أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

فضاءات في مذاهب الأدب / بقلم:محمد جبر الريفي


ليس من الصعب على الباحث المنصف لدور الأدب في الحياة أن يغفل الدور السياسي والاجتماعي الذي يلعبه الأدب على مسرح الأحداث العالمية المعاصرة.. بيد أن هذه الوظيفة الأساسية ما كانت لتعطي نتائجها لو اقتصر التحليل على مفهوم النظرة المثالية في الأدب، تلك النظرة التي تكسب الأدب مضمونه الإنساني من خلال كونه فناً خالصاً وليس مجرد انعكاس كامل للتطور التاريخي ذلك أن العمل الأدبي والفني ليس تسجيلاً لمظاهر الحياة والأشياء فحسب بل هو بالإضافة إلى ذلك رؤية عميقة للعالم الموضوعي واستقراءً حقيقياً ومتغيراً للواقع وإذا كان (هيجل) قد ربط الأدب بتطور الفكرة إلا أنها أي – الفكرة – كانت عنده شكلاً ناقصاً ما لم تتضمن في الأدب الشكل والمضمون معاً ولا نعتقد أن المضمون الذي يرمي إليه هيجل إلا ذلك الشيء الموجود في الواقع الموضوعي أصلاً..

لقد حاولت الثقافة الغربية إخضاع هذه الفكرة المثالية في مفهوم الأدب وجماله لتكريس مذهب الفن للفن، هذا المذهب النقدي الذي طرحته الثقافة الغربية في العالم الرأسمالي لتزييف واقع الحياة وذلك بحجة البحث عن الجمال والابتعاد عن الحقيقة مما يزيد في عملية استلاب الإنسان وضياعه في خضم الاقتصاد الرأسمالي فقد أدت حركة الإنسان في الفترة الأخيرة إلى اندحار هذا المذهب وغيره من المذاهب التي تكرس الاتجاه البرجوازي للأدب والفن.. كما انتقل الأدب في هذه الفترة من أيدي المجموعة النخبوية التي قد لا تعبر بالضرورة عن طموحات مجتمعاتها ولا تسجل إلا ما يعكسه واقعها الاجتماعي إلى شرائح اجتماعية أكثر معاناة وبذلك انتصرت إرادة الشعوب في مجال الأدب والفن كما انتصرت من قبل في مجالات عديدة أملاها الاستعمار ونظامه الرأسمالي.

الأدب والتحولات الاجتماعية:
فمن أجل مواجهة نقدية للأدب لابد من إدراك مدى العلاقة الجدلية القائمة بين الأدب بمختلف فنونه باعتباره العلم الأكثر خطورة على الوعي الإنساني وبين التطور التاريخي للحياة الإنسانية فالمتتبع لنشوء اللغة باعتبارها أداة العمل الأدبي يدرك جيداً أنها مرت بتطورات كثيرة وكان التطور من العلامة والإشارة إلى النطق ثم الكلام البشري حيث اكتسبت اللغة الإنسانية بعدها الفني دليلاً على الصلة المبكرة بين الأدب والنشاط الاجتماعي ذلك أن الارتقاء والتطور الذي حدث في أدوات العمل وعلاقاته وعاداته قد أدى إلى انتقال اللغة من مرحلة تسمية الأشياء إلى مرحلة تكوين المفاهيم والرموز، هذا الانتقال الذي تم في السياق التاريخي والاجتماعي هو الذي أنضج البعد الفني للغة باعتبارها أداة الأدب.
كما أن المتتبع لنشوء المذاهب الأدبية يدرك بوضوح أن هذه النشأة لم تكن فقط حركة تصاعدية ارتقائية أملتها طبيعة العقل الإنساني الوظيفية وارتقاء إدراكه بفعل التطور الزمني المجرد بل هي في الواقع جاءت كانعكاس كامل لحركة التطور العالمي التي أفرزتها جملة من المعطيات الموضوعية أهمها بالتحديد التطور الهائل في مجال العلم (الثورة الصناعية والتكنولوجية) وما رافق ذلك من ظهور قوى اجتماعية صاعدة لها تأثيرها الحضاري على سير الأحداث الإنسانية المعاصرة فالأدب بكافة فنونه من شعر وقصة ورواية ومسرح انعكاس حقيقي لصور الحياة فالأساس في تطور هذه الأنواع الأدبية من حيث نشأتها هو تطور المجتمع ذاته حيث أن مراحل التطور التي يمر به المجتمع إنما تتجسد في علاقاتها الجمالية بالعالم في أنواع أدبية معينة وهذا كله يحدث بسبب النشاط الاجتماعي (العمل) الذي بدوره يطور ملكات الإنسان ويعمق إدراكه وينشئ حاجاته المتعددة وبذلك فإن النتاج الأدبي مهما كان نوعه محكوم دائماً في نشأته بظرف تاريخي واجتماعي محدد.

الظرف التاريخي لنشوء المذاهب:
إن المذاهب الأدبية التي ظهرت في الغرب ليست جديدة على الفكر الإنساني وهي على اختلاف مدارسها وأنواعها مراحل فاصلة في الحياة ولكن ليس على النطاق العالمي بل على النطاق القومي لشعوب وأمم وقوميات الغرب.. فالكلاسيكية مثلاً بكل معانيها كانت تتويجاً لطموحات الطبقة الممتازة السائدة في عصر الرومان ولم تكن في الحقيقة سابقة لها، فليست هي في الواقع سوى مجموعة فروض وواجبات وقيود وبذلك تنسجم انسجاماً كاملاً مع روح العصر حيث سادت علاقاته الاجتماعية والإنسانية المحافظة والأرستقراطية فقد حدث أن اهتمت بالشكل على حساب المضمون والمعنى وتغنت بالفروسية باعتبارها مظهراً لطبقة الإقطاع السياسي وسجلت في مجال الأدب والفن تقدماً يساوي التقدم والتطور الذي عانت منه الفلسفة الأوروبية ذلك أن المذهب الكلاسيكي كان يصر دوماً على التأكيد على الصفة الفنية وعلى التقنية في العمل الأدبي مع الإلحاح أيضاً على العقل الذي تقدم هو كذلك باعتباره الأساس الرئيسي لهذا المذهب.. بيد أن تطور المجتمعات الأوروبية في القرن الثامن عشر وما رافق ذلك من تطور خطير في الوضع الطبقي السائد أدى إلى ظهور قوى اجتماعية جديدة ونقصد بها البرجوازية الأوروبية التي خرجت للوجود من أحشاء المجتمع الإقطاعي وذلك كرد عنيف لما ساد المجتمع الأوروبي في ذلك الوقت من انحلال ومنطق جامد وتقاليد صارمة أملتها ظروف ارتباط الإقطاع بالأرض وقد رافق هذا التطور الاجتماعي ظهور مذهب جديد وهو ما أطلق عليه اسم الرومانسية بعد أن انهار المذهب الكلاسيكي بانهيار طبقة الإقطاع على المستوى السياسي وظهور عصر الآلة.. إن الرومانسية هي مذهب العاطفة والخيال والنزوع إلى الطبيعة والهيام بجمالها بحثاً عن حياة هادئة وهروباً من وطأة الحياة المادية وسلطان الآلة وتدعيمها للشخصية المستقلة التي داسها المجتمع الصناعي بكل طغيانه وجبروته وهكذا رسمت التحولات الاجتماعية على الصعيد الأوروبي الخطوط العامة لفن جديد، فن يكون فيه الأدب تعبيراً عن مجتمع جديد، ذلك المجتمع الذي يؤمن بالحقيقة الفردية وبالجمع بين الأضداد وبتصوير أكثر الأشياء في الوجود تناقضاً وبذلك كانت ثورة على الذوق الكلاسيكي الذي كان أكثر جموداً وطغياناً فالصراع بين الكلاسيكية والرومانسية إذن ليس صراعاً فنياً فحسب بل هو تناقض بين نزعتين في الطبيعة البشرية لعبت مظاهر الحياة الاجتماعية في إذكاء التناقض بينهما لكن التطور التاريخي والاجتماعي الذي يسير دوماً وفق قوانين موضوعية لم يقف في أوروبا عند هذا الحد، فقد حدث أن تطور العلم في القرن التاسع عشر ووجد الأدباء أنفسهم في عزلة تامة ما داموا يؤثرون حياة العاطفة والانطواء فكان لابد لهم إذن أن يعيشوا هذا الواقع الجديد وما فيه من صدق وموضوعية وبذلك نشأ المذهب الواقعي كمرآة تعكس هذا التحول الجديد وكان (بلزاك) في الواقع هو الرائد الأول لهذا المذهب، وهو الذي كان يرى أن قيمة العمل الأدبي إنما تؤخذ من التفاصيل، وهذه التفاصيل تؤخذ بدورها من الحقيقة المعاصرة وليس من التاريخ ولا من الخيال اللذين ليسا في نظره سوى إطار للعمل الأدبي وهكذا فإن امتلاك موهبة الحدس لا موهبة الخيال هي الأساس في الواقعية وذلك بهدف التغلغل في النفوس ومن أجل القدرة على التحكم في التفصيل الخارجي للانطلاق بعد ذلك إلى ما وراءه.. لكن العلم الذي استطاع بفضل تطور أساليبه أن يزيل كثيراً من العوائق التي تحد من حرية الإنسان عجز في النفاذ إلى جوهر النفس البشرية، كما لم تكن له نتائج حاسمة في حل المشاكل المعقدة في حياة البشر مما أدى إلى ظهور مذهب جديد يعالج هذه النفس التي أرهقتها تعقيدات الحياة المدنية الحديثة وهمومها ومشاكلها فكان المذهب الرمزي كأداة للتعبير عن بواطن النفس الإنسانية وسرائرها خاصة في مجال الشعر الذي كان يشهد في أوروبا أزمة اضطراب في نهاية القرن التاسع عشر..
إن المذهب الرمزي ولد في الواقع على يد (مورياس) وذلك على أثر رسالة نشرها في ملحق الفيغارو الأدبي وفي هذه الرسالة الشهيرة اقترح أن يكون الشعر ليس وصفياً ولا روائياً بل إيحائياً وأن الشاعر يجب أن يكتفي بالتلميح عن الأشياء لأن الشعر فيما يرى هو في خدمة الفكرة التي ينبغي أن يعبر عنها بمرادفات (مشابهات خارجية) وبذلك تكتسب الكلمة في ذاتها قيمة خاصة تضاف إلى قيمتها الأصلية وفي بعض الأحيان تناقضها كدلالة أيديولوجية.. وكما هي الحال في جميع المذاهب الأدبية فإن التطور الأدبي لا مناص منه لأن الحياة في الواقع تفرز عدداً غير محدود من المتناقضات وهكذا كان للحربين العالميتين الأولى والثانية وما جرتاه على الكون من فظائع بشرية وهزات دكت دعائم الحياة الإنسانية نتائج هامة على مستقبل الحياة الأدبية برمتها حيث ظهر بعد الحرب العالمية الأولى مذهب السيرالية كتعبير عن حالة الرفض المنطقي للواقع وفيه يتحرر الخيال من القيد المنطقي ويضع نظاماً جديداً غير متوقع على الإطلاق حيث العمل الأدبي والفني هو موقف أمام الأشياء وحالة ذهنية وأخلاقية وأسلوب للتعامل تجاه العالم وكل ذلك تحت ذريعة تقديم الحقيقة الداخلية والخارجية كعنصرين لهما قوة الدمج والاتحاد.. غير أن هذا المذهب لم يصمد كغيره من المذاهب الأخرى التي فقدت جاذبيتها بفضل اندثار البواعث التاريخية التي أوجدتها.. كما كانت للأحوال العامة في أوروبا وفي فرنسا خاصة بعد الحرب العالمية الثانية من تمزق اجتماعي عنيف غرقت به القيم الشائعة وانتصبت المعضلات الاجتماعية دون حلول أثر في ظهور مذهب الوجودية المعاصرة والذي ارتبط هذا المذهب في أذهان المثقفين العرب باسم الفيلسوف الفرنسي الشهير (سارتر) وهو المذهب الذي يغلب عليه الطابع الفلسفي وينزع نزوعاً متطرفاً في إثبات معنى الحرية الفردية بالإضافة إلى إنكاره للحياة الروحية برمتها، ولعله بذلك أتاح المجال واسعاً لمذاهب أدبية ونقدية أخرى معاصرة كالواقعية الحديثة وغيرها من المذاهب والاتجاهات التي أفرزتها الثقافة الغربية بسبب اتساع هوة الفراغ بين التطور العلمي والمادي الهائل والشعور العام بأهمية الجانب الروحي في الحياة..

نحو أدب عربي إنساني فوق المذاهب:
وهكذا فالمذاهب الأدبية نشأت كنتيجة لعملية تاريخية واجتماعية على مستوى النطاق الغربي ولأسباب موضوعية ساندته بالطبع أسباب ذاتية ولا دخل لنا نحن العرب بها ولكنها فرضت على الفكر العربي والثقافة العربية.. ومن الطبيعي القول الآن أن التحول الاجتماعي الذي يشهده الوطن العربي مؤهل لخلق أصول فنية لأدب عربي ثوري إنساني دون الاعتماد على التجربة الأدبية الغربية واعتناق الاتجاهات والنظريات والمذاهب التي تشكل الإطار الفلسفي لآداب وفنون الغرب..
ذلك شيء ممكن لأن الفعل الإبداعي يظل مشروطاً بشروط داخلية واجتماعية قومية وإنسانية يؤكدها التحول الاجتماعي وأنها ليست دعوة للانفصال عن الثقافات العالمية لأن عدم الانفتاح دعوة غير صحية فليس بإمكان الأديب والكاتب والمثقف العربي أن يعيش بعيداً عن تأثيرات العصر وإنما هي ضرورة للتعبير بصدق وموضوعية وأصالة عن المرحلة الحضارية التي يمر بها المجتمع العربي بعيداً عن التبعية الفكرية والثقافية.

إننا إذن بحاجة إلى ثقافة تؤكد على وحدة البناء القومي العربي، بحاجة إلى أدب إنساني النزعة فوق المذاهب وتعقيداتها بعيداً عن الكيانات الأيديولوجية الإقليمية المعزولة بين التمذهب والتخلف، أدب يمارس فيه الأديب العربي وعيه الحضاري والاقتصادي في ظرف تاريخي واجتماعي محدد.

بريد الكاتب :

mohammed_gber_elrifi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية