زهرة مرعي - " وكالة أخبار المرأة "
في روايتها الأولى الصادرة حديثاً عن «هاشيت انطوان» في بيروت تظهر الكاتبة السورية سندس برهوم قدرة مميزة في توصيف حال المرأة الأم والزوجة في زمن الحرب.
هي مواجع لا تختصر في بوحها، بل تمنحها أوصافاً دقيقة ومتجددة في كل مرة تتقد في أحشائها. «لور» بطلة رواية «عتبة الباب» الأم لطفلين، تصيبها الحرب الدائرة في سوريا بالخوف المطلق. يحاصرها موت تخشى أن يجتاح فلذاتها. خوف ينتصب على الورق ببلاغة مشتقة من مفردات الحرب، وما يتوالد حولها من مستجدات. خوف «لور» المطلق تصفه بـ»احتلني الفراغ».
لغة سندس برهوم مع الحرب تتمثل بمنحى تصاعدي. ومشاعر بطلتها تبحر في موج متلاطم، يرتفع مع كل ارتفاع في وتيرة الحرب والموت. تتسلل إلى رواية برهوم تفاصيل من أطراف حياة كانت هانئة قبل الحرب. إنما «لور» تهرول مسرعة بالدخول إلى جوف خوفها. موعدها الأول مع الصوت المرعب الذي دوّى قريباً أسفر عن «كان قلقاً هائلاً تجسّد بفراغ داخل معدتي»، وتوالت مشاعر الفراغ حتى صار مقيماً لا يفارقها. ففي اللاحق من الصفحات نعيش مع الكاتبة تلك الدقة الفسيفسائية في توصيف مشاعر الرعب والقلق. هي قراءة في دورة الدم المرهقة، في تيبس الجسد، انعدام الرؤية وحبس الأنفاس. حالة التعايش مع الموت أو حتى النوم جنباً إلى جنب معه تصلنا كأنها فيلم أو مسلسل.
الحرب زمن يهيمن في سوريا. «لور» أسيرته بامتياز. وسندس برهوم تملك قدرة ابتكار مفردات الحياة المستجدة من ضمن القاموس السائد في هذا الزمن. قد يكون مسلياً أحياناً. فصديقة «لور» تتفنن في أوصاف وحيدها حتى صار «عبوة الحب»؟ ومضات راحة بين قذيفة وأخرى، تستلها «لور» قبل أن تنكفئ إلى فراغ معدتها المنتصب «كعمود كهرباء». هذا الفراغ المتنامي صار خبيثاً، «لا بد أنجب أطفالاً له ووزعهم في جميع أنحاء جسدي». الفراغ صار شخصية قائمة بذاتها لدى «لور»، هو يكبر أو يزّم قليلاً بحسب بورصة التوقعات من تصاعد أو تراجع للحرب. يتقلص الفراغ أو يعود للانتشار في جسدها مع كل خبر وبحسب حجمه. الغريب أننا حيال حالة جلد الذات. ربما تسود لدى النساء والأمهات تحديداً في حال الحروب. تصورات وتخيلات بخسارة المقربين بدءا من الابن، الزوج، الاخوة وهلم جراً. فهل هو حال البشر جميعاً؟
في صفحات الرواية قراءة تحاول الحيادية حيال الحرب الدائرة في سوريا. حرب تنعكس على البشر. يتخاصمون. يتنافرون. بعيداً عن السلاح. بعضهم يلتزم الصمت. فمعيار الصداقة بين اثنين من البشر العاديين، أكبر من أن تهدمه معارضة أو موالاة. تقرأ الكاتبة في «منجزات الكراهية، إنها سريعة وفعّالة وتترك أثراً أقوى من ذاك الذي يتركه الحب (…) الحب مقاوم ويحتاج إلى النضال كي يستمر، لكن الكره جماعي وعام…». تثابر الكاتبة على تدوين مواقف وتحليلات تسببها الحرب في سوريا. كأن تخوض مقارنة بين ما الأهم، بقاء الغابات أم بقاء البشر؟ ترى في الغابات والجسور والمصانع أسباب حياة. هي اذن منحازة لأسباب الحياة وليس لحياة البشر؟ لتخلص للقول «يدهشني أن أبتعد عن إنسانيتي…».
كما سبق الذكر «لور» أم وزوجة. الأمومة التي تعيشها في زمن الحرب ضاعفت الفراغ المترامي في معدتها. في زمن الحرب العشوائية أقصى أمنيات كل أم أن تتحول لدجاجة ذات جناحين مضادين للشظايا والرصاص. هذا حال «لور»، وأمانيها الدفينة. تقرأ في موت الابناء، في وجوههم التي تغطيها الدماء. في تقلصات الأرحام، وتدفق حليب الأثداء. «لا يمكن جمع بياض الحليب وأحمر الدماء في عيني أم. إنها صورة مخالفة للطبيعة البشرية، بل هي ضد الطبيعة».
للرواية المنبعثة من بين مسام الحرب السامة في سوريا أن تؤرخ حال الناس. حال الحرب وتطورها، والمراحل المفصلية المسجلة في مسارها. فـ»عتبة الباب» ستكون من دون شك جزءاً من كم كبير من الكتابات التي ستحكي الحرب بمواقف مختلفة، وأحداث مختلفة كل بحسب قراءته للأمر. وفي التأريخ للأحداث أو المرور من خلالها إلى أماكن بحث أخرى، سيكون للذاتي حيزه. «لور» بعائلتها وأصدقائها المنتشرين على كافة الأراضي السورية، بحر لا حدود له من الفقد، العقاب والأسى الذي يجد خلاصه في الموت. فـ»أنس» ـ زوج لور ـ نجا من تفجير هزّ المدينة، قال بعد صمت اسكته المشهد الدموي المأساوي: الأشلاء المنتشرة على الأرض والجدران وواجهات السيارات لم تكن لهم … كانت أشلائي أنا».
ثمة مقولة بأن الحرب تؤجج شهية الجنس، كفعل يؤكد الوجود. لم يكن هذا حال «لور» المشغولة بفراغ معدتها. «أنس» يراودها عن نفسها وهي تنسحب. وضعته في حلبة مصارعة مع الفراغ. «جسدي لا يتسع له مع ذلك الفراغ الذي يغتصبني كل ليلة، ربما عليه أن يكون بطلاً ويبعد منافسه اللئيم عني (…) حقه ليس عندي، إنه بأيدي من يقتل ويزرع الخوف في قلبي». تضاعف القلق أفضى إلى رغبة الرحيل بعد سنوات من الحرب. «لور» وجهاً لوجه مع مفردة «اللجوء»، تحولها إلى رقم بين زحام الأرقام. سلطة «عتبة باب دارنا» غيرت المعادلة. تسمرت في مكانها. وراحت تبحث عن التكيف مع الواقع وخلق أسباب للحياة بدل الموت. «اعشوشب إحساس بالأمان وأزاح خيال الفراغ المدفون». لور استردت نفسها من الفراغ اللعين، وتأقلمت مع الواقع المستجد رغم قساوته.
رواية رشيقة في أحداثها. مشاعر بشرية تصلنا بشفافية. شخصياً تقبلتها بقوة. وجدتها جزءاً مني في زمن الحروب الكثيرة التي عايشناها في بيروت. سندس برهوم أحسنت تقديم ما تريده بما قلّ ودلّ من الصفحات. بعد قراءة باكورتها، هي كاتبة واعدة من دون شك.
في روايتها الأولى الصادرة حديثاً عن «هاشيت انطوان» في بيروت تظهر الكاتبة السورية سندس برهوم قدرة مميزة في توصيف حال المرأة الأم والزوجة في زمن الحرب.
هي مواجع لا تختصر في بوحها، بل تمنحها أوصافاً دقيقة ومتجددة في كل مرة تتقد في أحشائها. «لور» بطلة رواية «عتبة الباب» الأم لطفلين، تصيبها الحرب الدائرة في سوريا بالخوف المطلق. يحاصرها موت تخشى أن يجتاح فلذاتها. خوف ينتصب على الورق ببلاغة مشتقة من مفردات الحرب، وما يتوالد حولها من مستجدات. خوف «لور» المطلق تصفه بـ»احتلني الفراغ».
لغة سندس برهوم مع الحرب تتمثل بمنحى تصاعدي. ومشاعر بطلتها تبحر في موج متلاطم، يرتفع مع كل ارتفاع في وتيرة الحرب والموت. تتسلل إلى رواية برهوم تفاصيل من أطراف حياة كانت هانئة قبل الحرب. إنما «لور» تهرول مسرعة بالدخول إلى جوف خوفها. موعدها الأول مع الصوت المرعب الذي دوّى قريباً أسفر عن «كان قلقاً هائلاً تجسّد بفراغ داخل معدتي»، وتوالت مشاعر الفراغ حتى صار مقيماً لا يفارقها. ففي اللاحق من الصفحات نعيش مع الكاتبة تلك الدقة الفسيفسائية في توصيف مشاعر الرعب والقلق. هي قراءة في دورة الدم المرهقة، في تيبس الجسد، انعدام الرؤية وحبس الأنفاس. حالة التعايش مع الموت أو حتى النوم جنباً إلى جنب معه تصلنا كأنها فيلم أو مسلسل.
الحرب زمن يهيمن في سوريا. «لور» أسيرته بامتياز. وسندس برهوم تملك قدرة ابتكار مفردات الحياة المستجدة من ضمن القاموس السائد في هذا الزمن. قد يكون مسلياً أحياناً. فصديقة «لور» تتفنن في أوصاف وحيدها حتى صار «عبوة الحب»؟ ومضات راحة بين قذيفة وأخرى، تستلها «لور» قبل أن تنكفئ إلى فراغ معدتها المنتصب «كعمود كهرباء». هذا الفراغ المتنامي صار خبيثاً، «لا بد أنجب أطفالاً له ووزعهم في جميع أنحاء جسدي». الفراغ صار شخصية قائمة بذاتها لدى «لور»، هو يكبر أو يزّم قليلاً بحسب بورصة التوقعات من تصاعد أو تراجع للحرب. يتقلص الفراغ أو يعود للانتشار في جسدها مع كل خبر وبحسب حجمه. الغريب أننا حيال حالة جلد الذات. ربما تسود لدى النساء والأمهات تحديداً في حال الحروب. تصورات وتخيلات بخسارة المقربين بدءا من الابن، الزوج، الاخوة وهلم جراً. فهل هو حال البشر جميعاً؟
في صفحات الرواية قراءة تحاول الحيادية حيال الحرب الدائرة في سوريا. حرب تنعكس على البشر. يتخاصمون. يتنافرون. بعيداً عن السلاح. بعضهم يلتزم الصمت. فمعيار الصداقة بين اثنين من البشر العاديين، أكبر من أن تهدمه معارضة أو موالاة. تقرأ الكاتبة في «منجزات الكراهية، إنها سريعة وفعّالة وتترك أثراً أقوى من ذاك الذي يتركه الحب (…) الحب مقاوم ويحتاج إلى النضال كي يستمر، لكن الكره جماعي وعام…». تثابر الكاتبة على تدوين مواقف وتحليلات تسببها الحرب في سوريا. كأن تخوض مقارنة بين ما الأهم، بقاء الغابات أم بقاء البشر؟ ترى في الغابات والجسور والمصانع أسباب حياة. هي اذن منحازة لأسباب الحياة وليس لحياة البشر؟ لتخلص للقول «يدهشني أن أبتعد عن إنسانيتي…».
كما سبق الذكر «لور» أم وزوجة. الأمومة التي تعيشها في زمن الحرب ضاعفت الفراغ المترامي في معدتها. في زمن الحرب العشوائية أقصى أمنيات كل أم أن تتحول لدجاجة ذات جناحين مضادين للشظايا والرصاص. هذا حال «لور»، وأمانيها الدفينة. تقرأ في موت الابناء، في وجوههم التي تغطيها الدماء. في تقلصات الأرحام، وتدفق حليب الأثداء. «لا يمكن جمع بياض الحليب وأحمر الدماء في عيني أم. إنها صورة مخالفة للطبيعة البشرية، بل هي ضد الطبيعة».
للرواية المنبعثة من بين مسام الحرب السامة في سوريا أن تؤرخ حال الناس. حال الحرب وتطورها، والمراحل المفصلية المسجلة في مسارها. فـ»عتبة الباب» ستكون من دون شك جزءاً من كم كبير من الكتابات التي ستحكي الحرب بمواقف مختلفة، وأحداث مختلفة كل بحسب قراءته للأمر. وفي التأريخ للأحداث أو المرور من خلالها إلى أماكن بحث أخرى، سيكون للذاتي حيزه. «لور» بعائلتها وأصدقائها المنتشرين على كافة الأراضي السورية، بحر لا حدود له من الفقد، العقاب والأسى الذي يجد خلاصه في الموت. فـ»أنس» ـ زوج لور ـ نجا من تفجير هزّ المدينة، قال بعد صمت اسكته المشهد الدموي المأساوي: الأشلاء المنتشرة على الأرض والجدران وواجهات السيارات لم تكن لهم … كانت أشلائي أنا».
ثمة مقولة بأن الحرب تؤجج شهية الجنس، كفعل يؤكد الوجود. لم يكن هذا حال «لور» المشغولة بفراغ معدتها. «أنس» يراودها عن نفسها وهي تنسحب. وضعته في حلبة مصارعة مع الفراغ. «جسدي لا يتسع له مع ذلك الفراغ الذي يغتصبني كل ليلة، ربما عليه أن يكون بطلاً ويبعد منافسه اللئيم عني (…) حقه ليس عندي، إنه بأيدي من يقتل ويزرع الخوف في قلبي». تضاعف القلق أفضى إلى رغبة الرحيل بعد سنوات من الحرب. «لور» وجهاً لوجه مع مفردة «اللجوء»، تحولها إلى رقم بين زحام الأرقام. سلطة «عتبة باب دارنا» غيرت المعادلة. تسمرت في مكانها. وراحت تبحث عن التكيف مع الواقع وخلق أسباب للحياة بدل الموت. «اعشوشب إحساس بالأمان وأزاح خيال الفراغ المدفون». لور استردت نفسها من الفراغ اللعين، وتأقلمت مع الواقع المستجد رغم قساوته.
رواية رشيقة في أحداثها. مشاعر بشرية تصلنا بشفافية. شخصياً تقبلتها بقوة. وجدتها جزءاً مني في زمن الحروب الكثيرة التي عايشناها في بيروت. سندس برهوم أحسنت تقديم ما تريده بما قلّ ودلّ من الصفحات. بعد قراءة باكورتها، هي كاتبة واعدة من دون شك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.