أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

اصول العلمانية: “الدوناتية” و”الأريوسية” نموذجين لعقلنة المسيحية وعلمنتها || علي أوعبيشة

توطئة:
لا يمكن فهم العلمانية اليوم، إلا بالنظر إلى الشروط التي أسهمت في تراكمها إلى أن فرضت نفسها بقوة متجاوزة الإيمان اللاعقلاني والنظرة السحرية للعالم -على حد تعبير تايلور- من جهة وكذا الفصل بين الاعتقاد الديني والممارسة السياسية من جهة أخرى، كما أن أيّ فهمٍ لسيرورة وصيرورة التعَلْمُن Sécularisation لا يمكن أن يتحقق بعيدا عن النظرة التاريخية، لما لها من قدرة على تتبع اللحظات المفصلية التي كان لها الدور الأساسي في إيصال أوروبا الحديثة إلى العلمانية
بمختلف تجلياتها، ذلك لأن “شعورنا وفهمنا لأنفسنا كعلمانيين ينبثق من رحم شعورٍ بتجاوز وتمرّدٍ على الصيغ المبكّرة والسالفة للإيمان”[1]، وهذا لم يتأتّ دفعة واحدة، أو في ظرفية قصيرة جدا، بل تطلّب الأمر مسارا طويلا من التضحيات الفكرية، انطلق منذ البدايات الأولى للمسيحية، وصولا إلى لحظة الانقلاب الجذري على المسيحية فكريا، من خلال، كتابات فلاسفة عصر الأنوار وسياسيا بالثورة الفرنسية.
لهذا ارتأيت، في هذه المقالة المختصرة أن أقدّم نموذجين تأصيليين للمحاولات الأولى التي رمت دون قصد التأسيس ولو من بعيد للعلمانية، كلاهما، ينتميان إلى البدايات الأولى للمسيحية زمن الإمبراطورية الرومانية، يتعلّق الأمر بالمدرسة الدوناتية والاتجاه الأريوسي في الفكر المغاربي، اللذين انخرطا في مسار الفلسفة اليونانية التي امتدّت إشكالاتها إلى المدارس الفكرية الرومانية، الأولى ساهمت في التأسيس لعقلانية الإيمان، والثانية كان لها الإسهام الكبير في التمييز بين الدين والدولة، وفصل الإيمان عن الخلفيات السياسية.
الأريوسة: أول محاولة لعقلنة المسيحية بروز الأريوسة ورهاناتها
تعتبر المدرسة الأريوسية[2] (arianisme) أول محاولة لعقلنة المسيحية، انشقت عن التوجه اللاهوتي السائد آنذاك في الكنيسة الكاثوليكية (القرن الرابع الميلادي، زمن انتشار المدرسة)، أخذت على عاتقها إعادة النظر في أسس المسيحية القائمة على التثليث، إذ رفض أريوس وهو رائد التيار الأريوسي ومؤسسه، فكرة النظر للإله المسيحي من زاوية أن له تجليات ثلاثة هي: الأب والإبن وروح القدس، الشيء الذي “أحدث(…) ضجّة في الأوساط المسيحية الكاثوليكية لشذوذه عن التوجه العام المعروف، لهذا تم إعلان الأريوسية هرطقة أو بدعة «hérésie » “[3]، غير أن هذا الموقف الصّارم الذي صدر عن الكنيسة الكاثوليكية المركزية، لم يقضِ بإطلاق على هذا التوجه العقلاني، إذ سرعان ما، تجدّدت قوته وذاع صيته فاكتسب أريوس Arius أنصارا كثيرين.
استمرّ الصراع بين أنصار أريوس وحرّاس الموقف اللاهوتي المسيحي السائد، واحتدّ وتفاقم أكثر بانتشار أفكار المدرسة إلى درجة أن عُقد لقاء عرف بمؤتمر نايكيا[4]، كان ذلك عام 325م، كان القصد منه بالأساس الدفع بأريوس من قبل كهنة روما، في اتجاه التراجع عن أفكاره وتقديم الاعتذار الرسمي للكنيسة الكاثوليكية. غير أن أريوس رفض بشدّة هذه الدعوى، كما رفض “توقيع وثيقة الإيمان التي تنص على أن المسيح ذو طبيعة إلهية تشبه طبيعة الإله الأب”[5].
غير أن الانتشار السريع لأفكار أريوس في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية، دفع روما إلى نفي الكاهن المهرطق -المقلق لتوجهها المسيحي العام- إلى أسيا الصغرى بحلول عام 326م، فبقي أريوس هناك بمنفاه القسري إلى أن مات حوالي سنة 336م.[6]
لم تقدّم الأريوسية نفسها كدين جديد ولم تسع لذلك، “وإنما كانت تأويلا جديد لدين قديم، إنها إذن لمسة أو مذهب من مجموع المذاهب التي نشأت عن التأويلات المختلفة للديانة المسيحية في صيغتها الكاثوليكية الرسمية، لكن الأريوسية تميزت عن غيرها من المذاهب في كونها مسّت في العمق الديانة المسيحية”[7].الشيء الذي دفع عبد السلام بن ميس إلى اعتبار الأريوسية مشروعا فكريا ضخما بمثابة “الانطلاقة التاريخية للإصلاحات العقلانية التي شهدتها الكنيسة ابتداء من القرن السادس عشر، خاصة البروتستانتية، بجميع أشكالها، ونزعة شعود يهوه المعاصرة”[8]
إنّ أهم ما قامت به الأريوسية، أنها حاولت قراءة النصوص الدينية المسيحية ب/من خلال المنطق الأرسطي، كما لو أنها، أرادت أن تجعل الدين المسيحي ممددا على سرير أوكام، لتبتر كل ما تمت إضافته من أطراف سحرية ولاعقلانية.
همّ العقلنةRationalisation هذا، دفع الأريوسية إلى“تجريد النصوص الدينية من الغموض الذي يشوبها وذلك بفضل استعمال المنطق الأرسطي، خاصة من طرف مدرسة أنطاكيا التي انتمى إليها أريوس”[9].
امتدادات الأريوسية …تأثيرها على البروتستانتية
لم تنتهِ الإريوسية ولم تتراجع بالرغم من القمع والقهر اللذين واجهت بهما الكنيسة الكاثوليكية كل من يناصر مذهب أريوس أو ينتمي إليه، إلى حدّ أن شعوبا بأكملها تبنّت هذا الخيار، خاصة الوندال والشعوب الجرمانية والأستروكوتيون[10]، بل إن تأثير الأريوسية سيتعاظم ويزداد قوة، مع الإصلاح الديني الذي عرفته أوروبا في القرن السادس عشر، بين الكاثوليك والبروتستانت، إذ أستلهم التوجه البروتستانتي عن الأريوسية النزوع نحو “تناول النصوص الدينية بالتحليل العقلاني”[11].
بهذا المعنى نفهم، أنّ الأريوسية لم يكن تأثيرها لحظيا، بل استمر حتى في الحقبة الحديثة، كدليل جوهري على إسهامها في المخاض الحديث لسؤال الإصلاح الديني، والذي عبّر، عنه ماكس فيبر بنزع الطابع السحري عن العالم، إلى جانب الدّور الذي لعبته البروتستانتية في تشكيل مبادئ الفكر الليبرالي (الرأسمالية)، أو لنقل العلمنة الليبرالية للمفاهيم البروتستانتية الدينية، إذا سمح لنا كارل شميت بتوظيف عباراته.
الدوناتية: محاولة أساسية ل”فصل الدين عن الدولة”
تتجه مختلف التعريفات التي قدّمت لمفهوم sécularisme في اتجاه اعتباره فصلا وإعلان قطيعة بين الإيمان والسياسة، ما جعل تايلور مثلا يعرّفه ب”العقيدة السياسية التي تحيل بشكل أساسي إلى الفصل بين الدين والسياسة”[12]، ومهما اجتهدنا في التحديد فلا يمكن التأريخ بدقة لزمن بدايته، ذلك لأن الممارسة سبقت المفهوم، ومن غير المعقول تقييد الممارسة بظهور المفهوم وإرجاعها إليه.
فإذا أخذنا بالمعنى المتداول، والذي عبّر عنه تايلور أيضا، فيمكن جرد العديد من أشكال ممارسة sécularisme قبل الثورة الفرنسية وقبل ظهور مفهوم laïcité عام 1904، إن العلمانية بهذه المعاني، أقدم من أن تكون حديثة أو معاصرة، أو على الأقل إن جذورها أقدم مما حدّدته توجهات العقل السياسي الحديث.
خير مثال على ما أردنا قوله أن التعلمن sécularisme بكامل أوصافه وتمام مرجعيته الفكرية على الأقل، تحقق بشكل عملي “ممارسة” من خلال توجّه فكري/ديني، طبع البدايات الأولى أيضا للمسيحية، سميّ بالدوناتية، وكان له الأثر الكبير على ما تلاه من تيارات سياسية هدفت إلى فصل الدين عن السياسة.
ظهور الدوناتية ورهاناتها
كان للطغيان الذي مارسه الرومان على ساكنة شمال إفريقيا باسم المسيحية، أثرا كبيرا على الإيمان ساكنة هذه الرقعة الجغرافية، إذ ساهم في فصل سكان شمال إفريقيا آنذاك بين المسيحية بوصفها ديانة والمسيحية باعتبارها إيديولوجية سياسية للرومان، فقد “حملت هذه الحركة راية الرفض للخضوع لإرادة الإمبراطور، ومقاومة أساقفة الكنيسة الذين رضوا بالانضواء تحت لواء الدولة وقبلوا شروطها، والتي تعتبر بالنسبة لهم نيلا شديدا من مبادئ المسيح وتحطيما لقوة المؤمنين المخلصين للنصرانية”[13]، غير أن الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة لم تأتِ من رجال السياسة، بل أتت هنا من رجال الدين، كتعبير أسمى لدرجة وعيهم وتأثيرهم الشديد بالأريوسة التي سبق لها أن قرأت النصوص الدينية وأخضعتها لمقياس العقل (عقلنتها) وأثبثت (صحة) أفكارها بالقياس المنطقي الأرسطي.
لقد واجهت الدوناتية باعتبارها حركة دينية متنورة، ظلم الرومان “الإمبراطورية الرومانية”، معارضة الاستبداد وكذا الكنيسة المتواطئة معها، ومتهمة السلطة السياسة الرومانية بسرقة الإله من قلوب المسيحيين، لتسكنه قصور الإمبراطور، ما جعلها(أي الدوناتية) تبرز في الكتابات التاريخية بوصفها “صورة تيار ديني مستقل رفض جميع أشكال التعاون مع السلطة، ممتنعا عن الامتثال لأوامر الإمبراطور الذي استغل المسيحية لأغراض سياسية، وذلك بتفريغها من مضمونها الأخلاقي والاجتماعي. وبالتالي المحافظة على المبادئ الأصيلة التي تجمع حولها المتنصرون الأوائل وضحوا من أجلها”[14].
لقد قدّمت الدوناتية، نفسها محاولةً جزئية من قبل رجال دين متنورين، لفصل الدين عن السياسة، حتى لا يُسخّر لأغراض سياسية، فيصبح مجرّد أداة للظلم والطغيان، وهذا لبّ ومبتغى العلمانية، إذ إن غايتها ليست هي القضاء على الدين بإطلاق أو هدم الإيمان، بل وفقط فصل كل ما يرتبط بالإيمان والاعتقاد الديني عن مجال السياسة، حتى يكون ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وتجدر الإشارة إلى أن القديس دوناتوس أو دونا الأكبر، قد انشق “عن المذهب المسيحي الذي أراد الإمبراطور الروماني تيودور فرضه على الشعوب الخاضعة لحكمه، منذ تبنيه له سنة 391م”[15]
امتدادات الدوناتية ودلالاتها العميقة
لم تُطوَ صفحة الدوناتية بمجرّد التعبير عن الرفض وإبداء القلق والغضب والتنديد الفكري، بل سرعان ما تحوّلت الدوناتية إلى حركة سياسية، أشعلت نيران ثورة كبرى ضد الرومان،غير أن ما يهمنا من تيار الدوناتية ما يلي:
أولا: دعا إلى فصل الدين عن الدولة، أي المسيحية عن الإمبراطورية الرومانية، وناضل من أجله واستطاع أن يحقق هذا المطلب ولو نسبيا لمدة زمنية قصيرة. وثانيا: أن مطلب الفصل هذا، لم يكن من قبل رجال السياسة بل من قبل رجال الدين المتنورين، الذين آمنوا، بأن الإيمان لا يجب أن يكون عنصرا سياسيا، ليتم بذلك استغلاله واستعماله لشرعنة الظلم وتسييد الطغيان.
ثالثا: أن العلمانية، ليست منتجا حديثا. صحيح أن اللفظين المرادفين لها في الفرنسية، لم يظهرا إلا في فترات زمنية محدد (حديثة ومعاصرة)، إلا أن ممارسة العلمانية كانت سابقة عن مفهومها ولو بصيغ يشوبها النقص والضعف أو لنقل مخفّفة، وهذا ناتج عن طبيعة الأفكار القائمة وكذلك طبيعة الشروط التاريخية السائدة آنذاك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية