هو زيتونة دهرية ترقد، ككل زيتونة في بلادي، متواضعة راضية بما قدّر لها من
غذاء وماء وهواء ونور. جوادة معطاءة دونما جلبة أومطالبة بحقوق أو رد دين. فهي
لا تبتئس لو أنك أهملتها. ولا تطالبك بسقاية أوتشجذيب أوتمشيط, ان حدث وتعطفت
عليها ببعض عناية كافأتك بصمت، وان لم تفعل أكملت مسيرتها بصمت أيضا دون معاتبة
او اقتصاص على اهمالك وتناسيك. وهي أيضا مقتصدة محتشمة، لا تظهر عورة ولا تتعرى
مهما جارت عليها عوائد الفصول. لا يعتريها ما يعتري بنات جنسها من شبق ربيعي،
فلا تزهو ولا تغوي ولا تفاخر، حتى انها لا تحسد جارتها شجرة اللوز التي تزهو كل
ربيع بزهرها المشتعل فتنة. ثمرها أيضاً كزهرها، لا يغويك بسحر ولا ينصب لك شباك
الفتنة لتقع صريع هواه، بل ينتظرك حتى تتعطف باسقاطه فلا يئن متوجعا من ضربات "شاروطك"
الظالمة ولا يقاضيك على قسوتك بل يمتثل كالزوجة الخانعة. يقبع خاضعا في الزوايا
المهملة في الخوابي المعتمة لا يشكو قسوة حر ولا شدة برودة. ينصاع صاغرا لأحجار
طاحونتك القاسية فلا يئن لثقل وطأتها بل يفرح لو رآك تتشمم سائله المخضر الجميل
بعد عملية الهرس القاسي والمهين. قد تزهو بعض اغصانها الصغيرة مرة في العام
عندما ترفعه ايدٍ طفولية ملوحة "مبارك الاتي باسم الرب. أوصانا في الاعالي.
اوصانا في العلى". إلا أن جذورها عنيدة متشبثة بتربتها وفية لهذه التربة, حريصة
على ترجمة هذا الوفاء بالتغلغل عميقا حد التوحد الصوفي بذراتها. مر فوقها
اباطرة وملوك، طغاة وجبابرة، من مشرق ومن مغرب، فما مالآت ولا خفضت "لغازٍ
جبينا". كلهم زالوا وظلت هي على وفائها وسخائها
إرث جدتي فاطمة, هذه الزيتونة التي ورثتها عن فاطمة، عن فاطمة منذ الآف السنين,
في فيئها غنت لأبنائها ومن بعدهم أحفادها حتى يناموا "وتيجيهم العوافي كل يوم
بيوم"، وفي تجاويفها خبأت لنا ليوم العيد مفاجآت من جوز ولوز وزبيب. وفوق
أغصانها علقت اطواق التين والمشمش والبامية لتجفف مؤونة للشتاء. وربما أيضاً
خلف جذعها قابلت جدي سراً أيام المراهقة. وقد حرصت جدتها لجدتي على تسمية اغصان
زيتونتها باسماء احفادها، وبما ان جدة جدتي لم تكن تعرف الكتابة فقد طلت
الاغصان باصباغ مختلفة: أحمر، أخضر، أسود، أصفر، زهري، بنفسجي وغيرها. أصرت جدة
جدتي على ان تعيد الدرس على احفادها وحفيداتها مرارا وتكرارا حتى تتأكد من انهم
حفظوه جيدا وسوف ينقلونه دون اي خطأ لأبنائهم واحفادهم ذكورا واناثاً: الاحمر
غسان كانت تقول، والاخضر محمد، والابيض لميس والازرق هدى والبرتقالي سميرة
والاصفر اميل والرمادي زكي والبنفسجي سحر وهكذا
في هجومهم الاخير على بلدتنا كانت مجزرتهم في زيتونها. صبر وشاتيلا من توع آخر.
أصيبت جدتي بالذهول. لم تذرف دمعة على زيتونتها ولم تشتم او تطلق الدعوات كما
كانت تفعل في المرات السابقة. بقيت جامدة كتلك الام التي فجعها موت ابنائها
أمام عينيها فأفقدتها المفاجأة سمعها ونطقها. كالت امي لهم اللعنات فلم تجبها
كما في الماضي: "صواريخك كاسدة فتشي عن بضاعة غيرها". رمى أخي الصغير دبابتهم
بحجر فما لوت رقبتها بحزن كعادتها وقالت: "يا ولدي العين لا تقاوم مخرز". قرأت
عليها مقالتي النارية والتوقيعات التي جمعتها احتجاجا وقدمتها لمنظمات حقوق
الانسان فما هزئت بجهودي ولا قالت "كلّو حبر على ورق".
ذلك الصباح رأيت جدتي واقفة مكتوفة اليدين منتصبة في وسط الدار. كانت قامتها
مشدودة ورأسها مرفوعاً بإباء نحو السماء. كانت عيناها جامدتين لا تفصحان عن حزن
أو غضب. فلو أن غسان كنفاني رآها لكان قال فيها ما قاله بصاحب "العروس". رميت
عليها تحية الصباح فما التفتت صوبي إلا أن ابتسامة عريضة كانت تضيئ جبينها الذي
امحى منه ما كان له من تجاعيد. مددت يدي اطلب يدها لأقبلها فظلت جامدة ولم
تتمنع لتقول لي كعادتها "بوس الايادي ضحك على اللحى".
في زحمة الانشعال المهين بين هذا الحاجز وذاك، نسيت الملمح الاسطوري الذي وسم
جدتي ذاك الصباح ولكنني انتفضت مستذكرة كل تفاصيله فيما المذيع يخبر عن امرأة
في السابعة والخمسين من عمرها تقوم بتفجير نفسها بواسطة حزام ناسف بعد أن تركت
رسالة مصورة تظهر فيها وهي تقرأ ورقة كتبتها بخط يدها: أقدم نفسي فداء لله
وللوطن وللمعتقلين والمعتقلات....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.