أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

صابرين / ملاك أحمد الرحاب


 
بسكينة انسلت صابرين من سريرها ودست جسدها المتعب في كرسيها المتحرك ... اعتادت عليه واعتاد عليها ... صار بينهما لغة وتفاهم عميق ... لم يعد يهرب منها و يتملل كلما حاولت تطويعه لها .
وجهت كرسيها ناحية الشرفة لتطل على البحر وتشهد معه الغروب ... ها هي الشمس تلوح لها مودعة لتشرق في مكان آخر...أخذت صابرين نفسا عميقا ...ولوحت للشمس مودعة .
البحر مضطرب قلق ... صوته المتكسر يزيد من غربة روحها...ويأخذها إلى شاطئ غزة حيث موطن ذكريات الطفولة وهي تلعب مع أنس ... يتدافعان نحو الموج بمرح طفولي يهربان من الموجة القادمة بخوف مصطنع ... ثم يلحقان الموجة المنحسرة بتحدٍ ... عندما أكبر سأكون طبيبا لأعالج عيني جدي ليرى البحر ... وأنا عندما أكبر سأكون ... يرد أنس بسرعة ... ستكونين لي ... تخجل صابرين ... انظر الموجة قادمة هيا ...
جالت عيناها على الأمكنة كأنها تراها لأول مرة ... تؤلمها رؤية الشفقة تسكن عيون من يحيطون بها ... دموعهم التي تذرف عليها في الخفاء وأمامها ... تحيل نفسها المعذبة إلى هواء ... وتدك كبرياءها بصمت ... ويزيد من إحساسها بعجزها ... تدعو الله أن يأخذها عنده ...لعلها تجد خلاصها وترحم قلوبهم . 

تومض عينا صابرين بذكرى اقتحمت المكان... ترمش ... ترتعش الشفاه ... تنكس رأسها على راحة يدها تهزه ... تنهمر الدموع لعلها تغسل خيالات تلك الليلة ... الصفارات وأزيز الطائرات يصم أذن الليل ... ضجيج ارتطام يستفز لجة الوسن ... ونحيب يخطف الأمن ويبعث الخوف ... لم تشعر بنفسها إلا وهي طائرة من على سريرها والدماء تتناثر في الأماكن ... وآخر صيحة لها يمّهْ يابا ... "ياااه ... كفي أيتها الذاكرة عن تعذيبي ...النفس غريبة ... وغربة الروح ... تنخل الوقت ... وتُبْذَرُ في رمال ناعمة ... فلا تنبت نبتة خضراء... ولا ينفع معها طول هطول المطر ".
 
تَلَعْثُم غثاء البحر على رمال الشاطئ وأنينه حين يتلاشى يُبعثر فيها طاقة مختزنة ... مكبوتة تريد التحرر من صدرها ... طاقة كهربائية تزيد من توتر قلبها ... هذا الكائن الصغير الذي يعيش في مساحة ضيقة في صدرها يتحكم بها ... شَقَى بها وشَقِيت به ... أرهقته بحزنها ... وأرهقها بخفقه ... يتبادلان التنكيل ببعضيهما ... شقها الحزن شقين ... شق باكٍ ميت... وشق يجاهد الحياة ... يقاوم و يتعايش مع موت الآخر ... مرة تَغْلِب الميت ومرة يغلبها .
تحمد الله ... ما زالت يدها اليمنى تتحرك ... لتطرز معاناتها على أثواب أو شال طويل لا ينتهي ... لا تريده أن ينتهي تطرز كل مساحة فيه حتى لا تبقى فيه مساحة سوداء ... لعل روحها تشرق وتصبح زاهية كألوان طبب الحرير ... علها تمسح دمعتها ... لتتواصل مع الحياة ... بعد أن سلمتها الصدمة للشلل والخرس ... كطباع اليهود الغادرة كانت تلك الغارة ... حصدت العائلة بأكملها... غارة تعللت بتصفية أحد النشطاء ... فأبادت مجمعا سكنيا كاملا ... الصدمة سلمتها لكرسي متحرك وحرمتها من استكمال تجهيزات عرسها ... لم يبق لها غير التعفر بغبار الذكريات .
حبها للبحر خفف عنها الكثير وأعطاها فضاء رحبا لتطلق حزنها ... فتخفف من ثقل قلبها فتهجع الأحلام تحنو عليها بالأمل ... خيط شعاع تتعلق به حتى تقاوم فناء روحها . مازال الموج يعلو ويتشاقى مع الرمال ومازالت أنفاس صابرين تعلو وتسلبها الهدوء والأمن. في لحظة تماهي ... أشرقت عينا صابرين... تنهدت بآهة لو مزجت بماء البحر لأسرجته وتطاول الموج فيه ملتهبا. شيء ما سرع النبض في قلبها ...شيء ما حرك في خيالها طيفا تعيشه ويعيشها قادما من ناحية البحر... مادا يديه... تعالي... أمسكت بقبضتها سرج كرسيها ... تحاول النهوض إليه ... آتية ... لا تتركني ... خذني حيث أنت ... لا أريد إلا إلاك ...خذلتها ساقاها فانهارت مطأطئة رأسها حزنا ... تنفر الدموع ثائرة على عجزها . فارقته بإرادتها وأسكنته ذاتها ... تحبه حد التضحية... لم تشأ أن تشقيه بحالها ولم تشأ أن تلمح نظرة شفقة بعينيه فتشقيها ... تعلم عميق تعلقه بها... وتعرف جيدا أنه لن يتخلىَ عنها- رغم ظرفها - وسيبقى إلى جانبها ممسكا بيدها . هذه تضحية لن تقدر على ردها ولم يبق منها إلا خيال روح نحيلة ... ممنوعة من الحركة ... مشلولة ... خرسااااااااء ... قصيدة رائعة الجمال ... ولكنها حزينة تسكن كرسيا متحركا . كان ضروريا أن تفكر بسرعة .. كيف ؟... كيف تنسحب من حياته وبسرعة قبل أن تفقد الإرادة وترتمي بين ذراعيه مستسلمة ...امتطت جناح السفر خلسة ورحلت .
فجأة جفلت صابرين... يد دافئة تلمس كتفها... التفتت: أنس !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية