أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

أقنعة الأساتذة / شاكر لعيبي


موقع حسين توكبعض المقالات التي نقرأها لا تنفع بشيء سوى اكتشاف النسق الثقافي والبنية العميقة التي تحرّك الثقافة العربية، بينما بعض المقالات التي لا نقرأوها أبداً، تَحْجب وهي تقدِّم الدرس نفسه تماماً لكن عبر الصمت. أول دروسها يكمن في أن نسقاً، أن نظاماً ثقافياً إنما يتكوَّن من سلسلة غير مقطوعة المفاصل تطوي فعاليات الثقافة بأشكالها الرفيعة وتلك الأقلّ رفعة: من النشاط الكتابي مروراً بأشغال المطبخ وآداب قيادة السيّارة في الشارع وغير ذلك. هذا يعني، لو صحّ، أن هناك تصوّراً عاماً عن العالم والذات يتجلَّى في الأنشطة كلها دون استثناء. ثمة النسق الثقافي الذي يطلّ علينا كل مرّة برأسه اللجوج.
ثاني الدروس يطلع من هنا بالضبط أن فساداً سياسياً في العالم العربي أنتج، في سياق هذا النسق عينه، فساداً ثقافياً مماثلاً أشدّ خطورة. لاحظْ أن جميع ملفات الفساد الثقافي هي الوجه الآخر من نظام فاسد أشمل لا غير، فالمحرّك الجوهري لهذا الفساد وذاك، هو العقلية نفسها، هي المنهجية بحذافيرها.
لنأخذ نسقاً ثقافياً عربياً تقليدياً معروفاً: يتكوَّن العالم من أساتذة وطلبة، من مُبتدعين ومُريدين، من مبدعين ومقلّدين. عرفنا هذا النسق منذ الكتابات النقدية الأولى التي قسَّمت الشعراء وفق طبقات، وظلَّت فاعلة، رغم التغير الجوهري الذي مسَّ العالمَ، إلى يومنا هذا كما تُبرهن عليه تسمية «كبار» الشعراء العرب المعاصرين، الذين منحهم نسقُ ثقافتنا العربية لقبَ «الكبير» بدلاً من لقب «إمارة الشعر» و«أمير الشعراء» الذي استُخدم بدوره بديلاً عن «الفحولة الشعرية» و«الشاعر الفحل». هذا نسق عام يجري مجرى البداهة. لا وجود منذ البدء في هذا النسق لمبدأ «التساوي» و«الندّية» حتى على المستوى النظري المحض، لأن هذا المبدأ الأساسي غير موجود عملياً في الوعي العربي - الإسلامي بكل بساطة، حتى لو زُعم خلاف ذلك. مشكلة واحدة لم تُناقَش هنا: كيفية الحصول على هذه الألقاب. نتركها لوقت آخر.
في التقسيمات الجغرافية العربية حضرت، وفق النسق عينه، ولوقت طويل، أنظمة تقسيم العالم العربي إلى مراكز وأطراف، إلى بلدان رائدة وأخرى مُقلِّدة، إلى أساتذة هنا وتلامذة هناك. وإذا ما كانت هناك أسباب موضوعية لـ«تطوُّر» بعض البلدان في وقت مبكر وتأخُّر بعضها، وكلّها تتعلّق بالدخول الحثيث الشكلاني لمفاهيم جديدة خلال ما سُمِّيَ بالنهضة إلى عالمنا، فإن تلك الأسباب قد انتفت منذ سبعينيات القرن الماضي على الأقل. كانت بلدان مثل مصر ولبنان من أوائل البلدان التي دخلت في «ريادة» التحديث في العالم العربي، لأسباب موضوعية وتاريخية واستعمارية.
لقد ظلَّت النخب في بعض البلدان تمارس تعالياً وأستاذية على أبناء جلدتها، ولم تتقلَّص إشكالية «تفوُّقها» الذي مضى زمنه إلا بسجالات قاسية وآلام كبيرة. كان مثقفو القاهرة «يحتقرون» أبناء الأرياف والصعايدة حتى وقت قريب. في العراق أيضاً نُظرَ إلى أبناء الجنوب (الشروقية) كرديف للانحدار الحضاري. أما في لبنان فقد مارس أوائل المتنوّرين من الأوساط الأرستقراطية التي نشأت في أرفع معاهد فرنسا الأمّ، تعالياً فائقاً على جُلّ أبناء المناطق الفقيرة في بيروت نفسها، المسيحية والمسلمة. الطائفية الضاربة بجذورها في لبنان هي تعبير بليغ عن تمسُّك البعض بميزات رمزية ثقافية عالية لا يودّ التنازل عنها. المثال الأبرز لتعالي بعض الأوساط اللبنانية على غيرها من أبناء لبنان هو الذي مُورس ضدَّ أبناء الجنوب اللبناني وقتاً طويلاً، ولعله كان أحد أسباب التشنُّج السياسي والحرب الأهلية عام 1975.
ظلّ لبنان يُقدِّم ثقافة تنويرية رغم ذلك لعلها الأهمّ في العالم العربي، وظلَّ أهمّ مثقفيه، وهم كُثر بل الأغلبية الساحقة، يُقدِّمون الأمثولة الرفيعة عن التسامح والنظر الثاقب. جُلّهم وليس كلهم، إذ عندما نطالع مقالات بعض المثقفين نرى أنهم ما زالوا في طور الأستاذية العتيقة والتعالي الطالع ليّناً هادئاً الآن على غيرهم، لسببَين: الأول يتعلَّق بالنسق الثقافي الموصوف. تعلَّم هذا البعض الإفادة من ميزات حرّية النشر والصحافة والتعبير الذي جعل من البلد مكاناً لضخِّ المال العربي، بطريقة يتوجَّب فيها إعلان تفوّق ثقافيّ ما، لكي يمكن الوثوق بالمآل الآمن للمال المدفوع. والثاني يتعلَّق بضيق أفق بعضهم وبقاء وعيهم على تخوم القرن التاسع عشر.
وسآخذ مقالتَين، عنّي لسوء الحظ، كدليل على نموذج هذا التفوّق المتخيَّل الفجّ في بعض الأوساط: مقالة لمحمود الزيباوي وأخرى لأنطون جوكي.

محمود الزيباوي
لن تهتم هذه الكلمة بالملاحظات التي تُثيرها مقالة محمود الزيباوي عن كتابي «تصاوير الإمام علي» المنشورة في النهار (12 تشرين الثاني 2011)، لأنها لا تقع في نطاق الكلمة الحالية من حيث المبدأ.
يُقدِّم الزيباوي لقراء لم يقرأوا الكتاب سيناريو تصاعدياً ذكياً مشحوناً بإحكام من عيار الأستاذية الثقيل، حيث تبدأ مقالته بالوصف الذي يبدو موضوعياً: «يُقدِّم الباحث العراقي شاكر لعيبي قراءة تحليلية...».
لكنه كلما توغَّل في عرضه لم يستطع أن يُخفي غيظه وتفوّقه الافتراضي: «غير أنها تُهمل الأساس، كما أنها تتشتَّت وتتعثَّر في مواقع عدّة، مما يجعل منها دراسة ناقصة»، «تختلط الأزمنة والأعمال بخفَّة لا تليق بالبحث الجدّي»، «خالطاً بين الأزمنة والمراحل والأساليب من دون أي تدقيق. في هذه القراءة الهجينة...»، «نقع على العديد من المغالطات في هذا الميدان»، «خالطاً من جديد بين فنون الغرب والشرق بعيداً عن أي رابط زمني منطقي».
لكي ينتهي بجوهر ما يريد أن يقوله: إنني كاتب «سطحيّ»، مكرّراً إياها ثلاث مرات في السطور الختامية من مقالته: «ينسج الكاتب مقارنات سطحية بين التقاليد المسيحية والتقاليد الإسلامية»، «في الخلاصة، أهمل شاكر لعيبي في كتابه الميراث القديم ولم يتطرّق إليه إلا لماماً بشكل سطحي»، «يغلب على النص الطابع الأدبي الإنشائي، وتبدو القراءة التشكيلية سطحية وواهنة».
هذا السيناريو بارع، لأنه يبدأ كأنه يستعرض كتاباً بشكل هادئ، ولكنه ينتهي بالوصف الأسوأ الذي يمكن أن يوصف به شاعر وباحث جامعي: السطحية. إن الخلاصة التي يمكن الطلوع بها، بسهولة فائقة، من هذا النموذج الصريح هو افتراض محمود الزيباوي نفسه أستاذاً عربياً، لعله الوحيد، المؤهَّل لنقاش موضوع كهذا بالجدّية والعمق الكافيَين. لعل الزيباوي قد قدَّم بعض الملاحظات التي تستحق التأمّل، لكنها قيلت في سياق متشنّج يُخفي أستاذية افتراضيةً وغيظاً يجعلها تفقد كل أهميتها، لأنها لا تستهدف المعرفة النبيلة بل تمجيد ذاته المتضخّمة. كيف لتلميذ سطحي أن يناقش ملاحظات أستاذ مكرّس بحق وبغير وجه حق؟ وجَّه محمود الزيباوي بمقالته أكثر من رسالة، واحدة إليَّ تتعلَّق بسطحيتي، والأخرى إلى ناشري الذي كان عليه ألا يُقْدِم على نشر كتاب من «اختصاص» الزيباوي، وألا يحتفي به في معرض بيروت للكتاب. هنا شيء من الشرّ الصافي. هل يجوز تقديم مثل هذه الأحكام الثقيلة في عرض صحافي لقراء لم يطَّلعوا على العمل؟ تجيز منهجية الكاتب الطالع من النسق الثقافي العربي الموصوف أن يحاكم التلميذ على هذه الشاكلة. لماذا يبذل محمود الزيباوي هذا الجهد في الكتابة عن كتاب سطحيّ إذا لم يبتغِ تقديم نفسه بديلاً رصيناً في موضوع البحث؟
هذا النسق سيمتدُّ من الزيباوي إلى أحد «أنصاره» على النت، فقد أعاد أديب اسمه فاروق عيتاني نشر مقالة الزيباوي في مدوّنته. يتعلَّق الأمر بالحرّية الشخصية الصافية التي لا اعتراض عليها. لكن الرجل أعاد بعد فترة نشر مقالة يوسف بزي عن كتابي نفسه (جريدة «المستقبل») واضعاً فوقها التعليق الآتي: «يوسف بزّي داخلاً على اختصاص محمود الزيباوي»، وتحتها «للمقارنة بين ما كتبه بزي وما كتبه الزيباوي عن الموضوع نفسه». فكتبتُ له مستفسراً عن هذا الموقف السالب وفي ما إذا كان قد قرأ عملي، ولدهشتي أخبرني بأنه لم يقرأ الكتاب وأنه سيشتريه ويحتاج إلى أسبوعَين أو ثلاثة ليقرأه ويُطلعني على رأيه! أليس هذا من العُجاب؟ بالنسبة إلى عيتاني هناك بداهة الأستاذية التي تجعله يثق بها خبط عشواء ويرفض بقوّة من «يدخل على اختصاصها». نموذج عيتاني يؤكد وجود فكرة الأستاذية وبداهة التفوّق على الآخرين في نطاق لبنان وخارجه.

أنطون جوكي
يبدأ أنطون جوكي مقالته («الحياة»، 13 تمّوز 2008) في نقد ترجمتي لأعمال ريلكه الفرنسية بالعبارة التالية: «ثمة مثال لبناني يقول: أعطِ خبزك للخبّاز وإن أكل نصفه. ولكن مع الأسف بعض الصحافيين العرب لا يعملون بهذا المثال بل نجدهم يتعدّون غالباً على كار غيرهم ويُنصِّبون أنفسهم متخصصين في مجالاتٍ لا كفاءة لهم فيها على الإطلاق». هل تحتاج المقارَبة إلى توضيح؟ هناك الأستاذ المختصّ في التصوير الديني أمام جاهل سطحي، وهنا الخبّاز المختصّ باللغة الفرنسية أمام «ترجمة ضعيفة تعجّ بالملابسات والأخطاء التي تتجلّى لأي قارئ متمكِّن من اللغتَين» والذي يَفْضَح «عدم دراية لا بفنّ العنونة وحدَه بل بالعلوّ الأدائيّ للعبارة العربية» والذي «بسذاجة ينبّه القارئ...» و«غالباً ما تلتبس الدلالات على المتدرّبين أو المتسرّعين في الترجمة بباعث من تشابه المفردات»، و«أنموذج باهر لترجمة يُقام بها كيفما اتّفق». إنها عبارات الزيباوي نفسها عن السذاجة في سياق آخر. إنها الروح نفسها.
موضوعياً لنطرح السؤال الآتي: ما الذي يجعل بعض المثقفين يُهاجِم، بمثل هذه اللغة النفّاجة، بعض الأعمال، بينما يصمت على أعمال أخرى يحسبها سيئة أيضاً، أو لعلها أكثر سوءاً؟
من جديد نحن أمام أنظمة وأنساق تشتغل بها الثقافة في لحظةٍ محدّدة. فالثقافة العربية تاريخياً لم تكن حرّة من الداخل والخارج، وقد اعتادت منذ زمن طويل أن تشتغل في نطاق تصالحي، مخزٍ أحياناً، مع من يتحكم بوسائل الإعلام وبالسلطات الرسمية والمؤسسات الثقافية الأجنبية أو هيمنة رأس المال الذي تعمل لحسابه، مباشَرة أو مداوَرة.
في لبنان وغيره، لا يهاجم أشخاص مثل الزيباوي وجوكي مَن يعتقدون أنه يمتلك «سلطة» ثقافية مؤثرة. هنا يتقلَّبون... بين الخوف والمنعة.

«الغاوون»، العدد 48، 10 أيّار 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية