واحد، ولا ثاني له. واحد خالق كل شيء
قائم منذ البدء، عندما لم يكن حوله شي
والموجودات خلقها بعدما أظهر نفسه إلى الوجود.
لا تشكل هذه الأسطر جزءاً من ترتيلة خاصة بإحدى الديانات التوحيدية التي نعرفها تاريخياً، التي استحوذت على صفة "التوحيدية" دون بقية الديانات الإنسانية، بل هي جزء من ترتيلة مصرية قديمة، لها متوازيات وأشباه كثيرة في الأدبيات الدينية المصرية تتراوح في قدمها من فجر السلالات إلى نهاية التاريخ الفرعوني. تتابع الترتيلة فتقول:
أبو البدايات، أزلي أبدي، دائم قائم
خفي لا يعرف له شكل، وليس له من شبيه
سرّ لا تدركه المخلوقات، خفي على الناس والآلهة
سرّ اسمه، ولا يدري الإنسان كيف يعرفه
سرّ خفي اسمه. وهو الكثير الأسماء
هو الحقيقة، يحيا في الحقيقة، إنه ملك الحقيقة
هو الحياة الأبدية به يحيا الإنسان، ينفخ في أنفه نسمة الحياة
هو الأب والأم، أبو الآباء وأم الأمهات
يلد ولم يولد. ينجب ولم ينجبه أحد
خالق ولم يخلقه أحد، صنع نفسه بنفسه
هو الوجود بذاته، لا يزيد ولا ينقص
خالق الكون، صانع ما كان والذي يكون وما سيكون
عندما يتصور في قلبه شيئاً يظهر إلى الوجود
وما ينجم عن كلمته يبقى أبد الدهور
أبو الآلهة، رحيم بعباده، يسمع دعوة الداعي
يجزي العباد الشكورين ويبسط رعايته عليهم. [1]
لقد عمد العلامة السير واليس بدج، منذ أوائل القرن العشرين، إلى دراسة مدققة لهذا النص وأمثاله خلال دراسته المتعمقة لديانة ومعتقدات قدماء المصريين، وخلص إلى القول بأن المصريين كانوا قوماً يؤمنون بإله واحد، موجود بذاته، خفيّ، أبدي وأزلي، كلِّي القدرة والمعرفة، لا تدركه الأفهام والعقول، خالق للسماء وللأرض وكل ما عليها، وخالق لكائنات روحانية كانت رسله ومساعديه في تصريف شؤون الكون وهي الآلهة. وقد استمر الإيمان بهذه الألوهة غير المشخَّصة منذ أعتاب التاريخ المصري وحتى نهاياته. ورغم ذلك لم لكن لها في العصور التاريخية معابد أو هياكل، ولم تُصوَّر في أية هيئة شخصية، وإنما بقيت في الأذهان والقلوب بمثابة قدرة كونية لا يحدُّها وصف أو قول. أما الإسم الذي أطلقوه على هذه الألوهة فهو: نِتِر – Neter. وكان يرمز إليها في ما قبل العصور التاريخية في مصر بفأس ذي رأس حجري ومقبض خشبي، وتحيط بالرأس أربطة جلدية أو قماشية لتثبيتها على المقبض. وقد صار هذا الرمز إشارة هيروغليفية للدلالة على مفهوم الألوهة في الكتابة المصرية. ويبدو أن اختيار إنسان ما قبل التاريخ لرمز الفأس كان من قبيل التوكيد على جانب القوة المتبدِّية في هذه الأداة. ويدعم هذا الرأي أن كلمة نِتِر بالذات يمكن أن تعني القوة أو الشدة. وإلى جانب كلمة نِتِر لدينا في الهيروغليفية المصرية كلمة نِتِرو، وتعني تلك الكائنات التي تشترك على نحو ما في طبيعة نِتِر، وتسمى في العادة "آلهة". ولكننا حين ندرس هذه الآلهة عن كثب، نجد أنها ليست إلا صوراً أو تجلِّيات لإله واحد. وكان أعلى هذه الكائنات هو الإله رع، إله الشمس الذي كان الوجه المشخص لتلك الألوهة الخافية المدعوة نِتِر، ورمزها الذي يتوجه إليه الناس بالعبادة. علماً بأن عدداً آخر من الكائنات الإلهية قد ارتقى إلى مرتبة سامية، على مدى التاريخ الديني المصري، أهَّلتهم لتجسيد الألوهة المطلقة مثلما فعل رع. [2]
ويرى واليس بدج من دراسته للنصوص المبكرة للأسر الحاكمة الأولى إشارات واضحة إلى هذه الألوهة التي تعلو على بقية تجلَّياتها القدسية المتعددة. من هذه الإشارات المقاطع التالية الواردة في نص وصايا كاقمنا ونص وصايا بتحاتب، من عصر الأسرة الرابعة والأسرة الخامسة: 1. إن أفعال الله (= نِتِر) خافية علينا؛ 2. عليك ألا تُفزع إنساناً لأن في ذلك معاكسة لإرادة الله؛ 3. إن الخبز الذي تأكله من عطايا الله؛ 4. إذا كنت مزارعاً فاحرث حقلك الذي أعطاه الله لك؛ 5. إذا نشدت كمال الأفعال يسِّر لابنك مرضاة الله؛ 6. إكفِ عائلتك حاجتها، فهذا واجب على من يؤثرهم الله؛ 7. إن الله يحب الطائعين ويمقت العصاة؛ 8. الولد الصالح نعمة من الله؛ إلخ.
في تعليقه على هذه الحكم والوصايا يرى واليس بدج بكل وضوح أن الكاتب لم يقصد من كلمة الله/نِتِر، الإشارة إلى واحد بعينه من الآلهة المصرية، وإلا وجب عليه (على عادة النصوص المصرية) أن يخصَّه ويذكر اسمه، وإنما كان يشير إلى الله الواحد الخفي الكلِّي القدرة والمعرفة. أما الآلهة الأخرى التي آمن بها المصريون إلى جانب هذا الإله الأعلى، فجميعها مخلوق وعرضة لعوادي الزمن وللمرض وحتى للموت. أي أن هذه الآلهة (= نِتِرو) رغم كونها مجبولة من طينة مختلفة عن الإنسان، وتفوقه قوة ومعرفة، إلا أنها تشبهه في عواطفه وأهوائه، وتخضع لقوانين هذا العالم المخلوق مثلما يخضع. ففي أحد نصوص الأهرام نجد الملك المؤلَّه أوناس في رحلة صيد إلى السماء يصطاد خلالها بعض الآلهة ويشويهم. وفي نص للملك تحوتمس الثالث (حوالى 1450 ق.م) نقرأ دعاء حاراً يتمنى فيه الملك النجاة من الفناء المقدَّر على البشر وعلى الآلهة. وفي أحد نصوص كتاب الموتى نقرأ أن الآلهة تفنى مثل بقية الكائنات الحية عندما تغادرها الروح. هذه الشواهد وأمثالها تجعل في حكم المؤكَّد أن المصريين القدماء كانوا يفرِّقون بشكل واضح بين الله/نِتِر، والآلهة/نِتِرو المخلوقين من قبله والذين يلعبون دوراً أشبه بدور الملائكة الموكلة إليهم وظائف ومهام محددة. [3]
غير أن تصور المصريين لهذه الألوهة المطلقة كان مصحوباً بنوع من التشخيص anthropomorphism الذي يجعل الألوهة حاضرة بينهم وقريبة منهم. فقد كان لكل بلدة ومدينة إلهها الخاص الذي تعزو إليه كل صفات وخصائص الإله الواحد. ولكنهم لم يروا في هذه الآلهة جميعاً إلا وجوهاً مختلفة للألوهة الشمولية القدرة والمعرفة نفسها. يدلنا على ذلك أن المتوفى عندما يحضر إلى قاعة الحساب عليه أن يتلو اعترافاته أمام اثنين وأربعين إلهاً، هم آلهة الأقاليم المصرية، قبل أن يَمْثُل أمام الإله أوزيريس قاضي العالم الأسفل (على ما تنص عليه تعاليم كتاب الموتى). وهذا يعني أن نفس الإله كان يُعبَد في كل مدينة أو إقليم تحت أسماء وتجلِّيات متنوعة، وأن الإله المحلِّي قد اتخذ مكانة الإله الأعلى لضرورات عملية. وبتعبير آخر، فإن موضع العبادة المحلية لم يكن إلا هيئة اختار الإله المطلق أن يتجلَّى بها لوقت طال أم قصر، وعلى ما تقتضيه طبيعة الأحوال. بعض هذه الآلهة، ولأسباب متنوعة، خرج من دائرته الضيقة التي نشأت فيها عبادته، واكتسب خصائص ووظائف وصلاحيات آلهة عديدة أخرى، ثم وصل أخيراً إلى المرتبة العليا حيث صار تجسيداً للألوهة المطلقة على مستوى الثقافة بأكملها. من هؤلاء تيمو إله هليوبوليس، وبتاح إله ممفيس، وآمون إله طيبة. [4] وكان رع أول من تسنَّم هذه المرتبة العليا، عندما ظهر في الأفق عند بدء الخليقة في هيئة قرص الشمس. ثم تواحد رع مع آمون إله مدينة طيبة وصار اسمه آمون–رع. وهذه إحدى التراتيل المرفوعة إليه:
هو الروح القدس الموجود منذ البدايات
هو الإله المعظَّم الذي يحيا في الحقيقة، وبه يحيا الآلهة
الواحد الذي صنع كل ما ظهر في البدايات الأولى
ميلاده سرّ، وأشكاله لا حصر لها، وأبعاده لا تقاس
كان، عندما لم يكن هنالك شيء
وفي هيئة القرص شعّ وأضاء لكل الناس
يقطع السماء بلا تعب، وعزمه في الغد كعزمه اليوم
عندما يشيخ في أواخر النهار يجدِّد شبابه في الصباح
بعد أن خلق نفسه، صنع السماء والأرض بإرادته
لقد كان المياه الأولى، وهو قرص القمر
من عينيه المباركتين صدر الرجال والنساء
ومن فمه صدرت الآلهة
كثيرة عيونه [= البصير] وكثيرة آذانه [= السميع]
إنه رب الحياة
الملك الذي يضع الملوك على عروشهم
الخفي المجهول، حاكم العالم، أخفى من كل الآلهة
والقرص وكيله وممثِّله. [5]
تقدم لنا هذه الترتيلة برهاناً ساطعاً على أن عبادة الشمس المصرية لم يكن موضوعها قرص الشمس، بل القدرة الخافية التي تكمن وراءه. هذه القدرة لا تتمثل فقط في القرص وإنما تجد تجسيداً لها في الآلهة المتفرقة التي ليست في حقيقة الأمر إلا وجوهاً للإله الواحد رع. والإله رع بدوره ليس إلا الرمز المنظور للألوهية الكلِّية المحتجبة. نقرأ في ترتيلة أخرى مرفوعة إلى رع ما يلي:
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تسري في مساكن آمْنِت. هو ذا جسمك فهو تيمو
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تسري في مخبأ أنوبيس. هو ذا جسمك فهو خيبيرا
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة، الذي تطول حياته أكثر من بقية الكائنات غير المنظورة. هو ذا جسمك فهو شو
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة […] هو ذا جسمك فهو تفنوت
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة التي تُنبِت الزرع في مواسمه. هو ذا جسمك فهو جِب
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة، الكائن القوي الذي يقضي […] هو ذا جسمك فهو نوت
لك التسبيح يا رع – أنت القدرة المجيدة التي تنير رأس من يقف أمامك. هو ذا جسمك فهو نفتيس
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة، رب الـ[…] هو ذا جسمك فهو إيزيس
لك التسبيح يا رع. أنت القدرة المجيدة. وأنت مصدر الأعضاء المقدسة. أنت الواحد الذي يهب الحياة للوليد. هو ذا جسمك فهو حورس
لك التسبيح يا رع. أنت ا لقدرة المجيدة، التي تسكن العمق السماوي. هو ذا جسمك فهو نو. [6]
إن الإشارة إلى رع أو آمون–رع أو أي إله آخر بصفة الواحد هو تقليد قديم جداً، لدينا شواهد عليه في نصوص الأهرامات العائدة إلى الملكة القديمة وفي العديد من النصوص العائدة إلى عصر الملكة المتوسطة. وكاتب أي نص من هذه النصوص إنما يستخدم صفة من صفات الله المعروفة لديه في مخاطبة إلهه المحلي الذي يمثِّل عنده الله العظيم. وأمثال هذه النصوص، قديمها وحديثها، حافلة بأسماء الله المتعددة، سواء كانت بتاح أم تيمو أم آمون أم رع. نقرأ في كتاب الموتى، الفصل 17، الفقرتين 9 و 10: "إن الإله تيمو في هيئة رع، قد خلق أسماء لأعضائه فصارت هذه الأسماء آلهة انضمت إلى بطانته." من هنا فإن الوحدانية التي تطلق صفة على الواحد الحق الذي خلق نفسه بنفسه وخلق السماوات والأرض وما بينها، لا يمكن تفسيرها من خلال افتراض وجود معتقد توحيدي مشوب بالتعددية لأن مؤلفي مثل هذه التراتيل والصلوات التوحيدية، يُظهِرون منذ البدايات المبكرة معتقداً توحيدياً لا لبس فيه. وهذا ما دعا العالم شامبليون إلى القول منذ عام 1839 بأن "الدين المصري يقوم على معتقد توحيدي صافٍ، يعبِّر عن نفسه خارجياً بصيغ شِرْكية تعددية". بينما قادت التعددية الظاهرية في النصوص المصرية علماء آخرين، من أمثال البروفيسور Tiele، الدارس المدقق للأديان القديمة، إلى القول بأن الديانة المصرية قد قامت في الأصل على معتقد شِرْكي تعدُّدي ثم اقتربت تدريجياً من المفاهيم التوحيدية. [7]
لم يكن قناع الألوهة المطلقة الذي يتبدَّى من خلاله في عالم الإنسان قناعاً مذكراً على الدوام. فقد لعبت الإلهة إيزيس، أعلى إلهات الثقافة المصرية، دور الإله الواحد الذي يجسِّد الألوهة المطلقة أيضاً، واعتبرها عبادها بمثابة التجلِّي الأنثوي للإله رع نفسه: "إنها رع المؤنث، إنها حورس المؤنث، إنها عين الإله رع"، على ما تردِّد الترتيلة التالية المرفوعة إلى إيزيس من عصر المملكة الحديثة:
هي ذات الأسماء الكثيرة، الواحدة القائمة منذ البدء
هي القدُّوسة الواحدة، أعظم الآلهة والإلهات
ملكة الآلهة جميعاً، ومحبوبتهم الأثيرة.
نموذج الكائنات طراً، وملكة النساء والإلهات
إنها رع المؤنث، إنها حورس المؤنث، وعين الإله رع.
إنها العين اليمنى للإله رع
التاج النجمي لرع–حورس، وملكة الكوكبات النجمية
نجم الشعرى الذي يفتتح السنة [8] وسيدة رأس السنة
صانعة الشروق، تجلس في المقدمة من مركب السماء
سيدة السماوات، قدوسة السماوات، وواهبة النور مع رع
الذهبية، سيدة الأشعة الذهبية، الإلهة الوضاءة
سيدة ريح الشمال، ربة الأرض، والأقدر بين القديرين
مالئة العالم الأسفل بالخيرات، والسيدة المهوبة هناك
بالاسم تانيت هي العظمى في العالم الأسفل مع أوزيريس
سيدة حجر الولادة، البقرة حيرو – سيما التي أنجبت كل شيء
سيدة الحياة، واهبة الحياة، خالقة كل شيء أخضر
الإلهة الخضراء. سيدة الخبز، سيدة الجعة، سيدة الخيرات
سيدة البهجة والفرح، وسيدة الحب البهية الطلعة
الجميلة في طيبة، والجليلة في هليوبوليس، والمعطاء في ممفيس
سيدة الرقى والتعاويذ، النساجة الحائكة (للأقدار)
ابنها سيد الأرض، وزوجها سيد الأعماق. زوجها فيضان النيل
الذي يجعل النيل يعلو ويرتفع فيفيض في موسمه. [9]
لقد طرح العلامة واليس بَدْج آراءه حول الديانة المصرية منذ أواخر القرن التاسع عشر في عدد من الدراسات التي نشرها حوالى عام 1898 والتي لقيت في حينها الكثير من الاستغراب والنقد. ثم عاد بَدْج فأكَّد على أفكاره تلك وطوَّرها في كتابه الكلاسيكي الذي صدر في مجلدين عام 1911 تحت عنوان Osiris and the Egyptian Resurrection، وكتابه الآخر Egyptian Religion. منذ ذلك الوقت، ورغم الدراسات الواسعة التي جرت حول أديان وميثولوجيات الشرق القديم الأخرى بعد اكتشاف وقراءة نصوص الثقافة الرافدية وبقية ثقافات الهلال الخصيب، لم ينتبه أي من الدارسين إلى أن هذه الأديان تظهِر شبهاً كبيراً بالديانة المصرية، من حيث شفوف معتقداتها عن نوع واضح من التوحيد لا يخفى على العين المدقِّقة، وإلى أن التعدِّدية فيها ليست إلا الشكل الظاهري الذي يعبِّر به معتقد التوحيد عن ذاته.
فراس السواح نقلا عن منتدى معابر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.