«إن تأثير شخصية الإنسان في عمله هو الأساس الوحيد الثابت لعلم الجمال
كلّه» وتلك من أهم مقولات «أوجين فيرون»، ولعلي قد ترددت كثيراً وتوقفت
طويلاً قبل أن أبدأ الكتابة عن تجربة القاصّ محمد أحمد طلب، توقفت وترددت،
وربما معي كل الحق،
فالاختيار عموماً ليس بالأمر السهل، فكيف إذا كان كاتبها في قصصه مثل عصفور جميل يدهشك في تنقلاته، ويطربك صوته كيفما غرد وزقزق، لكن حيرتي تلك بدأت تتلاشى وبالتدريج وأنا استعرض في مخيلتي عدداً من قصصه التي ألقاها سابقاً في العديد من الأمسيات الأدبية، وهي من ضمن مجموعته
الجديدة «الوجه الآخر» حيث استقر بي المقام أخيراً عند قصة بعنوان «كذب المنجمون» واختيارنا لهذه القصة لا يعني أبداً التقليل من أهمية قصص مجموعة الوجه الآخر، بل لأن هذه القصة وحدها تستحق أن يكتب عنها، فالفن ليس شيئاً آخر سوى الكمال في تقليد الواقع كما يقول «بارت»، والحداثة كما يضيف «تبدأ بالتفتيش عن أدب ممتع».
بالعودة إلى عنوان قصة «كذب المنجمون» الذي استمده القاص من خبير الأرصاد الجوية أثناء استماعه للمذياع وهو جالس في المكتب حيث تنبأ بحالة من القحط والمحل غير مسبوقة تحل على البلاد بسبب تغير مفاجئ في الدورة المناخية، ولعل الكاتب هنا أراد أن يشير إلى القحط واليباس الذي حلّ في نفوسنا ولبس أرواحنا والدليل على ذلك سخريته من هذا الكلام وتعليقه عليه بقوله: «يا الله.. ما هذا؟ جدتي الأميّة وقبل أسبوع فقط توقّعت ذلك مع اختلاف في الأسباب، وعندما سألتها على ماذا تعتمدين في توقعاتك؟.. أذكر أنها قالت كلاماً كثيراً فيه أشياء كثيرة عن قطع الأرحام والفساد والفسوق الذي استشرى بعيال الله».
وبعد هذا أقول إن بطل القصة «ناجي سليم» عندما قوَّلَ جدتَه ذلك فهو أراد أن يتخفّى ويختبئ خلف جدته لكننا رأيناه واكتشفنا أمره وبذلك تزداد الأعباء على كاهل النص وصاحبه، وهذا قد يؤثر في وحدة الأثر المطلوب من العمل القصصي أن يؤديه.. وأنا هنا لا أنكر جمالية هذه القصة وتماسكها وإعجابي الشديد بها وهي رغم كل تفرعاتها وتشعباتها لوحة في منتهى الروعة والجمال، وأنا مؤمن ومقتنع بأن الكاتب قد أعطى هذه القصة جهداً يشكر عليه وسار بشخصية هذا الموظّف سيراً صحيحاً وموفقاً، لكن هناك ما دعاني لأتساءل في نهاية القصة: لماذا عاد «ناجي سليم» ليصبح الكاتب نفسه؟.. لماذا لم يبقَ ملتبساً إلى ما بعد النهاية؟.. أتساءل عن هذا وأنا أعرف تماماً أن الكاتب لابد من أن يسكب روحه أو بعضاً منها على الأقل في أي نص يكتبه. خلاصة القول إن القاص محمد طلب في هذا العمل القصصي وفي معظم قصصه التي قرأتها أو سمعتها منه يبدو لي من الكتاب الذين يمتلكون موهبة يشار إليها بكل الاحترام والتقدير، وهو كقاص يعرف كيف يمسك بخيوط عمله بإتقان ومهارة ويعرف كيف يحرك أبطاله وكيف يتحكم بمصائرهم بكل خبرة ودراية لدرجة أخشى عليه من أبطاله أنفسهم!.
تشرين
19/03/2016
فالاختيار عموماً ليس بالأمر السهل، فكيف إذا كان كاتبها في قصصه مثل عصفور جميل يدهشك في تنقلاته، ويطربك صوته كيفما غرد وزقزق، لكن حيرتي تلك بدأت تتلاشى وبالتدريج وأنا استعرض في مخيلتي عدداً من قصصه التي ألقاها سابقاً في العديد من الأمسيات الأدبية، وهي من ضمن مجموعته
الجديدة «الوجه الآخر» حيث استقر بي المقام أخيراً عند قصة بعنوان «كذب المنجمون» واختيارنا لهذه القصة لا يعني أبداً التقليل من أهمية قصص مجموعة الوجه الآخر، بل لأن هذه القصة وحدها تستحق أن يكتب عنها، فالفن ليس شيئاً آخر سوى الكمال في تقليد الواقع كما يقول «بارت»، والحداثة كما يضيف «تبدأ بالتفتيش عن أدب ممتع».
«كذب المنجِّمون»
قصة يطرح فيها الكاتب محمد طلب بأسلوب ممتع ورشيق هموم وهواجس موظف بسيط اسمه «ناجي سليم» بدءاً من وصوله إلى العمل وحتى عودته إلى المنزل، ومن خلال هذا الموظف نفسه يتطرق إلى العديد من القضايا التي تبدو عصية على الحل ويظهر في قصته هذه أسلوبه السهل الممتنع حيث يبدؤها بقوله: «صقيع هذا اليوم يقصّ المسمار، عقارب الساعة تقطع أوصال الوقت بتواطؤ دون هوادة.. إنها التاسعة صباحاً»، وليعرّج في مقصده هنا على مسألة مهمة جداً وهي انحياز ربّ العمل إلى موظف بعينه وتفضيله على غيره فهو بالطبع، أقصد «ناجي سليم»، قد تعرض لعقوبة التنبيه والحسم من الراتب لتأخره عن العمل مدة خمس دقائق بينما زميله ممدوح لا يأتي في أوقات كثيرة إلى العمل: «والدي قال كل إنسان يدفع من كيسه، وتساءلت حينها لماذا زميلي ممدوح لا يدفع من كيسه؟..»، وناجي سليم تصيبه حالة ملل ويأس وقنوط من كل شيء، من العمل وروتينه، من المدير الذي لا يسمح بتزويد مدفأة المكتب بالمازوت بحجة التوفير للمصلحة العامة، وهو في حقيقة الأمر يوفّر لجيبه، من المحاسب الطامع بعدد من ليرات الموظفين، ومن سوقية الكلمات التي يبثها المذياع القريب منه... إلخ.المكان في الذاكرة
يفكر بطل القصة في إجازة ساعية يمر فيها على السوق مادام العيد غداً على الأبواب، فيسير على الطريق ليستعرض أسماء العديد من شوارع مدينة درعا، وتلك لفتة جميلة منه ونقطة إيجابية تسجل لمصلحة النص: «تقودني قدماي إلى شارع هنانو.. برودة الطقس لم تحجب الناس عن الخروج للتسوق.. تعترضني المكتبة العلمية، أشتري جريدتي المفضلة.. تلفحني روائح البن الزكية المنبعثة من محمصة الشعب.. يلتهمني السوق القديم بمحاله المتلاصقة «حلويات المنجد»، «بزورية خطاب»، «عصرونية الشرق»، «مفروشات البيت السعيد». ولعل هذه الأماكن هي أكثر ما لفت انتباهي إلى هذه القصة ففيها استطاع الكاتب أن يجعلني أسير مع بطله «ناجي» لنعبر معاً تلك الأماكن وفيها أيضاً وضعني أمام صور بصرية عديدة ومتنوعة كي أشاهد في داخله ما شاهد وأحس بما أحس به، لكن الشيء الأهم من ذلك في رأيي هو قدرة الكاتب على توظيف هذه الأماكن لخدمة السرد الداخلي للنص، ولا أبالغ إذ قلت السرد النفسيّ، حيث جاءت متناسبة مع حالة البطل النفسية ومع ظروفه الحياتية، ويبدو لي من خلال القراءة الأوليّة لهذه القصة أن كاتبها يشتغل على المضمون لينبش ما في الداخل من أسرار وجواهر ولا يعطي أهمية كبرى للشكل وتلك نقطة أخرى لمصلحته، ولو أن الشكل القصصي يعول عليه في كثير من الأحيان كي يكون العمل مكتملاً وغير منقوص.بالعودة إلى عنوان قصة «كذب المنجمون» الذي استمده القاص من خبير الأرصاد الجوية أثناء استماعه للمذياع وهو جالس في المكتب حيث تنبأ بحالة من القحط والمحل غير مسبوقة تحل على البلاد بسبب تغير مفاجئ في الدورة المناخية، ولعل الكاتب هنا أراد أن يشير إلى القحط واليباس الذي حلّ في نفوسنا ولبس أرواحنا والدليل على ذلك سخريته من هذا الكلام وتعليقه عليه بقوله: «يا الله.. ما هذا؟ جدتي الأميّة وقبل أسبوع فقط توقّعت ذلك مع اختلاف في الأسباب، وعندما سألتها على ماذا تعتمدين في توقعاتك؟.. أذكر أنها قالت كلاماً كثيراً فيه أشياء كثيرة عن قطع الأرحام والفساد والفسوق الذي استشرى بعيال الله».
وبعد هذا أقول إن بطل القصة «ناجي سليم» عندما قوَّلَ جدتَه ذلك فهو أراد أن يتخفّى ويختبئ خلف جدته لكننا رأيناه واكتشفنا أمره وبذلك تزداد الأعباء على كاهل النص وصاحبه، وهذا قد يؤثر في وحدة الأثر المطلوب من العمل القصصي أن يؤديه.. وأنا هنا لا أنكر جمالية هذه القصة وتماسكها وإعجابي الشديد بها وهي رغم كل تفرعاتها وتشعباتها لوحة في منتهى الروعة والجمال، وأنا مؤمن ومقتنع بأن الكاتب قد أعطى هذه القصة جهداً يشكر عليه وسار بشخصية هذا الموظّف سيراً صحيحاً وموفقاً، لكن هناك ما دعاني لأتساءل في نهاية القصة: لماذا عاد «ناجي سليم» ليصبح الكاتب نفسه؟.. لماذا لم يبقَ ملتبساً إلى ما بعد النهاية؟.. أتساءل عن هذا وأنا أعرف تماماً أن الكاتب لابد من أن يسكب روحه أو بعضاً منها على الأقل في أي نص يكتبه. خلاصة القول إن القاص محمد طلب في هذا العمل القصصي وفي معظم قصصه التي قرأتها أو سمعتها منه يبدو لي من الكتاب الذين يمتلكون موهبة يشار إليها بكل الاحترام والتقدير، وهو كقاص يعرف كيف يمسك بخيوط عمله بإتقان ومهارة ويعرف كيف يحرك أبطاله وكيف يتحكم بمصائرهم بكل خبرة ودراية لدرجة أخشى عليه من أبطاله أنفسهم!.
تشرين
19/03/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.