" اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام ،الذي هو أول جسم
إنساني تكون ،وجعله أصلاً لوجود الأجسام الإنسانية ،وفضلت من خميرة طينته فضلة
، خلق منها النخلة ، فهي أخت لآدم عليه السلام ، وهي لنا عمّة ،وسماها الشرع
عمة ،وشبهها بالمؤمن ، ولها أسرار عجيبة دون أسرار النبات".
محيي الدين بن عربي
وأخيرًا أعود أليك يا مبروكة بعد غياب طويل . غياب قسري. ملعون أبو
الغياب وأبو الفراق . ما أمرّها ! الشوق يقتلني.. وعلى كتفيّ محنة أيوب. صبرت
حتى عجز الصبر .اغتالوني وأنا أصب قهوة الصبح في الفنجان. قتلوني مرات عديدة.
نهضت من بين جثث الموتى كما قام المسيح.
هي خطوات وسألقى جسدي المتعب على صدرك مثل محارب عائد من الوغى
ليرتمي بين ذراعي أمه .. ذراعي زوجه!
قبلاً سأقبّلك ،لم يعرف الحب مثيلاً لها !
سوف تلسع جسدك حرارة أنفاسي المتقدة. نار مشتعلة منذ عقود. حرقت
جسدي وأضوته.
هل تحتاجين إلى لحظات أو دقائق لتتعرفي عليه؟ عليّ ؟ على ما تبقى
مني؟!
كانت الحرب سجالاً. كرٌّ وفرّ.
ذقت حلاوة النصر أكثر من مرة وطعمت حنظل الهزائم مرات. وعلى الجسد
يا مبروكة ندوب لا تحصى قد التأمت. وفي روح ندوب عميقة ما زال ينكأها الزمان
صباح مساء!
هل ستتعرفين على شعري الأسود الطويل الذي كانت أمي تتمتع في تسريحه
في أثناء زرقة الشمس؟
تركت أصابع الزمان على خصلاته بصمات!
هنا مر الإبهام. وهنا رجّلته السبابة والإصبع الوسطى! وهنا حك
الخنصر والبنصر جلدة الرأس!
كان الزمان يسير..
وكنت أعدو..
ما قعدت يومًا وما عرفت القعود!
مستنشقًا هواء الفجر المضمّخ بعبير البرتقالة ساعة.. ومنتشيًا
ببرودة نسيم البحر المنعش الذي مسحت وجهه الأسمر وعنقه المتجعد مشى!!
يقولون إن أيوب وصل إلى شاطئ البحر متحاملاً على جسده الواهي الناحل
المقروح وألقى جسمه فيه وغاص لحظات فخرج سليمًا معافى.. جسدًا شابًا قويًا
يتنشف بالنور!
كان يحاول أن يستنشق الهواء بشراهة لذيذة كأنه غير مصدّق أن هذا
الهواء له. هذا الهواء كله له.
يعرف.. وما أدراك ما المعرفة؟ّ!
يعرف رائحة النسيم الذي تلبى عليه . يعني شذى الأرض!
الهواء فوق تراب "البيّاضة" بارد ومنعش في الصيف. ونسيم الصباح في
"رباع الست" يذكر الفتى بعطر امرأة شابه تمرّ بجواره...
يتضرع في الجو ويملأ الخياشيم ويحرك الشهوات النائمة. وأما هواء
"المراح" فيحمل رائحة الأنعام .. الأبقار والماعز والأغنام.
ويـغذ الخطى.
محمولاً على بساط من الشوق أعود إليك يا مبروكة . مرفوع الصدر.
ذراعاي مثل جناحي نسر.
أسمعك. يا هلا . يا هلا!
ويسير .
نابشًا بليونة الفجر ذاكرته الغنية ليفتح خوخة الذكريات النائمة في
أعماقها.
يتذكر أسماء مواقع الأرض. أسماء التلال والدروب والشعاب والسبل.
سائلاً عن رائحة الهواء في هذه الهضبة في سويعات الصباح وعن نعومة النسيم فوق
ذاك المنحنى.
قلب العاشق دليله.
من هنا!
يلفظها في سرّه مكويًة بالزفير.
على هذا المنحنى كنا نعدو مثل الحملان ونطير مثل الفراشات الملونة.
نتسابق وراء عصفور بني الذنب. نتسابق على ورده برية شذت بلونها الليلكي عن
أترابها الحمراوات . نعدو من زهرة إلى زهرة وراء طزيز .. من شجيرة قندول تفتحت
أزهارها الذهبية وتمايست مع شعاع الشمس تراقص النسيم وقد لف ذراعه حول خاصرتها
إلى شجيرة بطم ضحكت أوراقها للنهار وفاح عطرها في الفضاء . نتعثر بعود يابس
استراح على الأرض ملتاعًا على الحياة .. بحجر خضبه التراب وبحجر لفعه العشب
الطري . ننهض ضاحكين . تسخر منا الفراشات . يصفق الطزيز .
يركض خطوات. تتقافز الحشرات والهوام والطيور مذعورة تصفق له أوراق
العشب.يلهث. يتعب. يقف.
لقد كبرت يا يوسف العلي وكبر الزمان معك ، ورسم على وجهك خطًا بل
خطين . وبنى سخام التبغ في صدرك مداميك سوداء مثل الغربة . ستون عامًا يربضون
على كتفيك بما يحملون من الغربة والذل .. من الجوع والحرمان .. من المطاردة
والرحيل .. من التحدي والإحباط .. من الكفر والإيمان ..من الفشل والنجاح !!!
ما ضل صاحبك وما هوى !
يحفظ سفر الخروج عن ظهر قلب . رواه يوسف العلي للرفاق على سفوح جبل
الشيخ . في الكهوف . في ليالي الشتاء القارس .يحكي عن آدم وحواء . عن قابيل
وهابيل .القاتل والقتيل .الفردوس المفقود .
كان يروي السفر واقفًا .
كان يحكي مستلقيًا والبندقية بجواره .
وكان ينام وهو يقول .. ويقول ..
يقولون له : كفى يا يوسف العلي ! ألا تمل ! ألا تضجر! إن كثرة
الاستعمال للكلمة تقلل قيمتها وتفقدها جمالها !
ويردّ قائلاً : يقرأ المسلم صورة الفاتحة ثماني وعشرين مرة في اليوم
فهل فقدت السورة بلاغتها وجمالها ؟!
يرتشف شايه الساخن مع رفاقه في الفجر وهو يحدثهم عن حلم قصير راَه
في المنام .
حينما أسندت ظهري على مبروكة وأغمضت عيني في غفوة لذيذة سمعت وحيًا
يقول : وهزي إليك بجذع النخلة يتساقط رطباَ وجنياَ .
لماذا تضحكون ؟
ليست معجزة!
مبروكة تعرفني . تحبني . تنتظرني .
أنا يوسف العلي ذو الشعر الأسود الطويل والقميص المزركش . كنت إرقص
حولك مع أخوتي السبعة .
نقفز ونغني .ونرتمي عليك .
" مبروكة يا مبروكه
يا عين أمك وابوكِ !! "
تضحكون ؟
لا يهمني . قولو ما شئتم ! أنا .. أجل أنا يوسف مبروكة !وهل في هذا
عار . لا عار إلا العار.والعار هو أن لا أنساها . لا أحلم إلا بها ! ألا أتغنى
بها ..
قادمًا في ليل الغربة الدامس ممتطيًا جوادًا أصيلا ً من الشوق . في
الصدر عشق . وفي الذاكرة حكايا .
كان أبي يسبح في لحظات الوجد ويقول إن الله خلق النخيل في الجنة وفي
دار الإسلام . ولم يختر فاكهة سوى التمر لتتغذى بها ستنا مريم حينما وضعت سيدنا
عيسى عليه السلام . كانت شاهدة الميلاد ولباه وحليبه !! والنخل ذات الأكمام .
يا يوسف العلي .ليس كل ولادة ولادة .
وليست كل قابلة قابلة .كانت النخلة قابلة مريم ومن رطبها تلبى
وليدها !
" مبروكة يا مبروكـه .
يا عين أمك وابوك
بالدم زرعناك
وبالدمع سقيناك
واجا الغربا سرقوك "
لو كنت معي يا أبي الآن !
لو تكحلت عيناك بنور الأرض الخضراء . بزهر القندول . بشقائق النعمان
.بورق الشجر الطالع مبتسمًا من البراعم .
لو مشيت على سجادة خضراء نسجها مبدع قدير وزركشها بالأقحوان والنرجس
والبرقوق وعصا الراعي ولفة سيدي وإبرة ستي وعين البقرة وعرف الديك .. تهمس لك :
يا هلا يا علي .
ولكنك رحت . مت .
ضيعني أبي صغيرًا وحملني الهم صغيرًا !
اسمعها .. اسمعها تناديني . صوتها الرخيم يقول لي : تعال . أنا ما
زلت على العهد . الحارة والزقاق . البيت والمدرسة .الحاكورة والبئر درب
الملايات . السور والياسمينة المتعمشقة على حجارته العتيقة . البوابة وحذوة
الفرس والخرزة الزرقاء . الخوخة . القنطرة ..
" تعال .. تعال ..
يا طيورًا طايره !
يا وحوشًا غابره
سلمو لي عَ يوسف العلي
وقولوا له :
تعال شوف مبروكه
كيف صايره !! "
غير مصدق ما ترى عيناه .
لا يعي ما تسمع أذناه .
واقفا ً مشدوهًا .
أين ؟
يتمتم . يردد .
تخرج الكلمات من شفتيه الناشفتين .
أين ؟ أين ؟
البيوت . الزقاق .الناس . القنطرة . الخوخة . الياسمينة .
هل لجأوا معنا ؟
هل انشقت الأرض وبلعتهم ؟
أين آثار خطاي التي شاهدتها في أحلامي الوردية ؟
أين الأمل الضاحك ؟
ماذا بقي من الوطن ؟
أين عصافير الدوري التي كانت تقفز حولي في ساحة البيت ؟
أين ساحة البيت ؟
أين البيت؟
ويحدق بعينيه المتعبتين ..
ويجد مبروكة .
الشاهد الوحيد . لا شيء سواها !
يعرفها . يسير إليها . يمشي . يهرول . يقفز .. يعدو .
وأخيرًا أعدو إليك يا مبروكة .يا عشيرة الطفولة . يا وفية .يا من
حافظت على العهد !!
أتذكرينني ؟ أتذكرين أترابي وأخوتي ونحن ندور حولك نرقص ونغني .
ونلهو نرتمي على جذعك .
محدقًا في جذعها العتيق باحثا عن بصمات أصابعه وآثار قدميه
الصغيرتين حين كان يتسلق عليها .
مبروكة الباسقة . ذات الجذع الطويل العالي .
مبروكة التي مات أبوه وهو يحكي عنها . لا تنبت مبروكة إلا في بلاد
المسلمين والجنة .
يعانقها .
تخزه أضلاعها الجافة .
ويتذكر فاطمة . فاطنة الحلوى . فاطمة الزهراء . بنت الجيران . كان
يكتب لها الرسائل القصيرة ويدسها لها في جذع مبروكة لتأخذها حينما تأتي لتملأ
جرتها من بئر الماء .
فاطمة اليانعة.. الخضراء.. جفت مثل عود يابس .
فاطمة التي دفنتها الطائرات في مخيم عين الحلوة تحت أنقاض البيوت
الطينية .
باحثًا في جذع مبروكة عن فاطمة .
عن ورقة .
هل هي رسالته الأخيرة أم جوابها ؟
وفيما هو يبحث تنبأ أن جذع النخلة مائل . مائل كثيرًا . مبروكة
منحنية .
مبروكة مائلة .
وتراجع خطوات ..
يا الله ..
حتى أنت يا مبروكة ؟
ما الذي حنى جذعك الباسق ؟
الحنين ؟
الغربة ؟
الزمان ؟
قولي لي يا مبروكة . قولي لي !!
أود أن أسمع صوتك الذي سمعته في الليالي المعكورة .
أنا يوسف العلي .
أنا الفتى التي كان يقفز حول جذعك الباسق ويتسلق عليك ؟
ما الذي حناك ؟
هل انحنيت لتصمدي أمام الريح ؟ أم انحنيت لتشمي رائحة أهل الأرض ؟
" مبروكة يا مبروكه
يا عين أمك وابوك
لومي مش ع الزمن
لومي ع اللي راحوا وهجروكِ " !!
===================
*الكاتب
محمد علي طه:
ولد في قرية ميعار
المهجّرة سنة 1941 . لجأ إلى قرية كابول في الجليل، وعمل في سلك التعليم . حصل
على شهادة B.A
في جامعة حيفا في موضوع اللغة العربية . يرأس اتحاد الكتاب
العرب في الداخل حرر في صحيفة الاتحاد، كما حرر مجلة الجديد الأدبية له أكثر
من عشر مجموعات قصصية أولها: لكي تشرق الشمس ( 1964 )،وآخرها " بيرالصفا (- دار
الشروق ، عمان 2004) وله رواية (سيرة بني بلوط - 2004 ، دار الشروق) أصدر
عددًا من كتب للأطفال، وله كتب تضم مجموعة مقالات ساخرة ..... وقصتنا المدروسة
هي من مجموعة ( النخلة المائلة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.