ركب في الحافلة وانتظم في مكانه.... دفع بدريهماته الى يد الجابي
وقال باقتضاب: الى القدس, نظرة دهشـة سكنت عين الجابي , فقال تقصد الى
اورشليم.... فرد الشاب مرة اخرى باقـتضاب : القـــدس .
سارت الحافلة والشاب في مكانه متسمر دون حراك , اخرج من حقيبته
الصغيرة جريدة ما , وأخذ يقتل بها الوقت .. دونما أي اكتراث بأي شئ حوله , دخلت
الحافلة الأراضي السليبة , تعرضوا للتفتيش , ولرؤية الثبوتيات الشخصية , كأنما
هم الدخلاء ....قال الشاب في نفسه: حيف علينا ...ما بيحقلنــا نـدخل بلـدنا ؟؟
ثم عاد كل مسافر الى مكانه , وأكملت الحافلة سيرها .... هذه المرة
رمى الشاب الجريدة من يده وتعلقت عيناه بالنافذة , والشوق يكاد ينطق منهما ..
المشاهد تتوالى أمام عينيه وهو يتمعن كمن يرسم لوحة , أو كمن يحاول الأحتفاظ
بأكبر قدر من الوطن في الذاكرة ... أو ربما يحاول التعرف على ملامح بلده بعد
سنين من النفي و الانتظار .
وصلت الحافلة الى المحطة الأخيرة ... القدس , تحرك الشاب بخطوات
ثابتة نحو الباب تاركاً حقيبته الصغيرة وراءه , فما كان من السائق الا أن ذكره
بها , الا أنه أجاب باقتضاب بامكانك الأحتفاظ بها لو شئت , فرد السائق بلهجة
فلسطينية صرفة : عزا.. لكن ليش حاملها كل هالطريق.
لم يجب الشاب ببنت شفة واكتفى باكمال سيره نازلاً من الحافلة ...
توقف على الرصيف و استنشق كل ما تستطيع أن تبتلعه رئتاه من هواء ..انها أول
نسمة فلسطينية مرت به منذ زمن بعيد, ونظر الى ساعته كمن ينتظر شيئاً ما أو
ربما أحداً ما , ثم ما لبث أن حث السير ..كانت نظراته ثابتة نحو الأفق ..
وكأنما هو يسير نحو هدف يعرفه جيداً , أو لمهمة محددة , وربما نظر حوله بين
الحين والآخر متذكراً أو متشوقاً أو حتى ربما مستغربا , ومن وقت لآخر كان يمر
به جنود اسرائيليون فهم منتشرون في كل مكان من القدس كالتربة...انما حصاد
التربة الخير وحصادهم القتل والدمار .. أما هو فكان كل ما مر به أحد هؤلاء
الجنود حدق به بحقد.....بكره ....باباء العربي المجروح و الكرامة المغدورة .
ما زال المنعطف بعيداً .. ذلك المنعطف الذي حمل على صدره اسرته
الصغيرة ومنزله البسيط , الذي زرع أبوه في حديقته الصغيرة شجرة برتقال وشجرة
ليمون وزيتون , وما وسعته تلك الحديقة الصغيرة التي كانت ملعبه هو واخته
...يكاد يشتم رائحة ترابها اذ اقترب منها , أحس فجأة بعينين ترقبانه .. نظر
حوله فرأى جندياً يضع على صدره النجمة المسدسة , اسرائيلي اذاً لماذا يتبعه ابن
الملعونة, صرخ الجندي بصوت حاقد توقف مكانك ... توقف الشاب ونظر الى وجه الجندي
تمعن في تقاسيمه القاسية , صرخ الجندي اخرج اوراقك و انبطح أرضاً , عاد زورق
افكار الشاب يحمله الى تلك الحارة بعد المنعطف , نفس الجملة كانت آخر عهده
باسرته الصغيرة قبل قتلهم وترحيله عن تراب الوطن , وبعدها توقف الزمن عن
الدوران في ذاكرته ... بدأ الشاب يسترجع ذلك المنعطف, شجرة الياسمين التي كان
يقطف من زهورها هو واخته ليصنعا طوقاً يكلل صدر أمهما الحنون قطعتها يد
اسرائيلية ,أخته الصغيرة ذات الضفيرتين والأعوام الستة ذبحتها يد اسرائيلية ...
أبوه ذو التقاسيم الهادئة المتزنة والبشرة السمراء التي اكتسبها من عناق
الشمس لجبينه أثناء عمله في حقله الصغير .. قتلته يد اسرائيلية , وتذكر أمه
وهي تمد يدها له بالحلوى التي يحبها , تذكر دموعها في لحظات احتضارها الأخيرة
, لم تكن تبكي خوفاً من الموت , انما بكت وهي ترى اسرتها الصغيرة تنتهي في
لحظات غادرة... أين أمه ؟ رشاش اسرائيلي أوقف قلبها عن النبض... ذلك القلب
الكبير الذي لم يعرف سوى العطاء , منزله .. أين منزله الذي يسير الآن ليقف على
أطلاله وقوف العاشق المشتاق ؟! هدمته قنابل اسرائيلية .
تفقـد المسدس الجديد الذي كان قد اشتراه بعد
أن ادخر ثمنه قرشاً
تلو الآخر , لم يكن من السهل الحصول على السلاح , لكنه فعل المستحيل حتى
حصل
عليه , و فعل ما هو أكثر من ذلك حتى مر به من الحدود بسلام , وعليه الآن
أن
يقتل هذا الجندي , فهو لن يكتفي بطلب الأوراق سيقتله كما فعل سابقاً مع
أبيه.. ثم انه اقتنى المسدس لكي ينتقم لعائلته وليس ليبعد شبح الموت عن
نفسه
اذ انه مات منذ زمن بعيد , منذ قتـلت اسرته واحداً وراء الآخر ونجا هو
باعجوبة
جسداً من دون روح .. سيقتلونه هو يعلم هذا تماما , لكنه لن يموت قبل أن
يثأر
لعائلته فذلك كان ديناً في رقبته عاش لأجله وسيموت لأجله أيضاً فما معنى
الحياة
دون وطن ولا هوية و لا أسرة ؟ يده ما زالت تتفقد المسدس وعيناه تتفرسان في
ذلك
الوجه الشيطاني , وفي ذاكرته يمر شريط من الذكريات القاسية لا يستطيع
ايقافه ,
تلك الحياة الهانئة التي كان يعيشها قبل أن يأتي هؤلاء , وطيف أمه وأبيه
وخاله
وعمه وزوجة خاله وابن خاله واولاد عمه وجده وجيرانه , كلهم ..كلهم قتلوا
على يد
الاسرائيليين , دونما أي ذنب اقترفوه ... بسرعة خاطفة رفع المسدس و أفرغه
في
جــوف الاسرائيلي الذي يتـربص به فوقع صريعاً يتخبـط في دمائه, هاله لون
الدم
الذي لم يكن احمر كدماء اهله , وانما كان اسود بلون الفحم الذي كان في
السابق
منازل عامرة وحدائق خضراء , بلون الحقد والكراهية والشر الذي في قلوب
هؤلاء الأسرائيليين , ما زالت الأفكار تتوارد في رأسه بينما عيناه شاردتان
...شعر
بقضبان من النار تخترق عدة أماكن في جسده ووقع على الأرض نازفاً , لكنه
يجب أن
يصل الى المنعطف ولو زاحفاً عليه أن يبشر عائلته بأنه أوفى بوعده, أخذ
يجر
نفسه زاحفاً باعياء على الأرض التي ما زالت تحمل آثار قدميه و أقدام
أصحابه ,
ربما ما زالت تحمل رائحتهم ... رائحة دمائهم, زحف مقترباً من الحائط
المتهدم
.. انها مدرسته أو هي آثار مدرسته على الأصح , عليه أن يصل قبل أن تنتهي
لحظات
حياته الباقية ... معركة بين الحياة و الزمن .. ما زال يضغط على جرحه
النازف ,
ما همه وهو المتعود على تحمل الألم صامتاً منذ الأزل ؟! أخذ يصغي .. خيل
اليه
انه يسمع صوت اخته تناديه لم يبق للوصول إلى لمنعطف الا القليل , لكن ما
بقي من
حياته ربما كان أقل , ابتلع حشرجة كادت تخرج من فمه وجر نفسه ثانية ,
فتح اصابعه فاذا هو يفبض على صورة قديمة لأسرته كسرتها يد الزمن وروتها
دماؤه
النازفة حتى فقدت معالمها , ها هو سور حديقتهم الصغيرة ..متهدم ..لم يبق
منه
سوى بضع أحجار , نظر الى الصورة وفي عينيه فرح طفولي شديد ... اهو فرح
اللقاء
ام فرح الانتقــام أم فرح الوفاء بوعد كان يبدو لوهلةمستحيلاً , بدأ يخط
على
الحائط بدمه كلمة عاش من أجلها .. و ها هو اليوم يموت من أجلها , هو أمي
فبعد
أن احرقوا مدرسته وقتلوا أهله لم يعد الى أي مدرسة , ونسي الحـروف التي
كان
بالكاد بدأ يتعلمهـا عندما حدث ما حدث , لم يعد يعرف كيف يكتب اسمه, لكنه
كان
يعرف تماماً كيف يكتب تلك الكلمة , أنهى الحرف الأول ...ثم الثــاني
...فالـثالث ...وأخذ يقـاوم لكي ينهنيها ..أصبحت الكلمة ( فـلـسـط .... ),
لكـنه لفـظ أنفاسه قبـل اتمامهــا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.