(يأتي شرفاء من مصر. كوش تسرع إلى الله). (العهد القديم، المزمور 68: 31)
ومن الثابت تاريخيًا وأثريًا أن كوش من أسماء النوبة، وقد شاع هذا الاسم في مصر منذ عصر الدولة الوسطى.
وورد ذكر النوبة في العهد الجديد (الإنجيل):
(ثم إن ملاك الرب كلم فيلُبُس قائلاً قم وأذهب إلى نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي برية.فقام وذهب. وإذا رجل حبشي خصي وزير لكنداكة ملكة الحبشة كان على جميع خزائنها).
(العهد الجديد، أعمال الرسل، الإصحاح الثامن: 26-27).
في الإصحاح الثامن من سفر أعمال الرسل عن وصول المسيحية إلى الحبشة عندما كلم ملاك الرب فيلُبُس ليذهب إلى الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة لكي يقابل وزير (كنداكة ملكة الحبشة) ليكلمه عن المسيح ويعمده.
ولكن هل (كنداكة) ملكة الحبشة (أثيوبيا الحالية) أم ملكة النوبة؟ ويطرح الباحث هذا التساؤل في ضوء ما يلي:
أولاً: جاء في العهد القديم أن كوش أي النوبة جزء من مصر: (يأتي شرفاء من مصر. كوش تسرع إلى الله).
وكوش التي ذكرت في العهد القديم لا صلة لها بأثيوبيا الحالية بل هي المنطقة من حوض نهر النيل التي تعرف بالنوبة والواقعة في الحدود الجنوبية لمصر والشمالية للسودان، وقامت فيها ثلاث ممالك هي:
-الأولى وعاصمتها كرمة (2400 -1500 ق.م).
-الثانية وعاصمتها نبتة (نباتا) (1000 – 300ق.م).
- الثالثة وعاصمتها مروي القديمة (البجراوية) (300 ق.م – 300م).
وخرجت من كوش الأسرة الخامسة والعشرون في التاريخ الفرعوني، وحكمت مصر، ومن أشهر ملوكها: الملك بعنخي (752 – 721ق.م)، والملك شباكا (721 – 707 ق.م)، والملك شبيتكو (707 – 690ق.م)، والملك طهارقا (690 -664ق.م).
ثانيًا: أن المسيحية قد دخلت مصر قبل الحبشة (أثيوبيا الحالية)، والنوبة جزء من مصر، وإن كان لها آنذاك (العصر الروماني) مملكة مستقلة، ويذكر تقليد الكنيسة في الحبشة (أثيوبيا الحالية) أن أول من بشرها هو القديس متى الرسول، وليس عن طريق فيلُبُس كما ورد في سفر أعمال الرسل، مما يؤكد أن الإشارة في العهد الجديد للنوبة وليس لأثيوبيا.
ثالثًا: الطريق الذي قابل فيه فيلُبُس وزير كنداكة هو الطريق التجاري القادم من أورشليم إلى غزة ومنها إلى مصر، وهو طريق يؤدي إلى مصر و ليس إلى أثيوبيا.
رابعًا: أن (كنداكة)، و(كوري) لقبا الملكة في مملكة مروي، ولقب (كنداكة) يعني (الزوجة الملكية الأم)، وأشهر من تلقبت به هي الملكة أماني ريناس (أماني رينا) التي تولت الحكم ما بين سنتي 40 – 10 ق.م، وهي التي قادت ثورة النوبيين ضد الرومان سنة 25 ق.م.
خامسًا: جاء في تفسير معجم كلمات الإنجيل أن كنداكة تعني: (ملكة بلاد النوبة ( مروي). وقد اهتدى أحد وزرائها الكبار الذي كان على خزائنها إلى الإيمان بالمسيح بواسطة فيلُبُس المبشر الذي لاقاه بين أورشليم وغزة. وقد اتفق سترابو، وديون كاسيوس، وبليني أن مروي حكمتها في القرن المسيحي الأول سلسلة متتابعة من الملكات دعيت كل منهن باسم ( كنداكة).
سادسًا: أثيوبيا كلمة يونانية تعني كما جاء في تاريخ هيرودوت: أرض السواد أو محرقو الوجوه، وكان الإغريق يطلقونها على البلاد الواقعة جنوب أسوان وحتى أثيوبيا الحالية، مما أدى للالتباس بين النوبة والحبشة (أثيوبيا الحالية).
سابعًا: استخدمت الترجمات اليونانية والإنجليزية للكتاب المقدس لفظ (أثيوبيا) بينما استخدمت الترجمة العربية لفظ (الحبشة).
ثامنًا: انتشرت المسيحية في بلاد النوبة وقامت فيها مملكتان مسيحيتان هما مملكة علوة في الجنوب، ومملكة المقرة في الشمال التي ظلت قائمة بعد الفتح العربي الإسلامي لمصر سنة 641م، وفي سنة 651م قاد والي مصر عبدالله بن سعد بن أبي السرح حملة تمكنت من التوغل جنوبًا حتى وصلت إلى مدينة دنقلة عاصمة مملكة المقرة ووقع معها معاهدة عرفت باسم (معاهدة البقط).
تاسعًا: من الأدلة الأثرية على انتشار المسيحية في النوبة أن بعثة أثرية برئاسة بلاملي أستاذ اللغة القبطية في جامعة كمبردج عثرت خلال تنقيبات في قرية أبريم بالنوبة على وثيقة تقليد الأسقفية مسجلة بالخطين القبطي والعربي مع جثة أسقف نوبي تم ترسيمه في الكنيسة المعلقة قمصًا ثم أسقفًا باسم تيموتيئوس النوبي في 19 هاتور سنة 1088 للشهداء (1372م) خلفًا للأنبا أثناسيوس أسقف أبريم السابق، وتم الترسيم على يدي البابا غبريال الذي أرسل معه أربعة أساقفة ليجلسوه على كرسيه في أبريم.
عاشرًا: استمر الالتباس بين النوبة والحبشة في العصور الإسلامية، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر أن عبدالرحمن بن الجوزي عندما أعد كتابه: (تنوير الغبش في فضل السودان والحبش) أدخل كل ما يخص النوبة تحت مسمى (الحبش)، بالرغم من إشارته إلى دنقلة بوصفها مدينة النوبة أو مدينة ملك النوبة إلا أنه استمر يخلط بين النوبة والحبشة، كما أشار إلى انتشار المسيحية في النوبة عند الفتح الإسلامي، وروى عن إحدى النوبيات اللاتي دخلن إلى الإسلام قولها: (كنت في بلد النوبة وأبواي كانا نصرانيين وكانت أمي تحملني إلى الكنيسة وتجئ بي إلى الصليب).
في ضوء ما سبق يرجح الباحث أن كنداكة المذكورة في سفر أعمال الرسل هي إحدى ملكات النوبة وليست ملكة للحبشة (أثيوبيا الحالية)، كما أن كوش هي النوبة طبقًا للنص الوارد في العهد القديم.
ما سبق مقتطف من بحث بعنوان: (الدير المحرق بأسيوط، دراسة أثرية فنية)، قدمته أمام المؤتمر الدولي للدراسات القبطية، الحياة في مصر خلال العصر القبطي، الذي نظمه مركز الخطوط بمكتبة الإسكندرية بالاشتراك مع المجلس الأعلى للآثار، وجمعية الآثار القبطية، وعقد بالإسكندرية خلال الفترة (12 – 14 شوال 1431هـ الموافق 21 – 23 سبتمبر 2010م).
د.فرج الله أحمد يوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.