكانها العالي وسط الزغاريد ،وقد تأكدت أن المهمة قد انتهت ،و أنها أخذت لبه وضعته تحت الوسادة.. هكذا .
ثم ألقت إليه نظرة تؤكد انتصارها عليه. كان الوسيم يقف مشدوها مهزوما ، وحيدا ،مفردا ،ذراعاه منسدلتان .وحبات عرق تتمرغ على السمرة النحاسية لجبينه وصدغيه..شفتاه اللتان تشبهان تمرة يانعة على شفة السقوط ، اشتد بريقهما، وكان على وجهه تعبير لمن أضاع للتو شيئا ثمينا كان ملكه قبل لحظات..مخبئا بين جوانحه كان.
و في الغد..وكما كانت تنتظر ،بعث الوسيم إليها بمرسول ، وبهدايا ثمينة، لكن إجابتها كانت قاطعة .
___
ربيعة جلطي شاعرة وروائية من الجزائر
rabia.djelti@hotmail.fr
بدون سابق إنذار ،تفتح ” الحاجة عذرا”باب شقتنا،فتصل إلى سمعي وسمع البنات حشرجة شتلة المفاتيح التي ترافقها دوما، وكأنها سجان .. والحق يقال إنها سجان طيب لا وجود له في الواقع ، تأتينا بالشاي والحلوى والحكايات والضحكات النادرة في حياتنا ، فنقهقه حتى تكاد صدرونا تنشق وتنير ، وتنثر شيئا من الفرح النادر في يومياتنا . وتعلمنا الكثير، وبصوتها المرتفع تنادي:
- واش يا بنات نتاع الزمان ..رقدتو بعدا؟؟ آيا نوضو نوضو..
ضاجة مثل الرعد، تدخل” الحاجة عذرا” الصالة بألبستها الفضفاضة ذات الألوان المتعددة ،يغلب عليها الأسود الليلي البَرّاق ، أطرافها تطير في كل مكان حتى كأنها تجرجر وراءها الأشياء ،إلا أن القماش الهفهاف العريض يمر مثل الماء مداعبا وسائلا فوق كل شيء دون أذى، و من كثرة ما ترفع مناديلها حول كتفيها ،تمتلئ الأمكنة بروائح المزيج من طيوب صحراوية، لا تشبه في شيء العطور الفرنسية التي نتنافس على شراء أشهرها من سوق الطرباندو ،كلما سمحت إمكانياتنا بذلك.
تلج الصالة وبين يديها سينية كبيرة نحاسية ، تحتضنها بعناية فائقة وكأنما هي طفل تخشى عليه شيئا ما، عليها علب مزركشة بألوان ورسومات غاية في الدقة ، علبة الشاي ،وعلبة السكر، وربطة كبيرة من النعناع مبللة، وحزمة صغيرة من نبات الشهيبة ، ومجمر تطقطق جمراته الحمراء الناطقة ، وصحن من البلح.
تجلس على الأرض في الوسط تماما ،غير آبهة، وكأنها متأكدة أننا سنخرج من غرفنا المطفأة الخرساء للتو .. وكالعادة تبدأ في تحضير الشاي على طريقتها الخاصة، تضع كمشة من الحبيباته الخضراء في إبريق الشاي الفضي”البراد”،تنطق اسمه يتفخيم الراء حتى يكـاد النصب يصبح رفعا. يقبع البراد في وسط السينية رافعا أنفه بشموخ ، وكأنه ديك يقف منتصبا على أشده . تشلله بقليل من الماء المغلي ، تتركه قليلا ثم تشلله مرات أخرى، مطوحة ذراعها كله تلوح بالبرّاد في الهواء ،حتى تكاد تسمع حشرجة حبيبات الشاي بداخله، و تعيد الماء ليغلي فوق المجمر .. للماء المغلي الفوار سحر لدى “الحاجة عذرا”، أشعر أن بعينيها لذة قصوى وفرحا عارما. لا تفتأ تنظر إلى الماء المغلي وهو يئن فوق النار ..تضع قطع السكر الكثير ثم تنتظر قليلا قبل أن تقلبه في كأس كبيرة عدة مرات، لتعيده إلى البرّاد وتملأه أخيرا حتى التمام بالماء المغلي ،تفكك ربطة النعناع المنظف ذي الأوراق الحرشاء بتوأدة وحب واعتناء ، وكلما حركته فاضت منه رائحته المهدئة ، ثم تضعها جانبا وكأنها تريد أن تنعش رائحتها المكان قبل أن تدسها أخيرا في برّاد الشاي يزداد لمعان فضته مع الحرارة ،وتضيف في الأخير نبتة “الشهيبة ” ذات الرائحة النفاذة المنعشة. ترمي بين الحين والآخر نظرة إلينا ونحن جالسات حولها على الأرائك البنية في ثياب نومنا، بعيون متعبة ووجوه شاحبة واجمة منكسرة ، تبتسم و هي تقلب السواك بين أسنانها الناصعة .. أفكر أحيانا أن الحاجة عذرا من خلال ابتسامتها المبهمة تلك، تقرأ ما بدواخلنا ،وتعرف ما قمنا به خلال النهار دون حتى أن نخبرها بشيء من ذلك.
منذ أن أقمت في بيت الحاجة عذرا، وأنا لا أزداد إلا رهبة من هذه المرأة المدهشة الغامضة الضخمة ، ذات الوجه ذي الجمال النادر بملامحه المنسجمة في تناسق غريب ، الآتية من الجنوب البعيد الحار . في صوتها حشرجة وكأن بقايا الرمل لا يبرح حنجرتها القوية، يتململ مع كل جملة تنطقها. لا أدري لماذا آخذ كل ما تقوله على مأخذ الجد ، على الرغم أنها لا تتكلم إلا وهي هازئة ساخرة ،فلا تعرف هل أن ما تقوله حدث فعلا ،أم أنها تطعّمه بخيالها الخصب الواسع وسع الصحراء التي جاءت منها. يبدو لي أحيانا أن الحاجة عذرا سرب خيام متراصة من أسرار ،ملونة متينة الأوتاد.
في الحقيقة ” الحاجة عذرا” لا يأسرها شرب الشاي كثيرا ،مع العلم أنها لا تستغني عن سحره أبدا ، بقدر ما تعشق طقوس إعداده ،وتوزيع كؤوسه ،والتمتع برؤية راشفيه و ببهجة المتمتعين بلذته.
تأخذ الكأس الصغير المذهبة أطرافه بعد أن توزع علينا مثله. لا تملأ الحاجة عذرا الكؤوس إلا للنصف أو بالكاد، إلا أن الكؤوس الشفافة الهشة الرقيقة تلك ،تتدافع رغوة فضية حتى أطراف رؤوسها.
تضحك الحاجة عذرا وهي تتأمل الكأس، ثم وكأنها فجأة تغيب بعيدا وتنطق بكامل لا وعيها:
-وأنا صغيرة ، كان جدي سيدي محمد بن امبارك يرفع البرّاد عاليا جدا، ثم يهوي بسرعة بالسائل على الكأس ،كي تشتد الرغوة فيه و تزداد و تتناسل..وكان يبالغ في شدة حركته تلك حين يملأ كأسي من دون الحاضرين، ليمتلئ بالرغوة الفضية فيقول لي بزهو:
-آه يا عذرا .. ستصبحين ذات مال كثير حين تكبرين .. انظري الدراهم الكثيرة. ..يقول ذلك وهو يشير إلى فقاعات الرغوة الفضية المتلاطمة وهي تفيض على شفاه الكأس و قد امتلأ حتى التمام .
-.. لم تكذب تنبؤات جدي سيدي محمد بن امبارك .. الحمد لله الآن لدي أملاك و مال كثير يكفيني .
ثم تتنهد حتى نكاد نلمح النار تندلع في صدرها، ثم لا تلبث ترمش عينيها كمن يستفيق من حلم ،وتبتسم وكأنها تعتذر.
يظل الكأس الصغير بيدها ،تتأمله بحنان، وتشرب بين الكلام والكلام جرعات صغيرة، هي لا تريد شرب الشاي لوحدها.
هو احتفال بالحياة كلما جاءت الحاجة عذرا لتحضّر لجلسة الشاي، تجعلنا روائح العطور نسافر بعيدا كلما انزلقت ككل جلسة شاي في الحديث عن المراتع البعيدة العزيزة لطفولتها وشبابها، ولعل ذلك يذكرها بطقوس إعداده وتناوله ،وخاصة انتظاره ..انتظار جماعي لاحتفال بمتعة جماعية،و الحق يقال إنه جو تصنعه الحاجة عذرا بمنتهى الدقة والبراعة، تستحضر جغرافيتها الصحراوية التي تحن إليها تستقدمها من الذاكرة ،وتعيشها بجزئياتها الصغيرة من أصوات ووجوه وألوان ..إنها بيننا ، تأسرنا بأحاديثها، وتعمل أن يظل انتباهنا مستيقظا لسماعها ،لكنها بعيدة جدا ونحن مجرد كمبارس .
المستأجرون لشقتها شركاء لها في إيقاظ الذاكرة، وهمز المخيال المليء بعوالم أخرى تختلف في كل شيء عن هذه المدينة الباردة.
إنها لا تشركهم جنونها الدفين ب”التاي” كما تنطقه و طقوس جلساته الطويلة فحسب ، بل تخلق طقسا قطعة من العالم الصحراوي الذي تحن إليه بعد أن افتقدته منذ زمن .بدورنا تزيدنا جلسات الشاي دهشة بعد أخرى..إنه إدمان الشاي وما له .
- قعدة التاي مقدسة يابنات !
نجلس في البدء حولها صامتات ،بأثوابنا المسائية تتهدل حول أجسامنا النحيلة المتعبة ، والنمل يتكاثر في أسفل الأقدام من كثرة السعي في هذه المدينة الغولة التي نتشارك جميعنا في غربتنا فيها، كل واحدة في داخل رأسها دخان اليوم الطويل في البحث عن المبتغى، يتصاعد في التواءات قليلا قليلا مثل أفعى راقصة.
لا يبدو أن «الحاجة عذرا” تنتظر منا شيئا، ثم إنني لست أدري إن كانت تشفق على حالنا ،أو تتسلى برؤيتنا عابسات يائسات ،وقد بدت أحسن حال منا ،رغم شبابنا و قدر الجمال لكل واحدة منا.
سعادتها القصوى حين تبدأ بصب الشاي في الكؤوس الصغيرة المذهبة الأعناق، وقد رفعت الإبريق الفضي شامخ الأنف عاليا عاليا جدا ،حتى تخاله معلقا في السقف ،فيسيل الشاي الأصفر المتلألئ المتراقص في الهواء ، وكأنه شعاع أو شهاب يهوي نحو حتفه . لا تخطئ الحاجة عذرا مرماه أبدا ،ولا تتسرب أيه نقطة منه خارج الكأس الصغير، لتلك الحركة بهجة تدخلها إلى نفسي ، فيتفتت مزاجي العكر فجأة وأبتسم. ومثلي تشق الابتسامة وجهي رفيقتي العابستين إلى نصفين .
تمتد جلسة الشاي طويلا ،وعلى دفعات ومراحل، بمنهجية فائقة الدقة، تملؤها الحاجة عذرا بأخبار نساء ورجال أهل الصحراء ، عشقهم وزواجهم ،وطلاقهم ، وولاداتهم، ورقصاتهم ، واحتفالهم بمواسم النجوم، والأولياء الصالحين ،ورحلاتهم ، وعاداتهم ،وسهراتهم تحت سماء لا مثيل لصفائها ولشساعتها وقربها، ووصف ليومياتهم في دقائقها، حديثهم الأساسي عن الماء وتوزيعه بالقسط عن طريق نظام “الفوغرات”، الطريقة المتفردة في العالم لتوزيع هذه المادة العزيزة بالعدل على ناس الصحراء،و تحدثنا عن الفرح السائد في البيوت .. لست أدري لماذا لا تختار الحاجة عذرا إلا الحكايات السعيدة ، كل شيء تتحدث عنه يملؤه عبق الفرح. كلما استرسلت في حديثها بصوتها الجهوري الهادئ الذي تميزه بحة وكأن الحروف تخرج من أنفها، إلا وتلاشت غيوم الكآبة عن قلبي، خاصة حكايات الحب ،والغدر، وحيل النساء ،وأخبارهن، و أسرارهن الغريبة ،التي لا يعرف منها الرجال شعرة واحدة ، مهما أوتوا من دهاء.
كثيرا ما تختم جلساتنا المؤنسة ، فتعزف على آلة الإمزاد ذات الوتر الوحيد، يخرج آهات متواصلة ،تضع الآلة في حجرها ثم تمرر القوس الصغير ،وبصوتها المتهدج نصف النائم، نصف الغائب ، تغني ..
في البدء، لم أستسغ هذا النوع من الموسيقى و الغناء، أنا التي تربت أذني على أغاني الصخب والصياح، ولكن مع تردادها وسماعها، أضحيت أشعر بحركة لذيذة في صدري ، ورجفة حين يئن هذا الوتر الوحيد في حجرها..مزيج من الرهبة والنشوة والإعجاب . ثم وقعت في غرام هذه الآلة الغريبة فأردت أن تكون لي واحدة ألمسها وأتأملها عن قرب متى شئت .ذات يوم ذهبتُ عند بائع الأدوات الموسيقية في أكبر شارع في المدينة، محل ضخم وفاخر يحتوي على عدد كبير من الآلات الموسيقية الجميلة ،فقلت له بثقة :
- أريد آلة الإمزاد من فضلك .. !
لم يتردد أن يتفرس في وجهي عن قرب ثم ضحك مني هازئا ، هازا رأسه الضخمة يمنة ويسرة:
- واش هذا .. عمري ما سمعت به !؟؟
لكنني على الرغم من وجهي الذي احمر من المفاجأة وربما الغضب .. كررت أمام وجهه:
الإمزاد .. الإمزاد .. الإمزاد نتاع الطوارق. !
ثم خرجت وأنا ألوح بذراعي من قلة الحيلة .
فطنتْ الحاجة عذرا إلى أن من أحاديثها التي تشدنا إليها أكثر ،هي تلك التي تتناول سير الرجال وعلاقتهم بالنساء ،وما يدور في كواليس النساء خاصة من تدابير عفاريتية للحيل.. فتسترسل سخية في أوهجها تشويقا وإثارة ،مفصلة، مؤكدة ،محللة ،معلقة .. لم تكن الحاجة عذرا لطيفة مع الرجال على الرغم من إعجابها الكبير بهم ، واهتمامها بأخبارهم الصغيرة والكبيرة ..وحين تبدأ بوصف أحد منهم فإنها تفتت جسده بالقول والمعني إلى تفاصيل لا تدركها غير عارفة بأمورهم الدقيقة، وكانت تسميهم “الذْكُورَا”.
- أنا اللي نعرفهم الذْكُورَا هاذوك .. أنا اللي نفهمهم وهي طايرة .. !
في آخر كل سهرة، تتعالى ضحكاتنا حتى لتكاد تشق سقف الغرفة .. ليس هذا فحسب ،بل نكاد نشعر وكأن يومنا الهالك لم يذهب سدى، وقد اجترحنا منه ما يكفي من الانتصار على الرتابة والفشل ، وأشياء أخرى ،في هدف كل واحدة منا.
في بداية الأمر، لم نكن نستسيغ الدخول المفاجئ للحاجة عذرا إلى الشقة، كنا نشعر أنه يكفي أننا ثلاثتنا في البيت ،فبالكاد نتحمل بعضنا البعض ، فلا يجب أن تضيف حضورها اليومي الثقيل، لكن والحق يقال، وبعد فترة ،صرنا نحبذ مجيئها ،و على شوق ننتظره لكسر رتابة المساء بل النهار كله .ثم إنها لا تتدخل أبدا في حياتنا الخاصة، ولم تسأل إحدانا مرة عما تفعله في الخارج طوال النهار .. يبدو أن الحاجة عذرا لا يهمها الإطلاع على أخبارنا ، بل يهمها أن نستمع إليها لا غير ، إنها تحتاج إلى من ينصت إلى حكاية حياتها الغريبة الغنية بالأحداث ، التي لا تكرر سردها ، ولم يحدث أن سمعنا قولا لها مرتين ،حتى إننا ،أحيانا، نشك في حقيقة بعض التفاصيل العجيبة في قصصها ،إلا أن طريقتها المتقنة في الحبكة ،و التدقيق ،والتأثيث بذكر الأسماء والأماكن والتفاصيل والأحداث والتواريخ ،تجعلنا نتنفس الصعداء ،ونحن نكاد أن نصير متأكدات على أنها لا تضحك على ذقوننا ..بالكاد ..
يا إلهي ..ما هذا الجيش كله الذي عرفته ” الحاجة عذرا ” من الناس وخاصة من الرجال.
وهل كل تلك القصص الغريبة في علاقاتها مع “الذْكُورَا ” كما تسميهم ، ولا تدخر جهدا في التفنن حين قصها علينا حقيقية ..؟
وهل هي أيضا مثل أحوالنا قصدت هذه المدينة بحثا أو هروبا أو انتقاما من أحدهم ..؟
على كل حال للتفاصيل في حكاياتها عن الذْكُورَا أشياء تولد فينا الرغبة في التصديق أنها فعلا حقيقية .
” الحاجة عذرا ” ابنة الطوارق، جاءت إلى هذه المدينة الساحلية الرطبة ذات صيف، آتية من أقصى الجنوب رفقة خليجي وسيم ،حضر و بالصدفة حفلة طلاقها، ونتيجة لعلاقاته القوية بذوي النفوذ في البلد ،أسكنها حيا راقيا لا يصل إليه العاديون .
-والله العظيم يابنات سآخذكن..ذات يوم لزيارة داري بنادي الصنوبر!..
أخبرتنا أنه بعد أن تم طلاقها من آخر أزواجها ، بسبب عدم إنجابها له،شعرت أنه بدأ يتلكأ ويبدي الامتعاض من محنته ، فلم تتردد في الانفصال عنه، وتبعا لعادة الطوارق في الاحتفال بالمطلقة ، لم تخرج عذرا المطلقة الشابة عن العادة العتيقة ،فأقامت حفلة جميلة صاخبة، حضرها كبار القوم وصغارهم ،ولم تستثن في دعوتها أحدا . وفي الحفلة التاريخية تلك، صادف وجود رجال من بلد خليجي في المنطقة، يقيمون لفترة بغرض ممارسة هواياتهم في صيد الغزلان ،والظباء ،وحيوانات الصحراء الشاسعة الغنية بكل شيء من ثروات باطنية وظاهرية حية يزخر بها البلد ..
وكأنها تلعن وجودهم هناك ،لا تتردد الحاجة عذرا في تبيان اشمئزازها، أفضت لنا أنهم يقومون باستغلال كل شيء دون حرج، وكأنهم في بلدهم ، أو أنهم اشتروه بأموالهم الطائلة. ثم أخبرتنا هامسة وكأنها تسر بشيء خطير :
- إنهم أصدقاء الرئيس وخيرُهُم سابق عليه ، يقال إنهم استقبلوه في ديارهم قبل ركوبه كرسي الرئاسة،واليوم يريد أن يجازيهم ويرد جميلهم ،فجعل تحت تصرفهم الصحراء و الهضاب العليا، ملعبا لهم يحطون بطائراتهم الخاصة ،وسياراتهم الضخمة الفخمة ،وأسلحتهم للصيد وصقورهم على أكتافهم.
- لماذا لا يجازيهم من جيبه .. والله العظيم زْمَر ..
تصف الحاجة عذرا وهي القديرة على الوصف حفلتها ، كانت لا تنسى، ولا مثيل لها بين حفلات الطلاق في تاريخ النساء الطارقيات . فقد نصبت خيمة كبيرة من وبر الجمال الحر ،بحضور جميع سكان المنطقة، ولم تتوان عن دعوة هؤلاء الخليجيين ،الذين كانوا يجوبون المكان بحرية، بعدما جذبهم صوت الموسيقى والرقص والزغاريد، جاؤوا لغرض الاكتشاف والتطفل ،خاصة وأنهم استغربوا ،وتضاحكوا كيف لمطلقة أن تقيم حفلة طلاقها .
-شلون يصير هاذ .؟
بلغت سمعها تلك الجملة.. تقول الحاجة عذرا وهي رافعة حاجبيها، تدحرج عينيها يمنة ويسرة وعلى وجهها ابتسامة ساهمة، إن فكرة جهنمية جابت ذهنها فجأة ، فأقسمت اليمين أن تصيدهم، فكما جاؤوا ليصيدوا، فذنبهم على جنبهم، بدورها سترمي بشباكها الخاصة وليذهب إلى الجحيم مضيفهم، وهم ما هم عليه من الثراء والبذخ الذي ما انفكوا يظهرونه ويتمظهرون به، وكأن بهم ستستسلم لهم الرمال وغزالات الصحراء بكل أنواعها .
-تعالوا سأورّي لكم . !
نعم .. حفلة طلاقي لم تشهد مثلها سماء الصحراء من قبل .. كان الغناء يصل عنان السماء المفتوحة على الغيب والغياب ، والرقص في أوج جنونه، ورائحة البخور والحناء تتسرب إلى أبعد خلية في أجسام الحاضرين..
حَطِّيتْ عيني على واحد منهم .. كان أوسمهم و أجملهم وجها وجسدا، عيني العارفة عرَّتْه في طرفة رمش .. علمت في ما بعد أن أباه تزوج أمه من بلاد تدعى السويد، بعد أن التقى بها في شاطئ مخصص للعراة هناك، فأسقطَتْه من علياء شمسه إلى ثلجها.. ثم تزوجها وأخذها إلى بلده .
الحق يقال كان آسرا ،تتداخل سمرته النحاسية بما يشبه حليب النوق الرائب، وشفتاه تلمعان من بعيد مثل تمرة براقة وسط عرجون معلق في أعالي نخلة. !
وتسترسل الحاجة عذرا في ضحكة جهورية متصلة القهقهات ، وهي تلوح بذراعيها في الهواء، قبل أن تصفق يدا في يد، بينما جسمها الضخم يموج في مكانه.
بحساسيتها الطارقية العليمة، اختارت” الحاجة عذرا ” الوقت المناسب و اللحظة القاتلة بعد أن سخن الحفل، في ذروة لحظاته النارية، ترجلت عن جلستها الملوكية ،فارتفعت الزغاريد.. وكيف لا.. أليست هي عروس الحفل؟!،
توسطت الجميلة عذرا المحتفى بها الحضور ،فوسعوا لها ساحة الرقص، باعدوا بينهم حتى فرغت الحلبة لها وحدها ،وانطلقت في رقصة يمامة برية زرقاء ، يشع ثوبها الأزرق اللماع كأن المرايا تسكنه ، أسقطت منديلها الأسود الفاحم من على شعرها المحنى ، اشتدت الموسيقى سرعتُها ،فازداد توحشها الجميل .. كانت ترقص بكل شيء يستطيع أن يتحرك في جسمها، من شعرها المحنى ،إلى حاجبيها إلى أخمص قدميها..تدوس الأرض بالكاد ..حتى التراب كأنه استفاق تحت خطواتها ،كان يشمها ويتعرف على أجزائه الواقفة منه فيها ،يتناثر ويمد ذراته شفاها راغبة في لثمها، متسربا من بين الحُصُرِ و الزرابي الحمراء المبسوطة .
كانت ترفرف بأطراف أصابعها في رقصتها الطارقية المدهشة، وكأنها تسبح بحمد خالقها .. ثم اقتربت من صيدها ..اقتربت منه كثيرا .. لم تلمسه، بل أرسلت بحرارة جسمها المتعرق حوله، كانت روائح الحلي من الأحجار العطرية، والعطور القوية الملتصقة بالجسد، تتحلل إلى ذرات تحت حرارة الطقس وطقس الرقص..تملأ عينيه، وفمه ، وخياشيمه، ورئتيه ،وبطنه ،وكيانه ،و لتبلغ حتى أعمق جزء فيه.. لم تلامسه .. اقتربت منه أكثر، ورفعت ذراعيها قريبا جدا منه دون أن تنظر إليه ، ثم أرسلت من بين أهدابها برقا حادا قاصما.
- ضيقتُ أهداب العين مني هكذا.. مثل قوس على السهم، ورميته فأصبته. !
دارت حوله مثل زوبعة وكأنها تطوقه بنارها ..كاد أن يغمى عليه.. لم تلامسه أبدا.. اقتربت، حتى خيل له أنهما يتداخلان..كأنها تسمع تنهده وأنينه.. لم يعد الحاضرون الكثر حاضرين.. غياب هم جميعهم.. لم يعد يرى أحدا غير هذه الطارقية ترقص بحفلة طلاقها .. بدا الغريب الثري القادم من شبه الجزيرة متشنجا، كل ما فيه أضحى مشدودا على آخره.. مد يده المرتجفة دون إرادة منه.. إلا أنها ابتعدت راقصة ،ثم جلست بهدوء في مكانها العالي وسط الزغاريد ،وقد تأكدت أن المهمة قد انتهت ،و أنها أخذت لبه وضعته تحت الوسادة.. هكذا .
ثم ألقت إليه نظرة تؤكد انتصارها عليه. كان الوسيم يقف مشدوها مهزوما ، وحيدا ،مفردا ،ذراعاه منسدلتان .وحبات عرق تتمرغ على السمرة النحاسية لجبينه وصدغيه..شفتاه اللتان تشبهان تمرة يانعة على شفة السقوط ، اشتد بريقهما، وكان على وجهه تعبير لمن أضاع للتو شيئا ثمينا كان ملكه قبل لحظات..مخبئا بين جوانحه كان.
و في الغد..وكما كانت تنتظر ،بعث الوسيم إليها بمرسول ، وبهدايا ثمينة، لكن إجابتها كانت قاطعة .
___
ربيعة جلطي شاعرة وروائية من الجزائر
rabia.djelti@hotmail.fr
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.