تقاس حضارة الشعوب ونهضتها بمقدار امتلاك أفرادها خبرات معرفية وثقافية تسهم في زيادة وعيهم بمختلف المجالات السياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والطريق الوحيد لاكتساب هذه الخبرات هو المطالعة، يقول عباس محمود العقاد
«القراءة تضيف إلى عمر الإنسان أعماراً أخرى». وفي مرحلة التحولات الكبيرة التي تمر فيها البلاد تأخذ الثقافة المساحة الأكبر في الحضور والتصور، وتبدو كأنها فرس الرهان الرابح في مجمل عمليات التغيير، من هنا يحق لنا التساؤل: ما هو واقعنا الثقافي اليوم؟ وأين الدور الطليعي للنخبة المثقفة في تنوير وتوعية المجتمع خلال ما تشهده البلاد
من أحداث؟ وإلى أي حدّ تراجع المستوى الثقافي لدى الأفراد؟ وهل ساهمت تكنولوجيا وسائل الاتصال باضمحلال الثقافة أم سهلت انتشارها؟ وما الدور الملقى على عاتق المؤسسات الثقافية خلال المرحلة القادمة ؟.
هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على الدكتور مهدي بسام الزغبي، الأستاذ في جامعة دمشق- قسم الجغرافيا، والمحاضر في التنمية البشرية والاقتصادية وعضو الرابطة العربية للآداب والثقافة، وهو أديب وكاتب لديه العديد من الإصدارات الأدبية كان آخرها كتاب «بذور وجذور»، وهو كتاب يضم باقة من الحكم والأمثال.
خلط المفاهيم
يفرّق الدكتور الزغبي بين المتعلّم والمثقف، فالتعليم في بلدان العالم الثالث أنتج الملايين من حائزي الشهادات لكن غير القادرين على مطالعة الكتب، منوِّها أن هناك خلطاً في مجتمعاتنا بين المفهومين، فليس كل متعلم هو بالضرورة مثقفاً، فالثقافة هي مجمل العلوم والمعارف والفنون والآداب في إطارها العام، التي تسهم في بناء التوجهات والاتجاهات الفكرية للإنسان، وفي رأيه فالإنسان لكي يصبح مثقفاً يجب أن يكون مثابراً على القراءة، متعمقاً في مختلف الفنون والآداب والقضايا المجتمعية، مشيراً إلى أن الثقافة كما يعرِّفها ﺇﺩﻭﺍﺭﺩ ﺗﺎﻳﻠﻮﺭ في كتابه (ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﺔ البدائية): هي ﻛﻞ مركب ﻳﺸﺘﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﻭالمعتقدات ﻭﺍﻟﻔﻨﻮﻥ ﻭﺍﻷﺧﻼﻕ ﻭﺍﻟﻘوانين ﻭﺍﻟﻌﺮﻑ ﻭﻏﻴﺮ ذلك ﻣﻦ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﺃﻭ ﺍﻟﻌﺎﺩﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻜﺘﺴﺒﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻩ ﻋﻀﻮﺍً ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ.
ولفت إلى أن القراءة ومطالعة الكتب وتشرّب الآداب تفتح أمام الإنسان آفاقاً جديدة تؤدي إلى تهذيب النفوس والسمو بها نحو الرفعة والرقي الإنساني، مشدداً على عدم وجود مثقف عنصري أو طائفي أو فئوي، وإن وجد؛ فهو ليس مثقفاً حقيقياً وبأن الإنسان المثقف يقارب مسائل وقضايا مجتمعه بعيداً عن التحيز والعواطف والقيود السائدة، وذلك بحكم كونه يملك نصيباً واسعاً من المعارف والعلوم المرتبطة بهذه القضايا والمسائل، وهو يتميز بمرونة رأيه، وبتقبله للنقد والآراء والأفكار المختلفة، وباستعداده لتلقي كل فكرة جديدة والتأمل فيها.
وأضاف: المثقف الحقيقي يتسم بشجاعة فكرية ويقتحم بأفكاره كل المسلمات والعادات والتقاليد، ولا يتلقى ويسمع ويقرأ كالإسفنجة، ولا يستظهر كل ما قرأه كالببغاء، ولا يعتمد الأفكار الجاهزة مثل الجاهلين، والمثقفون كما يقول أنطون تشيخوف: «يتصرفون في الشارع كما يتصرفون في المنزل، يحترمون ملكية الآخرين، طيبون ويتعاطفون مع الجميع، ولا يتنفسون الهواء الفاسد وكل ساعة ثمينة بالنسبة لهم».
أرقام مخيفة
أما عن تقييمه للواقع الثقافي في البلاد خلال العقود الماضية وصولاً إلى الفترة الحالية فيقول الدكتور الزغبي: إن القراءة سر تقدم الأمم ورقي الشعوب وهي المقياس الحقيقي لمدى التقدم الثقافي لأي شعب من الشعوب، حيث كشف ﺘﻘﺮﻳﺮ ﺼﺎﺩﺭ ﻋﻦ المنظمة ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﻟﻠﻤﻠﻜﻴﺔ ﺍﻟﻔﻜﺮﻳﺔ ﻋﻦ ﺃﺭﻗﺎﻡ ﻣﺨﻴﻔﺔ ﻋﻦ الواقع الثقافي ﻓﻲ ﺍلبلدان ﺍﻟﻌﺮﺑية، إذ جاء ﻓﻲ ذلك التقرير ﺃﻥ معدل القراءة ﺍﻟﺴﻨﻮﻱ 4 كتب ﻟﻠﻔﺮﺩ ﻭﻓﻲ أمريكا11 ﻛﺘﺎﺑﺎ-ﻭﻓﻲ بريطانياً 7 ﻛتب ﻭﺃﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ فهو ﺭﺑﻊ ﺻﻔﺤﺔ فقط، ﻭﻓﻲ ﺣﻘﻞ ﺍﻟﺘﺮﺟﻤﺔ ﻓﺈﻥ ﻣﺠﻤﻮﻉ ﻣﺎ ﻳﺘﺮﺟﻤﻪ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺳﻨﻮﻳﺎً ﻳﺴﺎﻭﻱ خمس ﻣﺎ ﺗﺘﺮﺟﻤﻪ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻥ ولم يترجم ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺳﻮﻯ 11,000 كتاب منذ سنين طويلة ﻭﺣﺘﻰ ﻭﻗﺘﻨﺎ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ، أما ﻓﻲ إﺳﺒﺎﻧﻴﺎ وحدها فتتم ﺗﺮﺟﻤﺔ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 11,000 ﻛﺘﺎب ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ الواحد، وﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻻﺳﺘﻬﻼﻙ ﺍﻟﻮﺭﻕ فداﺭ «ﻏﺎﻟﻴﻤﺎﺭ» ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﺔ ﻟﻠﻨﺸﺮ تستهلك وحدها ﻣﺎ ﻳﻔﻮﻕ ﻛﻞ المطابع ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ مجتمعة ﻣﻦ ﻛﻤﻴﺔ ﺍﻟﻮﺭﻕ.
وﻳﺸﻴﺮ ﺗﻘﺮﻳﺮ ﻟﻠﻴﻮﻧﺴﻜﻮ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ معدل قراءة الأطفال ﻓﻲ العالم ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻟﻤﻨﻬﺎﺝ الدراسي 6% ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻨﺔ، بينما يقرأ ﻛﻞ ﻋﺸﺮﻳﻦ طفلاً ﻋﺮبياً ﻛﺘﺎﺑﺎً واحداً ﺳﻨﻮﻳﺎً، ﺃي لايزيد الوقت المخصصة للقراءة الاطلاعية عند الطفل ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ (من ﺩﻭﻥ ﺍﺣﺘﺴﺎﺏ وقت القراءة المدرسية) ﻋﻦ ست ﺩﻗﺎﺋﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ، أﻣﺎ ﻋﻦ ﺣﺠﻢ الكتب ﺍﻟﻤﺨﺼﺼﺔ للطفل ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓﻬﻮ (400 ﻛﺘﺎﺏ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻡ) ﻣﻘﺎﺑﻞ 13260 ﻛﺘﺎباً ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻨﺔ للطفل الأﻣﺮﻳﻜﻲ ﻭ838 للطفل البريطاني ﻭ2118 للطفل ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻲ ﻭ1485 ﻟﻠﻄﻔﻞ ﺍﻟﺮﻭﺳﻲ.
إشكالات ومعوقات
وعن دور المثقفين في الأزمة الحالية التي تمر فيها البلاد وأثرها في الحركة الثقافية قال: ظاهرياً كان هناك غياب شبه تام لدور المثقفين في تنوير وإصلاح المجتمع خلال الأزمة الحالية، لكن في العمق لا يمكن إلقاء اللوم على المثقفين، وذلك لأن مجتمعنا أساساً ليس مبنيّاً أو مؤسساً على القيم الثقافية بل على قيم ومفاهيم أخرى معروفة لدى الجميع، والقيم الثقافية كانت وما زالت لدى الأغلبية مظهراً من مظاهر الترف الفكري، ناهيكم بحصر الثقافة بالنخبة (النخبوية الثقافية). وتابع: نحن نعيش أزمة ثقافية كبرى حتى وإن صدحت أصوات القلة النادرة من المثقفين الحقيقيين، فكيف للأغلبية التي ترعرعت على ثقافات سطحية أو على أخرى عميقة لكن رجعية، أن تسمع لتلك الأصوات؟، كيف لمجتمع لا يقرأ أن يتلقى الأفكار أو يكون لديه استعداد للتنوير والإصلاح؟، إذاً هناك أزمة ثقافية كبرى، من أهم مظاهرها وجود إشكالات متعددة ومعوقات تحد من قدرة المثقفين على ممارسة الدور المنوط بهم. ومما لاشك فيه أن الأزمة الحالية التي تمر فيها البلاد ساهمت في ازدياد الأمر سوءاً، وذلك نتيجة حتميّة لتوجه الأفراد لاهتمامات أخرى تكاد تكون مصيرية لديهم، كالبقاء والوجود، وتأمين لقمة العيش، ناهيك بتوقف العديد من النشاطات الثقافية والفكرية والأدبية والفنية، لافتاً إلى أن التقشف وصل إلى الأقلام والأوراق!.
وعن تأثير التكنولوجيا الحديثة وخاصة الانترنيت على الثقافة قال: إن الإنسان المثقف يستخدم الانترنيت وغيره من الوسائل الحديثة لتحميل الكتب والمطالعة ومتابعة جديد العلم والأدب والفنون، والاطلاع على ثقافات وتجارب الأمم والشعوب، بينما الإنسان غير المثقف هو في الأساس لا يبالي بالجوانب الثقافية لذلك نجده يتجه، عند استخدامه للتكنولوجيا الحديثة، نحو الجوانب السطحية والتافهة أو حتى المسيئة، وهكذا فإن التكنولوجيا قد تكون طريقاً لتعميق الثقافة لدى البعض، وطريقاً لزيادة السطحية والانحراف والقيم السيئة لدى البعض الآخر، وفي هذا السياق نجد، على سبيل المثال لا الحصر، أن الصفحات الثقافية في موقع التواصل الاجتماعي المعروف بـ (فيس بوك) هي في مرتبة أدنى من حيث عدد المتابعين والمعحبين، وهناك صفحات سجل الإعجاب بها ما يزيد على مليون شخص، في حين نجد أن منشوراتها لم تنل أكثر من مئات الإعجابات فقط! ما يعني أن التواصل مع هذه الصفحات هو تواصل شكلي لا أكثر، وقد تنال صورة لفنانة هابطة أكثر من مليون إعجاب، بينما لا ينال منشور يعلن فيه عن إنجاز طبي عظيم أو حادثة كونية نادرة أكثر من عشرات أو مئات الإعجابات! وطبعاً في هذا انعكاس للخلفية الثقافية والقيمية للمجتمع.
قيم ثقافية صحيحة
وفي الختام يؤكد الدكتور الزغبي ضرورة تركيز المؤسسات التربوية والثقافية في المرحلة القادمة على القيم والمفاهيم الثقافية في بناء مجتمع سوري جديد، ﻓﻤﻦ خلالها يمكن بناء إنسان يمتلك قيماً فكرية وأخلاقية تقود لبناء مجتمع حضاري، فاﻟﺘﻐﻴﺮات ﺍﻟﻔﻜﺮية والثقافية تقود إلى تغيير عادات ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، وهنا يكون للتنشئة والتوعية الثقافية الدور الأهم في قيادة عملية التغيير، عن طريق التركيز على بناء أيديولوجيات إنسانية سامية، وكذلك ﻓﻲ إظهار معالم هذا التغيير بهدف التأثير والتعميم، ﻭﻓﺘﺢ المجال ﻟﺤﺮﻳﺔ ﺍﻟﺴﻴﺮ ﻓﻲ ﻋﻤﻠﻴﺔ الإبداع ﻭالتفكير الجدلي والانصهار بهدف التواصل الإنساني، وإظهار الطبيعة الحضارية المشتركة للبشر، ﻭلاﺗﺨﺎﺫ ﻣﻮاﻗﻒ جديدة إزاء العديد من قضايانا ومشاكلنا والتغلب ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺆﺛﺮ فينا سلباً، والكشف ﻋﻦ مكامن الفكر ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻲ لدى الفرد السوري بطرق إبداعية جديدة، ﻭﺑﺎلاﻋﺘﻤﺎﺩ ﻋﻠﻰ قيم ثقافية صحيحة.
المصدر
صحيفة تشرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.