هكذا إذاً.. عليّ أنا أن أنعيكَ يا بشير..
أهو اختبارٌ جديدٌ لمدى قدرتنا على ابتلاعِ المَرار؟
أم قفزةٌ مفاجئةٌ في سيرِ خطِ الألمِ البيانيّ الذي يلهو بنا منذُ سنينٍ خمس؟, أم أنتَ أوصيتهم بهذا لتراقبَني وأنا أبكي وأمحو.. وتضحك؟
وليكن.. سأنعيك، وربما سيسعدك هذا بقدرِ ما يؤلمني، لكن الصعب الصعب يا بشير هو أن أصدّق أولاً أنك مُتّ.
في هذي الدنيا يا بشير، أشخاصٌ خارجَ مفهوم الموت..
لا يخطرُ ببالنا أنهم قد يموتون، لأنهم رسلٌ للحياة، وأنت منهم.. فكيف أنعي رسولَ حياة؟ كيف وأنا الكافر بالموت من دون وداعٍ وبالقبح وبالسيوف؟, كيفَ يُنعى صديقٌ توصلُه بعد لقاءٍ - استمر ساعات – إلى باب منزله، فيسير خلفك ويمشي معك مرة أخرى إلى باب منزلك؟
وكيف يُرثى شاعرٌ قال:
(أزرعُ أعشابَ حزني على صوتي الذي يسيلُ إلى مستقرٍ لكِ..
وأزرعُ روحي فزَّاعةً لطيورِ الظلمةِ والوحشةِ..
وأزرعكِ بأرض كلامي.. سنديانةً لظهيرات المراثي..
والحزنُ برِّيتي
وأنا حصانُ أيامكِ الخاسر)
روحُك المتعبةُ من قبل الرحيل يا صديقي، لم تُخِفْ طيورَ الوحشةِ والظلمةِ هذه المرة، ولم تطردها، بل اجتذبتها بكل جسارة لتنتقم منها بسيف المنطق والعقلِ وترسِ القلب.. ونسيَتْ، أو تناسَتْ، أنهم بلا عقولٍ ولا قلوب.
أجزمُ بأنك استدعيتهم بملء إرادتك، وأقمتَ عليهم حُجةً جديدةً بدمائكما.. وكثيرٌ من الأحيان لا نملك إلا دماءنا سلاحاً.
بشير.. إلى أي حدٍ آلمتَهم، حتى يقتلوكَ ويقتلوا وحيدَك معك؟
إلى أي حدٍ أشعرتَهم بأنّ استمرارَك في إياس سيكونُ كارثياً عليهم؟
إياس يا إياس.. يا أيها الصغير الكبير.. أنت مُرتدٌّ أيضاً؟
أنت أيضاً أخفتهم فقتلوك؟
أتؤمن بالمصادفات والرموز يا بشير؟
أنا أؤمن.. لديك خمسة دواوين.. وأنتم خمسة.. (حوذي الجهات) هو أنت، ولا حوذي مثلك، و(رماد السيرة) هو أماني، وهل من سيرةٍ أحرقت قلبك وجعلته رماداً كسيرتها؟ و(وردة الفضيحة) إياس.. وهل من فضيحة أكبر من الخوف من طفل حد القتل؟ ومخطوطان لديوانين جديدين أكلتهما نار الحرب ولم يقرأهما أحد، وهما (إيمار ولونار) اللتان أخذت منهما هذي الحرب البشعة الأب والأم والأخ.. أهي مصادفة يا بشير؟ أم أنك رتّبتها لتفاجئَنا حتى بعدَ موتِك بأنكَ كنتَ تعلم؟
بشير.. إن دفنوكما في قبرٍ جماعي، فَدَعْ بقيةَ الأموات وشأنهم، ولا تُعد ترتيب جلوسهم على شكلِ صندوقٍ مفتوحٍ كما تفعلُ دوماً ليستمعوا إليك.. ولا تحرّضُهم على الملائكة، وأمسِكْ إياسَ عنهم، أعرفُه، هو بشيرٌ صغيرٌ مملوءٌ بالأسئلة، والأمواتُ بحاجة إلى أجوبة لا إلى أسئلة يا بشير.. وحين يسألكَ المَلكان، أجبْ على قدرِ السؤال، ولا تستفض بالحديثِ ساعات، فهناك آلاف القتلى غيرك ينتظرونهم، ولا تجبرُهم على التدخين معك يا بشير.. لا تجبرهم.
وإن دفنوكما في قبر منفرد، فاحتضن إياس جيداً، واتلو عليه كل ليلةٍ قصائدَك التي لم تسمح له أعوامُه التسعة عشر بمعرفتها بعد.. وقلْ له أنْ ليس هناك موتٌ مفرحٌ وآخرَ محزن، بل هناكَ موتٌ مشرّفٌ وآخرَ جالبٌ للعار، ولا يرقى شرفٌ إلى شرفِ مواجهة السيفِ بالدم كما فعلتما.
بشير.. ربما ليست مصادفة أيضاً أننا لا نعرفُ تاريخَ يوم ارتقائكما، حتى لا يصير للحزنِ - الذي تكرههُ - ذكرى ثابتة تجبرُنا على تعاطيه كلّ عام.. حتى في موتكَ تركتَ باب الخيال مفتوحاً كما في قصائدك.
لم أجرؤ حتى اللحظة النظر إلى الصورة الوحيدة التي جمعتنا معاً.. أخشى أن تُعاتبني لأنني تركتكَ هناك وجئتُ إلى دمشق.. ومن سيصدّق أن الجوعَ هو الذي فرّقنا وسرقَ منا الوداعَ الأخيرَ؟
طوبى للجوعى الصابرين يا بشير.. طوبى للأصدقاء الذين يتركونَ في كل همسةٍ ذكرى، وفي كل قصة حكمة، وضحكة في البال لا تمحوها السنون.
(بشير عاني صحفي وشاعر وكاتب – عضو اتحاد الكتاب العرب وعضو في جمعية شعر، من مواليد دير الزور 1960، حاصل على بكالوريوس في الهندسة الزراعية – له ثلاثة دواوين شعرية مطبوعة: (رماد السيرة) 1993 – (وردة الفضيحة) 1994 – (حوذي الجهات) 1995 – وله مخطوطان لديوانين جديدين التهمتهما النار في منزله الذي دمّر في الحرب ولم يُطبعا.
توفيت زوجته قبل أقل من عام بمرض عضال، وله ولد (الشهيد إياس 19 عاماً) وابنتان (إيمار 17 عاماً ولونار 14 عاماً) اللتان بقيتا وحيدتين في هذا العالم البشع.
نشر الكثير من التحقيقات في كل الصحف السورية، وكان مراسلاً لعدد من المطبوعات الأدبية العربية والسورية، قتله تنظيم «داعش» الإرهابي مع ابنه إياس بتهمة «الردة»، وذلك بعد خروجهما من مدينة دير الزور المحاصرة أملاً بالوصول إلى دمشق.
تشرين
15/03/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.