عالم بلا خرائط هو كتاب سياسي رومانسي درامي خيالي واقعي هزلي ؟
كل ذلك في كتاب واحد
التعبير والوصف للأحداث والشخصيات غاية في الروعة لتقود القاريء ليتسائل كيف من الممكن لكاتبين أن يصهرا أفكارهما و أحلامهما معا في بوتقة كتاب واحد سلس ؟؟؟
كتاب تفكر فيه بعد أن تنهيه و تعود لتقرأه مجددا ...
كتاب يترك الكثير من الأسئله وعلامات الإستفهام ؟
نسختي التي أملكها إشتريتها ككتاب مستعمل منذ أكثر من 8 سنوات
فكرة إمتلاك كتب كانت لغيرنا في الماضي تزيد من قيمة الكتاب بنظري
سآتيكم بالمزيد قريبا من سطور عالم بلا خرائط
عَلَمْ من اعلام الرواية العربية المعاصرة غاب عن واحد وسبعين عاما عقب صراع مديد مع المرض. عبد الرحمن منيف روائي الصحراء والمدن والمنافي والبحث المضني عن الذات والهوية, شاء له القدر ان يولد في الاردن من أب سعودي وام عراقية, وان يحمل الى آخر لحظة من حياته هموم أمّته التي استحوذت على كتاباته الروائية والسياسية, وحتى الاقتصادية اذ كان متخصصاً في قضايا النفط ويحمل دكتوراه في هذا المجال, وله فيه كتب ودراسات.
عبد الرحمن منيف المثقف, المتعدد, الروائي والباحث والمفكر السياسي, انتُزعت منه جنسيته السعودية عام 1963 لتعاطفه المعلن مع الفكر الماركسي ;كان كاتباً ومفكراً ذا عقل نيّر, منفتح, متقدم, نقدي, وجريء في كشف عاهات الامة وآفاتها, وفي فضح التخلف والفساد واهدار الثروات الهائلة التي ينعم بها, على نحو ما فعل منيف في خماسيته الملحمية "مدن الملح" معرّيا واقع الارض التي ينتمي اليها وتحيا في وجدانه, ولعل عنوان احد اجزاء هذه الخماسية "بادية الظلمات" يختزل معاني كثيرة من رؤيته الروائية النقدية لتحولات بيئته الاصلية المنتقلة من البداوة الى المجتمع النفطي.
لم تفارق السياسة عبد الرحمن منيف حتى وهو يكتب الرواية, شغفه الاول والاخير منذ روايته الاولى "الاشجار واغتيال مرزوق" (1973) التي اصدرها في بيروت, احدى مدن منافيه المتعددة مع باريس وبغداد والقاهرة ودمشق حيث عاش منذ 1986 ويوارى في ثراها الثلثاء المقبل. وهو روائي المنافي بامتياز بل له كذلك "الكاتب والمنفى" الذي يختصر معاناة الكتّاب العرب الذين فرض عليهم العيش خارج اوطانهم, في اقتلاع قسري لجذور انتمائهم وحنينهم. كما له "سيرة مدينة" الذي يعتبر من اجمل المؤلفات العربية عن العلاقة بالمكان وتأثيره في الكاتب.
عاش عبد الرحمن منيف من اجل الكتابة, المقرونة لديه بالهمّ السياسي, انما السابقة عليه حرفة وشغفاً ومتنفساً للتعبير عن قهر مزمن في الازمنة العربية الرديئة. علماً ان الرواية التي له فيها محطات وعناوين كبرى مثل "ارض السواد" (ثلاثة اجزاء ملحمية عن العراق) و"النهايات" و"سباق المسافات الطويلة" و"عالم بلا خرائط" (روايته المشتركة مع جبرا ابرهيم جبرا) و"حين تركنا الجسر" و"شرق المتوسط", وسواها العديد,لم تصرفه عن الانغماس اليومي في القضايا العربية في عالم عربي متداع يوما فآخر ولا رادّ لهزائمه المتوالية, فكتب المقالة السياسية للصحف ولم ينقطع, ولم يفارقه همّ الامة التي ينتمي اليها انتماء كاتب مثقف ملتزم وواع, وظل حاضرا, كامل الوعي واليقين, رائيا في الم وحزن الى المصائب والكوارث المتلاحقة التي تضاعف من تخلّفنا وانسكاراتنا حيال انظمة الداخل الفاسدة وقوى الخارج العدوّة والمستبدة. لذا كان كتابه "الديموقراطية اولا, الديموقراطية دائما" (1991) نوعا من الرؤيا التي سبقت الدعوات والمعزوفات الراهنة حول الديموقراطية, عقدا ونيفا من السنين.
خارج هواجس الامة والوطن والسياسة والانتماء, الدائمة الحضور في رواياته وكتاباته الغزيرة, لم يكتب عبد الرحمن منيف على الارجح سوى كتاب واحد موضوعه الحب فقط, عنوانه "قصة حب مجوسية" وفيه بحث عن الذات من خلال علاقات عاطفية وجسدية مع العديد من النساء, بحثا عن امرأة يسمو في عشقها الى ارفع من الحب المثالي الذي يسعى اليه, واذ يعثر على تلك الامرأة يلفي نفسه مفتقدا اللغة المشتركة معها لكونها متزوجة وتخص رجلا آخر. وهذه الرواية يعمل المسرحيّ اللبناني طلال الدرجاني على اقتباسها للخشبة منذ فترة, بموافقة من الروائي الراحل, الذي لم يعش الى حين رؤية كلماته مجسّدة على خشبة المسرح.
*
في شهر آب من عام 1920 ضجّ حي (الخان)الذي يقع في مدينة بيت لحم بصوت بكاء طفل جديد لعائلة إبراهيم جبرا،ذلك الرجل الفلسطيني الذي يمضي إلى عمله باكراً ويعود في المساء بعدما أخذ التعب من جسده ما أخذ. يعيش مع زوجته وولديه في بيت بسيط للغاية ما يميزه تلك البئر الكبيرة التي تقف بجانب البيت. أخذ جبرا (الطفل) يكبر بتوالي الأيام والسنين، إلى أن أصبح قادرا على الركض واللعب مع أقرانه، و الجلوس لسماع قصص وحكايات أبيه التي كانت تروى له ولأخوته.
اتسمت طفولة جبرا بالشقاوة والشعوذة البريئة، بعيدة عن هموم الحياة التي كانت تضايق أسرته، يعدو بين أحياء مدينة بيت لحم ربما يجد شيئاً جديداً لم يكتشفه بعد أو يصادف أصدقاءه في إحد الشوارع. لم يكن جبرا بالطفل الهادئ بل كان دائم الحركة ومشاغباً يثير المتاعب التي كانت تنتهي دوماً بالتوبيخ أو بالضرب من قبل أمه هذا إذا لم يكن قد فرّ خارج البيت بعد.
دخل المدرسة وهو في الخامسة من عمره لكنّه فضل اللعب عليها، وأخيراً أي في عام 1929 دخل جبرا مدرسة ( بيت لحم الوطنية) حيث يتعلم أخوه الكبير( يوسف).كانت هذه المدرسة بالنسبة لجبرا بداية خروجه الحقيقي للحياة، فكوّن دائرةً جديدة من الأصدقاء، بالإضافة إلى معلميه الذين كانوا يزرعون في نفوس طلابهم حب اللغة العربية، مثل: خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي الذي كان يوزع على طلابه كتيبات جمعت بين أوراقها ضروباً من الشعر العربي القديم والحديث،فجذب ذلك جبرا وأخذ يبحث عن المزيد،فحفظ جبرا الكثير من الشعر،وهو الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره بعد.
بعد عدة سنوات انتقل جبرا إلى الكلية العربية في القدس حيث كان يطالع ويدرس بشغف وإلحاح طوال النهار، ثم طوال الليل. كانت الكلية العربية من المؤسسات المدهشة التي تجمع فيها الفتية المتفوقين في المدارس الحكومية في فلسطين كلها،ابتداءً من سن الخامسة عشرة ، فيدرسون فيها سنتين أو ثلاث على أساتذة قديرين بإشراف الأستاذ سميح الخالدي، ليتخرجوا معلمين أو طلاب بعثات إلى الجامعة الأمريكية في بيروت أو جامعات إنكلترا،إذ لم يكن في فلسطين كلها يومئذ جامعة واحدة.
وصل جبرا إلى إنكلترا وأمضى سنته الدراسية الأولى من عام 1939-1940 في جامعة اكستر في جنوب إنجلترا،وأخذ جبرا في الأشهر التسعة الأولى من حياته هنالك بشراء الكتب بشكل يومي وبالجملة بالإضافة إلى ازدياد دائرة جبرا اتساعاً في المحيط الجامعي، فالتقى بطلاب وطالبات يجمعون إلى متعة النقاش متعة الصحبة الجميلة التي كانت في معظمها جديدة إلا أنه كان يجد لذة في ذلك.
تخصص جبرا في الأدب الإنجليزي في سنته الثانية بعد دخوله جامعة كامبردج، وكان تركيزه على الشعراء ولا سيما المحدثين، فقد كان جبرا مولعاً بالحركة الشعرية الرومانسية، فوقع تحت تأثير سحر الشاعرين (برسي شلي وجون كيتس)،إلى جانب اهتمامه بتاريخ الأدب الإنكليزي.
اشتدت الحرب العالمية الثانية، إلا أن جبرا ظل محافظاً على علاقاته التي أخذت بالتنامي وازداد نشاطه في الدراسة والعمل والفنون،لكن فلسطين لم تغب عن باله لحظة، ولا كانت هموم أسرته في تلك الفترة العصيبة تغيب عن باله
نال جبرا بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة كامبردج في عام 1943، وبعد سنتين نال الماجستير في التخصص ذاته.عاد جبرا إلى فلسطين،مخلفاً وراءه ذكريات جميلة وشفافة. وأخذ يدرس الأدب الإنكليزي في الكلية الرشيدية في القدس، بالإضافة إلى عمله كمدرس فقد أنشأ مع بعض هواة الرسم (نادي الفنون) حيث كان يلتقون كل سبت في مقر جمعية الشبان المسيحية،و يلقون المحاضرات المصورة عن الفن أو يقيمون ندوة شعرية موسيقية، وبقي ذلك النادي قائماً إلا أن شتتتهم النكبة عام 1948.
في أواخر أيلول من عام 1948، انتدب جبرا رسمياً للتدريس في المعاهد العليا، أي الكليات الجامعية في العراق، فغادر أهله ماضياً إلى بغداد.عين مدرسا للأدب الإنجليزي في الكلية التوجيهية، التي كانت قد أسست للتو، وهنالك التقى بأساتذة فلسطينيين وشخصية أجنبية بارزة ألا وهي (دزموند استيوارت) الذي أصبح فيما بعد صديقاً عزيزاً لجبرا،وهو الذي أوقف الكثير من كتاباته وموهبته الإبداعية لأكثر من ثلاثين سنة على القضايا العربية وبوجه خاص على القضية الفلسطينية ولكنه توفي إثر تناوله للسم المدسوس في طعامه.
في عام 1951 كانت لجبرا مشاركة فعالة في تأسيس جماعة (بغداد للفن الجديد) مع نخبة من الفنانين العراقيين المجددين أبرزهم جواد سليم، وقد كانت هذه المشاركة تعبيراً فعلياً عن روح جديدة وتجسيداً للحياة الثقافية شهدت تلك السنة انفتاحا عريضا على بغداد بشكل لم يتوقعه، ففيها راح يتعرف على أناس كثيرين، في شتى مجالات الحياة الثقافية. لقد جعل هذا الانفتاح جبرا في نشاط دائم، موزعا بين مهام التدريس وبين متعة اللقاءات بالإضافة إلى الكتابة والرسم والمحاضرات العامة في أماكن مختلفة والترجمة أحياناً.
عام 1952 سافر جبرا إلى الولايات المتحدة والتحق بجامعة هارفرد في زمالة دراسية للنقد الأدبي، ثم عاد إلى بغداد وعمل بشركة نفط العراق بمنصب إداري بالإضافة لاحتفاظه بعمله كأستاذ بجامعة بغداد حتى عام 1964. تفرغ بعد ذلك للكتابة والإبداع، وقضى بقية حياته في العراق بصحبة زوجته (لميعه عسكري)التي كانت محاضرة بجامعة بغداد، حيث التقى كلاهما ببعض عدة مرات، حتى وقع أحدهما في غرام الآخر، كان لزوجته(لميعة) تأثير مباشر في كتاباته وأعماله الأدبية و الفنية.
انطفأت روح جبرا في عام 1994، وأخذت معها موكب الحب والأنس، والوفاء والفهم ورحابة الصدر والرقة والإحساس والعذوبة واللطف،والألفة والتواضع، والذاكرة المدهشة التي استمرت قوية حتى آخر أيامه.
كل ذلك في كتاب واحد
التعبير والوصف للأحداث والشخصيات غاية في الروعة لتقود القاريء ليتسائل كيف من الممكن لكاتبين أن يصهرا أفكارهما و أحلامهما معا في بوتقة كتاب واحد سلس ؟؟؟
كتاب تفكر فيه بعد أن تنهيه و تعود لتقرأه مجددا ...
كتاب يترك الكثير من الأسئله وعلامات الإستفهام ؟
نسختي التي أملكها إشتريتها ككتاب مستعمل منذ أكثر من 8 سنوات
فكرة إمتلاك كتب كانت لغيرنا في الماضي تزيد من قيمة الكتاب بنظري
سآتيكم بالمزيد قريبا من سطور عالم بلا خرائط
عَلَمْ من اعلام الرواية العربية المعاصرة غاب عن واحد وسبعين عاما عقب صراع مديد مع المرض. عبد الرحمن منيف روائي الصحراء والمدن والمنافي والبحث المضني عن الذات والهوية, شاء له القدر ان يولد في الاردن من أب سعودي وام عراقية, وان يحمل الى آخر لحظة من حياته هموم أمّته التي استحوذت على كتاباته الروائية والسياسية, وحتى الاقتصادية اذ كان متخصصاً في قضايا النفط ويحمل دكتوراه في هذا المجال, وله فيه كتب ودراسات.
عبد الرحمن منيف المثقف, المتعدد, الروائي والباحث والمفكر السياسي, انتُزعت منه جنسيته السعودية عام 1963 لتعاطفه المعلن مع الفكر الماركسي ;كان كاتباً ومفكراً ذا عقل نيّر, منفتح, متقدم, نقدي, وجريء في كشف عاهات الامة وآفاتها, وفي فضح التخلف والفساد واهدار الثروات الهائلة التي ينعم بها, على نحو ما فعل منيف في خماسيته الملحمية "مدن الملح" معرّيا واقع الارض التي ينتمي اليها وتحيا في وجدانه, ولعل عنوان احد اجزاء هذه الخماسية "بادية الظلمات" يختزل معاني كثيرة من رؤيته الروائية النقدية لتحولات بيئته الاصلية المنتقلة من البداوة الى المجتمع النفطي.
لم تفارق السياسة عبد الرحمن منيف حتى وهو يكتب الرواية, شغفه الاول والاخير منذ روايته الاولى "الاشجار واغتيال مرزوق" (1973) التي اصدرها في بيروت, احدى مدن منافيه المتعددة مع باريس وبغداد والقاهرة ودمشق حيث عاش منذ 1986 ويوارى في ثراها الثلثاء المقبل. وهو روائي المنافي بامتياز بل له كذلك "الكاتب والمنفى" الذي يختصر معاناة الكتّاب العرب الذين فرض عليهم العيش خارج اوطانهم, في اقتلاع قسري لجذور انتمائهم وحنينهم. كما له "سيرة مدينة" الذي يعتبر من اجمل المؤلفات العربية عن العلاقة بالمكان وتأثيره في الكاتب.
عاش عبد الرحمن منيف من اجل الكتابة, المقرونة لديه بالهمّ السياسي, انما السابقة عليه حرفة وشغفاً ومتنفساً للتعبير عن قهر مزمن في الازمنة العربية الرديئة. علماً ان الرواية التي له فيها محطات وعناوين كبرى مثل "ارض السواد" (ثلاثة اجزاء ملحمية عن العراق) و"النهايات" و"سباق المسافات الطويلة" و"عالم بلا خرائط" (روايته المشتركة مع جبرا ابرهيم جبرا) و"حين تركنا الجسر" و"شرق المتوسط", وسواها العديد,لم تصرفه عن الانغماس اليومي في القضايا العربية في عالم عربي متداع يوما فآخر ولا رادّ لهزائمه المتوالية, فكتب المقالة السياسية للصحف ولم ينقطع, ولم يفارقه همّ الامة التي ينتمي اليها انتماء كاتب مثقف ملتزم وواع, وظل حاضرا, كامل الوعي واليقين, رائيا في الم وحزن الى المصائب والكوارث المتلاحقة التي تضاعف من تخلّفنا وانسكاراتنا حيال انظمة الداخل الفاسدة وقوى الخارج العدوّة والمستبدة. لذا كان كتابه "الديموقراطية اولا, الديموقراطية دائما" (1991) نوعا من الرؤيا التي سبقت الدعوات والمعزوفات الراهنة حول الديموقراطية, عقدا ونيفا من السنين.
خارج هواجس الامة والوطن والسياسة والانتماء, الدائمة الحضور في رواياته وكتاباته الغزيرة, لم يكتب عبد الرحمن منيف على الارجح سوى كتاب واحد موضوعه الحب فقط, عنوانه "قصة حب مجوسية" وفيه بحث عن الذات من خلال علاقات عاطفية وجسدية مع العديد من النساء, بحثا عن امرأة يسمو في عشقها الى ارفع من الحب المثالي الذي يسعى اليه, واذ يعثر على تلك الامرأة يلفي نفسه مفتقدا اللغة المشتركة معها لكونها متزوجة وتخص رجلا آخر. وهذه الرواية يعمل المسرحيّ اللبناني طلال الدرجاني على اقتباسها للخشبة منذ فترة, بموافقة من الروائي الراحل, الذي لم يعش الى حين رؤية كلماته مجسّدة على خشبة المسرح.
*
في شهر آب من عام 1920 ضجّ حي (الخان)الذي يقع في مدينة بيت لحم بصوت بكاء طفل جديد لعائلة إبراهيم جبرا،ذلك الرجل الفلسطيني الذي يمضي إلى عمله باكراً ويعود في المساء بعدما أخذ التعب من جسده ما أخذ. يعيش مع زوجته وولديه في بيت بسيط للغاية ما يميزه تلك البئر الكبيرة التي تقف بجانب البيت. أخذ جبرا (الطفل) يكبر بتوالي الأيام والسنين، إلى أن أصبح قادرا على الركض واللعب مع أقرانه، و الجلوس لسماع قصص وحكايات أبيه التي كانت تروى له ولأخوته.
اتسمت طفولة جبرا بالشقاوة والشعوذة البريئة، بعيدة عن هموم الحياة التي كانت تضايق أسرته، يعدو بين أحياء مدينة بيت لحم ربما يجد شيئاً جديداً لم يكتشفه بعد أو يصادف أصدقاءه في إحد الشوارع. لم يكن جبرا بالطفل الهادئ بل كان دائم الحركة ومشاغباً يثير المتاعب التي كانت تنتهي دوماً بالتوبيخ أو بالضرب من قبل أمه هذا إذا لم يكن قد فرّ خارج البيت بعد.
دخل المدرسة وهو في الخامسة من عمره لكنّه فضل اللعب عليها، وأخيراً أي في عام 1929 دخل جبرا مدرسة ( بيت لحم الوطنية) حيث يتعلم أخوه الكبير( يوسف).كانت هذه المدرسة بالنسبة لجبرا بداية خروجه الحقيقي للحياة، فكوّن دائرةً جديدة من الأصدقاء، بالإضافة إلى معلميه الذين كانوا يزرعون في نفوس طلابهم حب اللغة العربية، مثل: خليل السكاكيني وإسعاف النشاشيبي الذي كان يوزع على طلابه كتيبات جمعت بين أوراقها ضروباً من الشعر العربي القديم والحديث،فجذب ذلك جبرا وأخذ يبحث عن المزيد،فحفظ جبرا الكثير من الشعر،وهو الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره بعد.
بعد عدة سنوات انتقل جبرا إلى الكلية العربية في القدس حيث كان يطالع ويدرس بشغف وإلحاح طوال النهار، ثم طوال الليل. كانت الكلية العربية من المؤسسات المدهشة التي تجمع فيها الفتية المتفوقين في المدارس الحكومية في فلسطين كلها،ابتداءً من سن الخامسة عشرة ، فيدرسون فيها سنتين أو ثلاث على أساتذة قديرين بإشراف الأستاذ سميح الخالدي، ليتخرجوا معلمين أو طلاب بعثات إلى الجامعة الأمريكية في بيروت أو جامعات إنكلترا،إذ لم يكن في فلسطين كلها يومئذ جامعة واحدة.
وصل جبرا إلى إنكلترا وأمضى سنته الدراسية الأولى من عام 1939-1940 في جامعة اكستر في جنوب إنجلترا،وأخذ جبرا في الأشهر التسعة الأولى من حياته هنالك بشراء الكتب بشكل يومي وبالجملة بالإضافة إلى ازدياد دائرة جبرا اتساعاً في المحيط الجامعي، فالتقى بطلاب وطالبات يجمعون إلى متعة النقاش متعة الصحبة الجميلة التي كانت في معظمها جديدة إلا أنه كان يجد لذة في ذلك.
تخصص جبرا في الأدب الإنجليزي في سنته الثانية بعد دخوله جامعة كامبردج، وكان تركيزه على الشعراء ولا سيما المحدثين، فقد كان جبرا مولعاً بالحركة الشعرية الرومانسية، فوقع تحت تأثير سحر الشاعرين (برسي شلي وجون كيتس)،إلى جانب اهتمامه بتاريخ الأدب الإنكليزي.
اشتدت الحرب العالمية الثانية، إلا أن جبرا ظل محافظاً على علاقاته التي أخذت بالتنامي وازداد نشاطه في الدراسة والعمل والفنون،لكن فلسطين لم تغب عن باله لحظة، ولا كانت هموم أسرته في تلك الفترة العصيبة تغيب عن باله
نال جبرا بكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة كامبردج في عام 1943، وبعد سنتين نال الماجستير في التخصص ذاته.عاد جبرا إلى فلسطين،مخلفاً وراءه ذكريات جميلة وشفافة. وأخذ يدرس الأدب الإنكليزي في الكلية الرشيدية في القدس، بالإضافة إلى عمله كمدرس فقد أنشأ مع بعض هواة الرسم (نادي الفنون) حيث كان يلتقون كل سبت في مقر جمعية الشبان المسيحية،و يلقون المحاضرات المصورة عن الفن أو يقيمون ندوة شعرية موسيقية، وبقي ذلك النادي قائماً إلا أن شتتتهم النكبة عام 1948.
في أواخر أيلول من عام 1948، انتدب جبرا رسمياً للتدريس في المعاهد العليا، أي الكليات الجامعية في العراق، فغادر أهله ماضياً إلى بغداد.عين مدرسا للأدب الإنجليزي في الكلية التوجيهية، التي كانت قد أسست للتو، وهنالك التقى بأساتذة فلسطينيين وشخصية أجنبية بارزة ألا وهي (دزموند استيوارت) الذي أصبح فيما بعد صديقاً عزيزاً لجبرا،وهو الذي أوقف الكثير من كتاباته وموهبته الإبداعية لأكثر من ثلاثين سنة على القضايا العربية وبوجه خاص على القضية الفلسطينية ولكنه توفي إثر تناوله للسم المدسوس في طعامه.
في عام 1951 كانت لجبرا مشاركة فعالة في تأسيس جماعة (بغداد للفن الجديد) مع نخبة من الفنانين العراقيين المجددين أبرزهم جواد سليم، وقد كانت هذه المشاركة تعبيراً فعلياً عن روح جديدة وتجسيداً للحياة الثقافية شهدت تلك السنة انفتاحا عريضا على بغداد بشكل لم يتوقعه، ففيها راح يتعرف على أناس كثيرين، في شتى مجالات الحياة الثقافية. لقد جعل هذا الانفتاح جبرا في نشاط دائم، موزعا بين مهام التدريس وبين متعة اللقاءات بالإضافة إلى الكتابة والرسم والمحاضرات العامة في أماكن مختلفة والترجمة أحياناً.
عام 1952 سافر جبرا إلى الولايات المتحدة والتحق بجامعة هارفرد في زمالة دراسية للنقد الأدبي، ثم عاد إلى بغداد وعمل بشركة نفط العراق بمنصب إداري بالإضافة لاحتفاظه بعمله كأستاذ بجامعة بغداد حتى عام 1964. تفرغ بعد ذلك للكتابة والإبداع، وقضى بقية حياته في العراق بصحبة زوجته (لميعه عسكري)التي كانت محاضرة بجامعة بغداد، حيث التقى كلاهما ببعض عدة مرات، حتى وقع أحدهما في غرام الآخر، كان لزوجته(لميعة) تأثير مباشر في كتاباته وأعماله الأدبية و الفنية.
انطفأت روح جبرا في عام 1994، وأخذت معها موكب الحب والأنس، والوفاء والفهم ورحابة الصدر والرقة والإحساس والعذوبة واللطف،والألفة والتواضع، والذاكرة المدهشة التي استمرت قوية حتى آخر أيامه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.