أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

انتصار سليمان في (ما وأدت الشك)

موقع حسين توكلا تفتأ انتصار سليمان تراود القصيدة عن نفسها وهي تدخل ديوانها السادس بحضور طاغ لضمير المتكلم الذي حضر في معظم عناوين مجموعاتها الشعرية.. دروب إليك وجمر علي، أبشرك بي، فاتك انتظاري.. فتعنون هذه بـ (ما وأدت الشك).. ولا بد من الإشارة إلى لمعة العنوان في كل ما كتبته انتصار.. الشاعرة تتعب على العنوان كما تتعب على النص وربما أكثر… العنوان، العتبة الأولى للنص.. إما أن ترتب دخولك فيه بما يليق بشعر أو تحمل خيبتك وتمضي.


تحضر قصيدة طويلة واحدة في المجموعة، (كبريت مغلوب على أمره)، ومعضلة الطول في القصيدة هي جنوحها أحياناً كثيرة إلى الإنشاء والاسترسال اللغوي، لا تكاد تنجو منه قصيدة في الشعر الذي تلا المعلقات وعصور ازدهار القصيدة.. ففي عصر اندحار الشعر بل الكلمة أصبح الطول وبالاً على الشاعر، فيكاد يكون على حساب الشعرية. وإن كانت هناك استثناءات تأوي إلى موهبة فذة كمحمود درويش، أو عمق معرفي كأدونيس.. لكن انتصار تتغلب عليها بتجزيئها إلى مقاطع مترادفة بكلمة واحدة: أعطني..وتنجح في ذلك إلى حد كبير:
(أعطني أناي التي فارقتني
نسائي اللواتي احتججن عليك
أدغال أوهامي
وأشياء بادلتك العنب
)
و:
(أعطني عنوان أمك
كي أفك طلاسم سحرك
وزوجتك القادمة
لأتحسس بشرة أطفالك
)
(إن الشعر ليس مجاله الإجابة عن الأسئلة، مجاله افتتاح الأسئلة، قد تكون إحدى تعريفات الشعر هو افتتاح الأسئلة لكننا دائماً نبحث بشكل عقلاني عن الإجابة).
هكذا تعرف الشاعرة الشعر ذات لقاء، لكنها في (ما وأدت الشك) تمارس لعبة معكوسة إذ تحفل القصائد باليقين، بالكلام الحاسم الجازم، تغلب على القصائد الجملة الخبرية.. مما يؤكد أن الشعر مثل الحب لا يعرف، وأن أي تعريف له هو مغامرة كبرى.. ويؤكد ما قاله مرة الناقد محمد جمال باروت: (أن نشتق معرفتنا بالشعري من الشعر نفسه) وهكذا.. فالشعر يكتب اسمه.
في أولى قصائد المجموعة (أودعني محارة الأيام) تطلق الشاعرة العنان لشعرية تهشم اللغة أحياناً وتذهب بالمفردة إلى أقصى استعمالاتها (خذني برأفة غامض القاع لديك/ دعني أوسّد الحلم/سرّح شعره/ أودعني محارة الأيام) ثم (وكان قلبك تحت عنقي بقبلتين/ وكنت أتقرى بعينيك معجزة أناي الصاخبة)..والأنا حاضرة هنا وفي كثير من القصائد بكثافة لافتة.. فتتكرر لفظاً إحدى عشرة مرة في قصيدة (ماذا أخبىء لكم) في أربع صفحات من القطع الوسط.. أما كمعنى فتكاد تغلب على مفردات المجموعة.. وهي أنا تغلب الشاعرة.. تجتاز حواجزها وتحجز مكانها في القصيدة.
في (شفة النبيذ)قصيدة الذاكرة، ذاكرة البراءة والعطر الضائع، إذ تشتاق الشاعرة إلى كل ما حاك ذاكرتها القريبة والبعيدة (أشتاقني دالية تؤرخ/ عشق من عبروا على شفة النبيذ/ سيفاً توضأ من ماء صباي..). وتقع في شرك الكلام العادي عند بعض الاستطالات في (للسيد الغياب) الحافلة بالومضات الحارقة والمترفة بالشعر (نحن الفقراء الموزعين/ على تخوم الملاعق / نستبشر خيراً كل صباح) وحسبنا أن نقرأ هذا المقطع الخارج على سياق الشعرية العالية في القصيدة (خال أنني ورقة/ يمكن له إحراقها وذر ضيائها/ على جسد ميت/ راوغني بشدة/ وحين فلشت حقيبتي/ لعن سوء المنتج).
تقوم قصيدة الومضة على الصّفاء والألق، حيث الجمع بين المتضادات في المعنى والتّقريب بين المتنافرات في الدّلالة. فبين الهم والفرح والرّهبة والنّشوة تجد الشّعرية ملاذها. هنا في هذه المجموعة تجدل انتصار قصائد من وميض برق يضيء ويخبو تاركاً لنباهة المتلقي أن تلتقط اللحظة الشعرية في عز ألقها، أو يفقدها ويجنح لانتظار برق آخر.. وأكثر ما يظهر ذلك في قصائد مثل: حداد، طرق يدي، اعترافات سيدة البياض.. وهي حقيقة من أكثر قصائد المجموعة حساسية شعرية وترف لغوي.
يبدو واضحاً إحساس الشاعرة كما كثير من شعراء قصيدة النثر أن مفردات اللغة أصبحت عاجزة عن حمل معانيهم، فالمفردات استنفدت طاقتها الدلالية، وكأنها أصبحت مفردات صوتية مفرغة من المعنى، فتسعى إلى مغادرة هذا المعجم المستهلك باتجاه اكتشاف فلوات جديدة للمعنى تخرج المفردة من أسر المعنى المتداول.. لتؤسس لجمالية تعني مراوغة المتلقي ليكون وصوله إلى الناتج نوعاً من المجاهدة الذهنية والنفسية.
(جرداء أغنية المساء/ قاحلة لحد الملل/تباطأ العد/ أصارع حرفين (الحاء برد مكوم) من أسفل الجرف (الحية) باء.. ستسقط طيعة في زحمة الحاء الصقيع) من (غربة الدفلى) ص 48.
في بعض قصائد المجموعة يبدو الميل إلى (الهدم اللغوي) واضحاً، إذ يتصادم كل تركيب مع ما يسبقه وما يلحقه، (الغار يباس على جبهة الوهم (قدر الطرقات انتعال الذاكرة)، المجد لساق القمح/ الهرم لا يتبدل..) من (غرق الأقحوان) ص 45.
لقصائد الديوان الأخرى أن تعتب لأن الوقوف عند كل ما احتوته المجموعة يستلزم دراسة نقدية مطولة وشافية ننتظرها من نقاد الشعر، ولا تكفي إضاءة صحفية كهذه لتعطى القصائد حقها..
المجموعة صادرة عن دار الينابيع 2011، والغلاف صممه الفنان رائد خليل.
حسين خليفة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية