ذلك القنفذ، لا أدري من أين أتى، ولا كيف احتل المساحات الشاسعة
الواسعة من فكري. في كل مكان أراه. هو في البيت والشارع، والساحات العامة، في
الباصات، وفي الأماكن التي أذهب إليها كلما ضاقت الدنيا. منذ وضعت قدمي في بحر
الكهولة وهو يتقافز في الظلام، يراوغني، ويخرج لسانه شامتًا بي وبما صار إليه
حالي كأنما هو يقول لي: أنت لا تستطيع أن تلمسني.
الغريب العجيب أنه يلوح مثل شعاع غريب في النهار وما اقترب منه، حتى
يخرج لسانه ويختفي، سحرني ابن الحرام. جعل من نفسه شعاعًا لا ينتهي في لحظات
تعاستي وحزني.
جربت كل الطرق للوصول إليه، لم أفلح، حاولت وحاولت، لكن المحاولة
باءت بالخيبة. قلت له تعال عندي لك بحار من الفرح والنشوة، وآفاق لا محدودة من
الأحلام اللامتناهية، ولم يستجب، بقي يقفز من مكان لآخر، دون أن يقترب.
قلت له:
- تعال.
فقال:
- خذني. أنا بين يديك.
حاولت لمسه، فلم أنجح. شربت الكأس الأولى، والثانية، والثالثة،
لاحظت أنه يقترب مني كلما شعر بي منتشيًا. أفرغت زجاجات الخمرة جميعها. لم يبق
في الحانة شيء أشربه. نظرت في المرآة فرأيتني أعود شابًا. بحثت عن كأس أخرى
أدفئ ظمأ الروح. بحثت في كل مكان عن كأس أخرى، وفجأة ظهر في أقصى الحانة، كان
يحمل بيده زجاجة عسلية، تناولتها منه بحنو، شربت وشربت. كانت كلما أشرب منها
تمتلئ. قدمت له، للقنفذ، كأسًا فشربها بكرعة واحدة. بعد ذلك أخذت أقدم له الكأس
وهو أيضًا. لامس كل منا الآخر دون أن يخاف. دون أن يختفي. أنا أشرب وهو يشرب
والزجاجة لا تفرغ. ودبت فينا النشوة، قلت:
-أريد أن أرى الدنيا.
قال:
-ومن منعك؟
قلت:
-أنت.
قال باستغراب:
-أنا؟
قلت:
-أنت من حرمني النوم.
قال:
-أنا لم أقصد أن أضايقك. أردت فقط أن أكون شعاعًا من فرح كهولتك.
ذكّرني بما أنا فيه، فوضعت رأسي بين يدي. وقررت أمرًا.
قلت:
-أريد أن أذهب إلى رأس الجبل.
قال:
-هذه الليلة أنا معك حتى الفجر.
لم أعر كلماته الملغوزة أهمية.ومضيت.في رأس الجبل.عندنا.إلى الزجاجة
العسلية،امتلأنا خمرا.عند وصولنا اخذ يقدم لى الكأس تلو الأخرى،وأنا أيضًا.وبعد
لحظات اكتشفت أنني اشرب من كأسه،وهو من كأسي،بالضبط مثلما يفعل العشاق.في ساعات
الليل المتأخرة خطرت لي خاطرة.فلماذا لا أنتقم منه،واشفي غليلي؟!
الآن جاء حَبه إلى طاحونتي،سأريه من أنا.ومن هو.سألقنه درسًا عن
حكمة الكهول وطيش الشباب.سأجعله يندم على كل لحظة اختفى بها،وتركني وحيدًا.
واقترحت عليه أن يخلع كل منا ثيابه.الغريب أنه وافق،وابتدرني قائلا:
-ها أنذا خلعت ملابسي.والآن ماذا تريد ؟
قلت:
-أريد أن أتحداك.أنت تحديتني بما فيه الكفاية،ولن اسمح لك أكثر.إما
أنا وإما أنت.
قال:
-كيف سيكون التحدي؟
واقترح قبل أن افتح فمي،وتفوح منه رائحة الخمرة،أن يرفع أحدنا
الآخر.والذي يرفع مرات أكثر يكسب التحدي،ويكون له ما يريد ورهن إشارة الآخر.في
اللحظة الأخيرة،قبل أن أقترب منه،أدركت ما أراد أن يفعله بكهولتي،فوقفت
مفكرًا.وقلت بسرعة:
-أنا أقبل التحدي.لكن ليس بعدد المرات،إنما بالقدرة على الرفع ، ومن
يرفع الآخر إلى الأعلى،إلى السماء،يكسب التحدي.
وبسرعة لم أكن أتوقعها وافق.كان على استعداد لتقبل كل ما اطرحه
عليه.ثقته بنفسه،شبابه،كانت أكبر من أن يتراجع.ولذا أقدم.قال ساخرًا:
-بإمكانك أن تبدأ.
اقتربت منه.رزته.من أين بإمكاني أن أرفعه.وبكل ما لدي من سنوات
مختزنة.وأحلام مكبوتة،وضعت يدي حول خضره،ورفعته إلى أعلى.وأعلى.فأعلى.ولامس
جسمه كبد السماء.رفعته ورفعته،حتى لم يعد بإمكاني رؤيته.اختفى جسده بين الغيوم
السابحة بالفضاء،وهمى مطر أغرق جسدي بلزوجة ممزوجة بالحلم،بتحقيق الذات،بإمساك
لحظة فارة.
ومرت الأيام،وأنا أرفعه،وهو يسبح بملكوته المفتوحة على الأبدية.مر
اليوم الأول.والثاني والثالث.طلب مني أن أنزله.فأنزلته.لكنه لم ينزل على الأرض
وإنما على جسدي.استرخى فوق جسدي العاري ونمنا معًا.عندما أفقت.سألته ما إذا
أراد أن يعرفني .فهز رأسه بالنفي.وعدت أساله.وأخذ يجيبني بهزة من رأسه.مشيرًا
إلى نفيه...
قلت منتشيًا:
-كان بإمكاني أن أرفعك عشر مرات.
قال وهو يفتح عينيه لأول مرة منذ أيام:
-مرة واحدة،مثل تلك،تكفي.
آنذاك،فقط،أدركت تمام الإدراك أنه أصبح رهن الإشارة.فقد كسبت
التحدي.
========================================
*الكاتب ناجي ظاهر:
ولد سنة 1951 في الناصرة، وهو من أسرة نزحت من قرية (سيرين)... شارك في تحرير
بعض الصحف في الجليل، وهو متفرغ للكتابة... له مجموعتان شعريتان ومجموعات قصصية
عديدة نذكر منها: درس نورا، الزهرة اليابسة، بحجم سماء المدينة ، حدث في ذلك
الشتاء، وقصتنا المدروسة من مجموعة (درس نورا).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.