د. عبدالحميد سيف الحسامي
يحتلُّ
المسرح أهميَّة كبيرة بين الفنون الإبداعيَّة، ومن خِلاله تمكَّن
المبدِعون من تصوير الحياة وما يصطرعُ فيها من أفكارٍ، وما يدورُ فيها من
أحداثٍ، وقد كان المبدِع علي أحمد باكثير من أكثر المبدِعين العرب إخْلاصًا
للفن والقضيَّة، تميَّز بالجرأة المخلصة، والرؤية الثاقبة، والاحتِراف
الإبداعي الخلاق، فاكتملتْ مُؤهِّلات الرِّيادة الإبداعيَّة والعَطاء
الإيجابي المثمِر، وكانت المسرحيَّات السياسيَّة القصيرة شتلةً من شتلات
إبداعه،
لها فرادتها المتمثِّلة في القُدرة على مُواكبة الحدَث ورصدِه من
الناحية المضمونيَّة، كما لها ميزة الاختزال والتكثيف بحكم المساحة
النصيَّة الموجزة التي تحتَوِيها؛ أي: إنَّ قصرَها قد اقتضاه عاملا الزمن
والمساحة النصيَّة المحدودة؛ ولذلك كانت هذه المسرحيَّات قمينة بالدراسة
العلميَّة المتأمِّلة، وتأتي هذه الدِّراسة لتكون أوَّل دراسة للمسرحيَّات
القصيرة، وتأمل أنْ تفتح كُوًى لدراسة تلك المسرحيَّات في تكامُلها، وتعدد
زَوايا النظر إليها؛ حيث إنَّ هذه الدِّراسة ستقتصرُ على دِراسة عددٍ من
جماليَّات البناء الفني وضِمن عيِّنة محدودة من المسرحيَّات؛ هي: "أضغاث
أحلام"، "اهدمي بغداد"، "سأبقى في البيت الأبيض"، "السكرتير الأمين"،
"السوق السوداء"، "في بلاد العم سام"، "في سبيل إسرائيل"، "ليلة 15 مايو
معجزة إسرائيل"، "نشيد المارسليز".
وحسبُها أنْ تُثِير الأسئلةَ أمامَ الدَّارسين والمهتمِّين بأعمال باكثير.
وتجهدُ
هذه الدراسة في تحقيق هدفٍ أساسٍ يتمحوَرُ في تناول جماليَّات البناء
الفني في تواشُجها مع البنية المضمونيَّة، وقُدرتها على تحقيق الرؤية
الإبداعيَّة للمبدع، وستقومُ على التحليل النصي والمحاورة الودود لنصوص
المسرحيَّات؛ لاستكشاف تلك الجماليات.
وهناك دراساتٌ
تناولت المسرح السياسي لباكثير أبرَزُها "أدب باكثير المسرحي، الجزء الأول
المسرح السياسي"؛ أحمد السعدني، وتناول فيها ثماني مسرحيَّات طويلة، لكن
دراستنا تتعلَّق بالمسرحيَّات السياسيَّة القصيرة فحسب، وهو ما لَم يسبقُ
إليه دراسةٌ من قبل - على حدِّ علمي.
ولا شكَّ في أنَّ هذه
المسرحيَّات فيها من الثَّراء الدلالي ما يجعل الباحث يُعاني صُعوبةً في
الانتقاء أو التكثيف، لكنَّنا سنُحاول ذلك قدْر الممكن، وقبل أنْ أُغادر
هذه المقدمة يستوجبُ عليَّ أنْ أسدي شكرًا جزيلاً للأستاذ الدكتور (محمد
أبو بكر حميد) الذي كان له فضلٌ غامر في تدبير المادَّة العلميَّة وتوجيه
البحث لتناول المسرحيَّات السياسيَّة.
جماليات البناء الفني:
"إنَّ
رُؤية الفنان المرتبِطة بفِكره وموقفه يُقدِّمها الفنان من خِلال أعماله،
ونحن من خِلال أدواته التي يستعملُها نستطيع أنْ نستشفَّ رؤيته ونحكُم
عليها؛ ذلك لأنَّ الفنَّ تعبيرٌ في المقام الأوَّل بعد أنْ يتجاوز مرحلة
إعادة الخلق"[1].
وقد تعدَّدت الأدوات الفنيَّة التي
يُوظِّفها باكثير في مسرحيَّاته السياسيَّة، ومن تلك الأدوات الجمالية التي
يتوسَّل بها للتعبير عن رُؤاه ومَواقفه الفكريَّة والسياسيَّة في
مسرحيَّاته ما يأتي:
أولاً: تقنية الحلم:
يلجَأُ الأديب "إلى
الحلمِ في محاولةٍ تعويضيَّة لما يصعُب تحقيقه في الواقع، ولتحقيق تناوُل
رمزي يهدفُ إلى تحفيز وعي الناس وتفكيرهم بالحاجة بأهميَّة التغيير
الاجتماعي"[2].
"وعلى الرغم من أنَّه لا يمكن أنْ نعيش
التجربة والممارسة بالحلم، فإنَّنا يمكن أنْ نجعل منه مدخلاً للارتباط
بالواقع المعيش لغةً وذاتًا ومجتمعًا، ولا معنى للحلم إنْ لم يكن منشبكًا
بالتجربة والممارسة"[3].
وتسعى المسرحيَّة من خِلال تقنية
الحلم أو الرؤيا المناميَّة إلى سبر أغوار الشخصيَّة بوصْف الحلم منطقة
مُتمرِّدة على الرقابة الواعية في نظر المحلِّلين النفسانيين، كما تعدُّ
الأحلام لديهم مِسبارًا لقراءة النوازع الكامنة في أعماق اللاوعي؛ حيث
تبوحُ الشخصيَّات في أحلامها المناميَّة بما لم تتمكَّن من البوح به في
الواقع الموضوعي.
ونجدُ في مسرحيَّة "أضغاب أحلام"[4]
توظيفًا بارعًا لتقنية الحلم أو الرؤيا المناميَّة؛ إذ تتَّخذ المسرحيَّة
حجرةَ نوم (المستر شرشل) مسرحًا لها، وفي منتصف ليلة من الليالي حيث تفزع
ابنته الصغيرة (ماري) من نومها (تصيحُ على سريرها):
• أدركوني! أدركوني! أمي.. أبي.
وكانت هذه الصيحة بداية للمسرحيَّة، فقد أخَذ الوالدان باستقصاء أسباب الفزع، فقالت الصغيرة:
• لقد رأيت رؤيا مفزعة.
• الأب: لا ينبغي لمثلك أنْ تخشى الرُّؤى والأحلام.
• الأم: ماذا يا عزيزتي؟
• البنت: (تمسح العرق عن جبينها، وتتنهَّد) إنها رُؤيا فظيعة.
• الأب: بنت، الدماغ العابثُ اللاهي تجيءُ بها أباطيل الخيال، كما يقول شكسبير.
• البنت: كلا يا أبي... لقد رأيت صَرعَى هيروشيما وهم يتعلَّقون بك، كلٌّ منهم يريدُ أنْ ينتقم منك!
•
الأب: ماذا أوصلك إلى ذلك البلد البعيد؟ لقد صدق شكسبير إذ يقول عن الحلم:
"أرقُّ من صافي الهواء، وأشد ذبذبة من الريح التي بينا نراها في الشامل
تُداعب الثلج الجميل إذ بها ترتدُّ مغضبة فتلثم في الجنوب فرائد الطل
النثير".
إنَّ النصَّ يعتمدُ على الرؤيا المناميَّة سبيلاً
لكشْف قضيَّةٍ خطيرة، فكانت سبيلاً لتصوير جِناية (شرشل) ودوره الآثِم
فيما أصابَ هيروشيما، وبَيان كيفية أنَّ انتِقام الضحايا قد تحقَّق إن لم
يكن في الواقع ففي الحلم.
• لو رأيت يا أبي تلك الصورة
المشوَّهة كما رأيتها لامتلأ قلبك رعبًا، لقد رأيت كلَّ واحدٍ منهم يوقع بك
مثل ما أصابه من جرَّاء القنبلة الذريَّة، فهذا يُشوِّه وجهك تشويهًا
فظيعًا، وهذا يسلخ جلدَك كما تُسلَخ البقرة، وآخَر يحفر في عينيك... آه، يا
للفظاعة! (تغطي وجهها وتنتحبُ).
ونلحظ أنَّ المسرحيَّة
تتَّجه نحوَ تصعيد الصِّراع بنوعٍ من التدرُّج، وهذا التدرُّج - كما يرى
باكثير - من شُروط جودة الحوار، إلى جوار معرفة الكاتب بشخصيَّاته[5]،
فالكاتب يسيرُ بالحوار مُتدرِّجًا بما يكفل متابعة القارئ دون الإحساس
بأيِّ فَجوات، فضلاً عن امتِلاكه خبرة ودراية بدور الشخصيَّات، فهو يُجسِّد
دور (شرشل) ويرسمه من خلال الحوار بكلِّ تفاصيله الفكريَّة والنفسيَّة،
وقدَّمه بوعيٍ تامٍّ بموقفه في الحرب العالميَّة الثانية، فيكشف بالحوار
هسهسة مشاعره، ونبضات فكره.. لحظات الانكسار أمام هتلر، والاهتزاز أمام
الرؤيا، وومضات الضمير، وغلبة الجحود والصلف.
وتأتي مرحلةٌ
جديدة من مراحل توظيف تقنية الحلم، فلم يقتصرِ الأمر على البنت الصغيرة،
بل امتدَّت شرارة الحلم لتُشعِل النار في منطقةٍ أخرى هي أعماق (شرشل)
نفسه، ويُعالج كابوسًا مخيفًا؛ إذ يدخُل في تفاصيل حلم ممتدٍّ يُقابل فيه
شبحًا مرعبًا تجلَّى له في صورة (هتلر)، ويدورُ بينهما حوارٌ طويل تجلَّى
فيه شرشل مستكينًا أمام هتلر يبكي ويتوسَّل:
"يرى شرشل في منامه
كأنَّه وُضع في زنزانة، وبينما هو يُفكِّر فيما صار إليه حالُه من الذل
والشقاء إذا بوحشٍ مخيف يظهر له... فلمَّا تأمَّله إذا به وجه هتلر".
ويُمثِّل
(شرشل) - في حلمه - أمام المحكمة ليتعرَّض لمحاكمةٍ طويلةٍ أمام المدَّعِي
العام في محكمة "نورمبرج" ويتكشَّف للقارئ من خِلال الحلم علاقة (شرشل)
بالصَّهاينة، كما توضح المرافعة التُّهم المنسوبة إليه من قِبَل المدَّعِي
العام الإنجليزي، وحينما يفزع من نومِه وهو يتصبَّب عرقًا، أخَذ يُردِّد:
"أضغاث أحلام، لقد دَعاني (يهوذا).. كلا، لست أنا (ونستون شرشل) أنا رجل
الإمبراطوريَّة الخالد.. أنا صِهيَوْني.
فالمرافعة تُؤكِّد التُّهمة، ويقومُ هو بالاعتراف، والاعتراف سيِّد الأدلة، ويقول:
•
كيف لي بالنوم الآن؟ إنَّني أخشى النوم، ويلك يا يهوذا! لا.. لا.. ويلك يا
ونستون، نعم ويلك يا ونستون، أهذا ما يُسمُّونه عذاب الضمير؟ أخشى أنْ
يصدق ما يقولون، كلا، لا بُدَّ أنْ أبحث عن سِرِّ هذا الكابوس المزعج".
إنَّه
يعترفُ بأنَّه يهوذا خائن المسيح، يعترف ويستدركُ بما يُوحي بمدَى
التذبذُب النفسي الذي يُعانيه، ومدى عَذاب الضمير الذي يفورُ في أعماقه.
إنَّ
لجوء باكثير في هذه المسرحية إلى توظيف تقنية الحلم كشَف لنا عن حَجم
المعاناة والقلق النفسي الذي يكتنفُ الشخصيَّة، وحقَّقت هذه التقنية قدرًا
كبيرًا من الدَّهشة الفنيَّة، وعلى المستوى الدلالي نقَلت لنا عالمًا
يسودُه التوتُّر الداخلي على الرغم من الاستقواء الظاهري، كما أنَّ الحلم
جعَل شرشل يُعاين جزءًا من المصير المفترض أنْ يعيشه، وبذلك ينتصرُ من
خِلاله للقيم الإيجابيَّة في الحياة، ويسهم الفن المسرحي لدى باكثير في
معالجة القَضايا الكبرى في واقعنا، وينهض بمسؤوليَّةٍ جسيمة في تشكيل
الوعي.
... إنَّ المثير للدَّهشة في هذا الحلم أنَّ شرشل
في لحظتي الحلم - حلم ابنته وحلمه هو - أخَذ يبحث عن سِرِّ تلك الكوابيس،
وقد عزا الحلم في المرَّة الأولى لكتابٍ كان موضوعًا على المنضدة عن
هيروشيما، ولا شَكَّ في أنَّ لهذا الكتاب دلالته الرمزيَّة، يقول: "سأبين
لك الآن سبب هذا الحلم" (يفتش في الكتب الموضوعة على المنضدة بقُرب السرير
فيرفع من بينها كتابًا جديدًا عن هيروشيما) هذا هو السر.. هذا هو الضمير
الذي تُؤمنين به.
وفي اللحظة الثانية من الحلم أخَذ
يُقلِّب الأوراق في مكتبه، ثم استخرج جريدةً يوميَّة فينظُر ويبتسم: هاأنذا
كشفت السر.. هذه مقالة برنارد شو عن مجرمي الحرب الألمان الذين شُنقوا
أخيرًا.. ويلٌ لهذا الكاتب الأيرلندي اللعين! إنَّ أيرلندا لا يأتينا منها
خيرٌ أبدًا... (ويرجع إلى سريره لينام) لا وجود للضمير.. إنَّ هذا صدى هذه
المقالة اللعينة، وهكذا نلمسُ الصراع بين الأنا الأعلى والهو، الأنا الأعلى
الذي يُمثِّل الضمير والرقيب على تصرُّفات الشخصيَّة، والهو الذي ينزعُ
إلى إشباع رغبات الانتقام والهوى...
إنَّ البحث عن سِرِّ
رُؤيا المناميَّة قد ارتبط بنزعة نكرانٍ لحقيقة الضمير، ومحاولة التهرُّب
من المسؤوليَّة بَيْدَ أنَّ الكتاب والمقالة يعدَّان رمزين مهمَّيْن في
سِياق إنتاج الدلالة العامَّة للمسرحيَّة؛ فهما نتاجُ الضمير الإنساني،
وشاهِدَا عدلٍ على غِياب الضمير لدى (شرشل) وأضرابه ممَّن اقترفوا الجرائم
في حقِّ الإنسانيَّة.
كما أنَّ اشتراك ابنته في الرؤيا
يشيرُ إلى عُمق المأساة التي تسبَّب فيها شرشل حتى أضحَتْ همًّا يُؤرِّق
الصِّغار قبلَ الكبار، فضلاً عن أنَّ رؤيا الطفلة كانت بوَّابة لاستثارة
قلَق أبيها من تلك الصور التي رأتها ابنته في رُؤياها، وكانت مقدمة فنيَّة
مثيرة فتَحتْ سلسلةً من التَّداعيات، وسوَّغت الانتقال بالمسرحيَّة من طورٍ
إلى آخَر.
ثانيًا: المفارقة:
تتعدَّد تعريفات
المفارقة وآراء النُّقَّاد فيها، فتُعرف بأنها: "بنية جمالية هدفها إحداث
أبلغ الأثر، تعتمدُ على الانقلاب في الدَّلالة، وإحداث هوَّة بين المظهر
والحقيقة، أو بين التوقُّع والحدث، أو بين ما يُقال وما يُنتظر قوله[6].
يقول
د. سي. ميويك: إنَّ المفارقة الحقَّة تبدأ بتأمُّل مصير العالم بمعناه
الواسع[7]، وقد توصَّل فريدريك شليكل إلى القول: "بأنَّ المفارقة تقوم على
إدراك حقيقة أنَّ العالم في جوهره ينطَوِي على تضاد، وأنْ ليس غير موقف
النقيضين ما يقوى على إدراك كليَّته المتضاربة[8].
"تظهر
المفارقة اللفظية في أبسط تعريفاتها على أنها شكلٌ من أشكال القول، يُساق
فيه معنى ظاهر في حين يُقصد معنًى خفيٌّ أو يُخالف غالبًا ذلك المعنى
الظاهر"[9].
"يحاول صانع المفارقة أنْ يقدم لمتلقِّيه
فهمًا خاصًّا للأشياء التي يتعامَلُ معها؛ أي: إنَّه يحاول بناء نسق ثقافي
يُهَيمِنُ فيه على متعلقات المفارقة: لغة وحركة وشخوصًا وصورًا متشكِّلة
بوصفها مفردات أساسيَّة تصوغ فلسفته الذاتيَّة"[10].
وقد
تجلَّت المفارقة في بنية المسرحيَّات السياسيَّة في مظاهر مختلفة؛ منها ما
يتعلَّق بالعَنْوَنة، ومنها ما يتعلَّق بالمضمون العام للمسرحيَّة، ومنها
ما يتَّصل بمواقف الشخصيَّات... ومن ضِمن المسرحيَّات التي وظَّفت المفارقة
على مستوى العنوان مسرحيَّة "السكرتير الأمين[11]؛ إذ إنَّ المسرحيَّة
تُجسِّد موقف سكرتير الأمم المتحدة (المسيو تريجفي لي) الذي يفترض أنْ يقوم
بدوره بصفته مسؤولاً أمميًّا يحرص على مصالح كلِّ الدول الأعضاء في منظمة
الأمم المتحدة، وينبغي له أنْ يكون على قدرٍ كبير من المسؤوليَّة التي
تتناغم وحجم منصبه الذي يشغله، بيد أنَّ المسرحيَّة تكشفُ عبر مشاهدها
سُقوط هذا السكرتير في وحل الخيانة، حينما يستقبل الصِّهيَوْني (شرتوك) في
غرفةٍ خاصَّة في بيته ليُساومه على المبلغ المطلوب لضَمان موقفه من
الصهاينة، يقول (شرتوك):
• هذا لطفٌ كبير منك، وإنِّي باسمي وباسم
الوكالة اليهوديَّة وباسم المجمع الصَّهيَوْني العام أُقدِّم لك أخلصَ آيات
الشكر والامتنان.
• السكرتير: (يتنحنح) لعلك يا سيدي جئتني بشيء معك!
• شرتوك: لا تعجل يا سيدي، فلم نتحدَّث فيما جئت من أجله بعدُ.
•
السكرتير: معذرة يا سيدي، حقًّا، ليس من اللياقة ولا الكياسة أنْ أبدأك
بهذا، ولكن يشفع لي أنَّنا في هذه الحجرة (مشيرًا إلى الخزانة) انظُر!
إنَّني قد أنتظر، ولكن هذه الملعونة لا تنتظر!
• شرتوك:
أعتقدُ أنها مدينة لنا بنصيبٍ كبير ممَّا تحتويه؛ وأنها لذلك تَثِقُ بنا
أكثر ممَّا تَثِقُ بغيرنا، وأرجو ألا يكون صاحبها أقل ثقة بنا منها!
•
السكرتير: تأكَّد يا سيدي أنَّ ثقتي بك لا حَدَّ لها، أمَّا هذا فيُؤسفني
أنَّك أطريتها أكثر ممَّا ينبغي، فهي لا تثقُ أبدًا إلا بالراتب الشهري
الذي تضمنه سبع وخمسون دولة، أمَّا ما وراء ذلك فلا تَثِق منه إلا بما قد
دخل إليها فعلاً، فهل لك يا سيدي أن تطمئنها أولاً؟
• شرتوك: قبل أن نتحدث؟
• السكرتير: لِمَ لا؟ سيكون لدينا بعد ذلك متَّسع من الوقت للحديث.. إنِّي قد فرغت لك نفسي كل الليلة وحدك.
• شرتوك: حسنًا، يخرج ربطة من الأوراق ويسلمها له...".
إنَّ
هذا الحوار يكشفُ بجلاءٍ مستوى التفكير لدَى السكرتير، ويرصد بتفوُّهاته
الملامح النفسيَّة والطبائع الأخلاقيَّة التي تسمُه، فهو يَذُوب في
المادَّة ويسقط في شرك الصِّهيَوْنية حتى إنَّه لَيعترفُ قائلاً:
• واقلَّة حيلتاه! ماذا أستطيعُ أن أصنع ليرضى عنِّي هذا الشعب الحبيب؟
لقد
صنعت كلَّ شيء في سبيلكم حتى ليُخيَّل إليَّ أحيانًا أنِّي لست سكرتير
الأمم المتحدة، وإنما أنا سكرتير الوكالة اليهودية أو سكرتير الجمعيَّة
الصِّهيَوْنية العامَّة، والله لولا خوفي علي مصلحة قضيَّتكم لجهرت بهذا
الرأي على رُؤوس الأشهاد، وعلى رغم أنوف العرب، وإنْ كانت نقودهم تصلُ إلى
يدي كلَّ شهر"، "أنا لا أقيم وزنًا إلا للمال".
إنَّ
المفارقة تكمُن في موقف شخصيَّة السكرتير، فهو أمينٌ على كلِّ الدول بمقتضى
موقعه، بَيْدَ أنه يظهر بوصفه أداة طيِّعة في يد أجهزة الصِّهيَوْنيَّة
العالميَّة.
إنَّ قراءة العنوان في سِياق علاقته بالنصِّ يكشفُ عن مدى المفارقة بين التسمية وطبيعة الموقف.
وتتجلَّى
المفارقة على مستوى الشخصية في مسرحية "سأبقى في البيت الأبيض"[12]، وهي
تتضافر مع المسرحية السابقة في دلالتها على دور الأجهزة الصِّهيَوْنيَّة في
استقطاب الشخصيَّات العالمية والمؤثِّرة في السياسة الدوليَّة لخِدمة
مصالحها، لكنَّ هذه المسرحيَّة تتناول ذلك من خِلال شخصيَّة (تروفول)
الرئيس الأمريكي الذي يدورُ بينه وبين بنيامين (الشخصية الصِّهيَوْنيَّة)
حوار طويل يؤكِّد مدى تشبُّثه بالبيت الأبيض مهما كان الثمن، يقول بنيامين:
• ليس لأحدٍ أن يبقى رئيسًا مدى الحياة.
• فما بال فرنكلين روزفلت قد انتُخب ثلاث مرات؟ ولو لم يأخُذه الموت من طريقي لانتُخِب مرَّة رابعة، فخامسة، فسادسة.
• ليس كل الرؤساء مثل روزفلت.
• ماذا في روزفلت.. ذلك العاجز المشلول.
• ذلك الشلل كان سرَّ قوته.
• يبدو لي أنَّك على حقٍّ يا بنيامين، فما كان له من ميزة سوى ذلك، ليت شعري أمَا من سبيل لإصابتي بالشلل؟!
فكأنَّ
بنيامين يرى أنَّ شلل روزفلت هو الذي كان يدفع الأمريكيين إلى التعاطُف
معه؛ ومن ثَمَّ أعادوا انتخابه مرارًا، فالشلل إذًا سرُّ قوَّته - كما يرى -
وفي رؤيته غضٌّ من شأن روزفلت، وتهوينٌ من قوَّته وقيامها على سماتٍ
شخصيَّة فيه، وتروفل تبعًا لذلك يوافقه، ويتمنَّى لو وجد سبيلاً لإصابته
بالشلل حتى يبقى رئيسًا في البيت الأبيض، وحينما أُصيب تروفل بشللٍ مُؤقَّت
في ذراعه، وجاءه الطبيب قال:
• نعم يا سيدي الرئيس، اطمئنَّ يا سيدي، سأعطيك علاجًا يزيلُ هذا الشلل كله خلال يومين.
• كلا.. لا تزل هذا الشلل، أريد أنْ أبقى هكذا مشلولاً، لقد اطمأنَّ قلبي الآن سأبقى في البيت الأبيض مدى الحياة.
إنَّ
المفارقة تجعَلُنا نقفُ على مستوى التفكير والتعبير لدى زُعَماء أمريكا،
وكيف تغدو الإصابة بالشلل أمنية من خِلالها يتمُّ البقاء في البيت الأبيض،
بل يغدو الشلل سرًّا من أسرار القوَّة، إنَّ شلل الرئيس الأمريكي مُعادل
موضوعي لشلل القرار الأمريكي عُمومًا شلل في الإرادة والقرار المستقل،
فالولاء للصِّهيَوْنيَّة العالمية ضرورةٌ تُقدَّم على كلِّ أولويَّات
السياسة الأمريكيَّة، لقد كان لدى الرئيس الأمريكي (ترومان) موعد مع مجلس
الوزراء لمناقشة أمور الدولة، بَيْدَ أنَّ (بنيامين) يَدعوه لحضور حفلةٍ في
الجمعيَّة الصِّهيَوْنيَّة فقد إجابة تلك الدعوة على موعد مجلس الوزراء،
يقول: (بنيامين):
• الحفلة لبحث مسألة هامة ومستعجلة يتوقَّف عليها مصير الشعب اليهودي بأسْره، كما يتوقَّف عليها مصيرك في الانتخابات القادمة".
فالنَّجاح
في الانتخابات القادمة لا يتوقَّف على مدى التصويت الشعبي الحقيقي، بل
إنَّه يتحقَّق من خلال التبعيَّة الكاملة للُّوبي الصِّهيَوْني.
كما
نجدُ مفارقةً أخرى في النصِّ إذ يتبرَّم الرئيس ترومان من دُخول أحد أعضاء
مجلس الشيوخ لديه، بينما يفتح صدره وكلَّ جوارحه في الإنصات واستِقبال
الصَّهاينة والقضاء معهم وقتًا طويلاً.
• "ماذا تنتظر.. اذهب فقد مضى ربع ساعتك.. لقد أخذت من وقتي دهرًا".
ومن
المسرحيَّات المبنيَّة على المفارقة مسرحيَّة "نشيد المارسيليز"[13]، فهي
من عنوانها تشيرُ إلى نشيد فرنسا، رمز التحرُّر والعدل والمساواة، بَيْدَ
أنَّ الإمعان في تفاصيل المسرحيَّة يكشفُ عن المفارقة المهولة؛ حيث إنَّ
المسرحيَّة تقوم على فكرة دعوة أحد النُّوَّاب لزميله للمبارزة بسبب قِيامه
بلطمه أمام الناس في المجلس النيابي، وحينما علم وزير المستعمرات بذلك
فكَّر وقدَّر في مخرجٍ يَقِي هيبة فرنسا من السقوط أمام أبناء المستعمرات؛
فكلَّف جنديين أحدهما مغربي والآخَر هند صيني، على أنْ يدعيا باسمي
النائبين (مارماريه) و(دي موتان)، ومَن قتل منهما فعلى سميِّه أنْ يتوارى
عن مسرح الحياة في باريس... واعتقد أنَّ في ذاك مخرجًا مناسبًا، بَيْدَ
أنَّ الجنديين أفشلا هذا المخطَّط حينما صاحَا في الميدان:
• "في
وسعكم أيها الفرنسيون الجبناء أنْ تقبضوا عليَّ وعلى أخي وزميلي هذا
وتخمدوا أنفاسنا إذا شِئتم، ولكنَّكم لن تستطيعوا أنْ تخمدوا نيران الثورة
التي تتأجَّج في صدور المغاربة والفيتناميين وغيرهم ممَّن تدعونهم عبيدًا
وهم الأحرار وأنتم العبيد".
حينها لم يجد الوزير بُدًّا من أنْ يأمر النائبين:
• هيا تقدَّما إلى الميدان وأنقذا سمعه فرنسا.
• هتافات: يحيا أبناء فرنسا البواسل، تحيا فرنسا الباسلة، وحينها يُعطي الوزير إشارة البدء.
• يغمض المتبارزان عيونهما ويطلقان في الهواء يترنحان ويسقطان مغشيًّا عليهما.
•
الوزير: أيها السادة، ترحَّموا على النائبين الفرنسيين الباسلين
(مارماريه) و(دي موتان)، لقد سقطا شهيدين في ساحة الشرف، ولتحي فرنسا
(يترنَّم الجميع بنشيد المارسليز).
إنَّ هذه المسرحية
تقومُ على المفارقة من عدَّة نَواحٍ: الناحية الأولى تتمثَّل في مَدى الجبن
الذي يتمتَّع به الفرنسيون في اللحظة التي يتظاهرون فيها بالشجاعة
والإقدام، فحينما نزل النائبان إلى الميدان خرَّا مغشيًا عليهما، والناحية
الثانية - وهي الأهمُّ - أنَّ فرنسا رائدة الحريَّة والعدل والمساواة
تتجلَّى من خِلال المسرحيَّة بصورةٍ عكسيَّة؛ إذ تستعبدُ الشعوب وتُفرِّق
بين البشر، بل تُقدم جنود المستعمرات للموت في سبيل الحِفاظ على ماء وجه
فرنسا؛ لكيلا يراق أمام الناس، في مشهدٍ بئيس يُبرهِنُ على مدى الهوَّة
السحيقة بين الشعارات المرفوعة والواقع العملي، والعجيب أنَّ الجميع
يُردِّد نشيد المارسيليز في مشهدٍ مفارق وساخر في اللحظة التي يسقُط فيها
النائبان.
ومن المسرحيَّات التي بُنِيت على المفارقة
مسرحيَّة "السوق السوداء"[14]، وهي تدورُ في جوهرها حول العلاقة بين
المستعمِر الفرنسي وأبناء المستعمَرات، تتمَحْوَرُ حول استِدعاء رئيس لجنة
الإسعاف التونسية (مختار) ومحاكمته بتُهمة الاتِّجار بالحبوب، وتزوير أوراق
رسميَّة، وابتزاز بعض الأموال التي جمعها من الأهالي باسم لجنة الإسعاف..
ولمن يكن مختار سوى رئيسٍ للجنة خيريَّة لإغاثة المنكوبين، وفي الواقع كان
المستعمِرون الفرنسيُّون هم الذين يخزنون الحبوب ويبيعونها في السوق
السوداء بأسعارٍ مضاعفة... بَيْدَ أنَّ المحكمة حكَمتْ على مختار بغَرامة
قَدْرها مليونا فرنك وعشر سنوات سجن مع الأعمال الشاقة، وكان (الكعاك) رئيس
الوزارة يهتفُ: تحيا فرنسا العادلة، تعيش أمُّ الحريَّات...
ويمكن
أنْ نضيف إلى المسرحيَّات المبنيَّة على المفارقة مسرحيَّة "في سبيل
إسرائيل"[15] التي تدورُ في قاعة المحكمة بلندن؛ حيث تنعقد المحكمة لمحاكمة
المتَّهم الذي هتف بسُقوط بريطانيا، لكنَّ المرافعة تكشف عن أنَّ هتافه
كان بسُقوط بريطانيا؛ لأنها سحَبتْ جنودها من القنال، بل إنَّ (اللورد
دايمري) يقول:
• يا حضرات المستشارين، لو أنَّ المتَّهم هتف بحياة بريطانيا وسقوط إسرائيل لكان في رأيي يستحقُّ عقوبة الإعدام".
وتختم
المسرحية بالحكم على الشاهد بالإعدام شنقًا بتهمة الخيانة، وهل هناك
مفارقةٌ أبلغ من هذه المفارقة؟ بل هل هناك أسلوب أقدر على التعبير عن هذه
السياسة البريطانية المتحيزة للصهاينة حتى على حساب نفسها من هذا التعبير؟
إنَّ
باكثير يقوم بتوظيف المفارقة لتجسيد الواقع الكائن ومحاكمة نقائصه، وتسجيل
كلِّ مظاهر الانحِراف فيه لأنَّ المفارقة قادرةٌ على الإدهاش الفني من
ناحية، وتضمرُ قدرًا من السخرية اللاذعة التي تنهض بأداء الدلالة من خلال
المشهد العكسي.
ونجد أنَّ المفارقة جسَّدت طبيعة علاقة
الدول - التي تدَّعي التحضُّر والتقدُّم - بالشعوب الأخرى، وشخصت علاقة
الغرب "أمريكا - بريطانيا" بالصَّهايِنة.
ثالثًا: المشهد الغرائبي:
إنَّ
التأمُّل في المسرحيَّات السياسيَّة القصيرة يُبرز مدى نُزوعها نحو
الواقعيَّة والالتزام بتجسيد قضايا المجتمع، ويمكن تصنيفها ضِمن المسرح
الواقعي، بَيْدَ أنَّ باكثير لا يتعامَلُ مع مسرحيَّاته تعامُل الراصد
المسجِّل للحادثة التاريخيَّة الحريص على إيصال الفكرة الداعية لمبدأ أو
قيمة مُعيَّنة دون العناية البليغة بفنيَّتها، فنحن نجدُ لديه وعيًا
نقديًّا بمهمَّة المسرحي؛ إذ يقول: "هل يصلح أنْ يكون الكاتب المسرحي
داعيةً لفكرة خاصَّة؟ وهل يمكن لمثْل هذا الكاتب المسرحي الذي يستوحي
موضوعاته من حماسته المتوقِّدة لهذه الفكرة أنْ ينتج مسرحيات تُعتَبر
أعمالاً فنيَّة؟ ويجيب عن هذا السؤال ويخلص إلى أنَّ "على هذا الكاتب أنْ
يجعل الداعية فيه خادمًا للفنَّان المسرحي فيه لا سيِّدًا له، وإلا
فليتَّخذ أداةً أخرى غير الكتابة المسرحيَّة؛ كالخطابة أو الصحافة"[16].
وحينما
نقرأ المسرحيَّات السياسيَّة نجد أنها مخصبة بجماليَّات فنيَّة تضمَنُ لها
قدرتها على الإثارة واستهواء القارئ وإيقاعه في شرك فِتنتها المغرية
وإغرائها الفاتن، ومن المشاهد الغرائبيَّة التي وردت في مسرحيَّاته ذلك
المشهد الذي ورَد في مسرحيَّة "أضغاث أحلام".
• شرشل يرتعدُ ويصيحُ بعد أنْ نطق رئيس الجلسة بالحكم: كيف تحكمون عليَّ بالشَّنق قبل أنْ أُدافع عن نفسي؟
• يتعالَى الضَّحِكُ هُنَيهة ثم ينقطعُ فجأةً؛ إذ ظهر من سقف القاعة شبحٌ نوراني يهبطُ رويدًا رويدًا حتى يقفَ قريبًا من المنصَّة.
• أحد القسيسين (ينهضُ وينادي): هذا السيد المسيح قوموا لسيدكم المسيح.
• ينهض الحضور جميعًا ويقفون صامتين وكأنَّ على رؤوسهم الطير.
• الشبح بصوتٍ هادئ رزين.. "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرَّة.. اجلسوا بارك الله فيكم (يجلسون).
• شرشل: يصيحُ مشيرًا إلى الشبح: هذا مفتي فلسطين! هذا الذي يستحقُّ الشنق.
• (الحاضرون يصيحون في وجهه): اسكت اسكت، ويلك! هذا السيد المسيح.
•
شرشل (صائحًا بأعلى صوته): كلا، أليست لكم أعين تُبصر؟! انظروا إلى وجهه
هذا مفتى فلسطين، هذا عدوُّ اليهود وعدوُّ بريطانيا اللَّدود.
•
الشبح (يتهيَّأ للكلام فيسكت الجميع) أجلْ يا يهوذا، أنا حامي فلسطين، ما
عاديت اليهود، وإنما اليهود هم الذين عادوني؛ لأنِّي أحمي فلسطين، وما
عاديت بريطانيا، وإنما بريطانيا هي التي عادَتْني؛ لأنِّي نصرت شعبي، شعب
فلسطين...".
إنَّ هذا المشهد الغرائبي تمكَّن من كسر رتابة
المسار الحواري في المسرحيَّة، وحقَّق عددًا من الوظائف الفنيَّة أبرزها:
تمكين المسرحيَّة من النموِّ والانتقال إلى مرحلةٍ جديدة من مراحل الصراع
داخل النص، وإضافة شخصيَّة جديدة غيَّرت مسار المرافعة ضد (شرشل)، لقد كادت
المسرحيَّة تستنفدُ طاقتها في الدلالة بإعلان الحكم على تشرشل، لكنَّ
المشهد الجديد بعَناصره الفنيَّة فتَح كُوًى جديدة في مَسار السرد، كما
أنَّ هذا المشهد قد حقَّق إدهاشًا تجسَّد في تعدُّد وجهات النظر في تفسير
حقيقته، فهو السيد المسيح في نظر القسيس، وهو مُفتي فلسطين في نظر شرشل،
وهذا التعدد حقَّق الإدهاش ومكَّن الدلالة من النماء؛ فهو المسيح في
حقيقته، وهو المفتي في مظهره؛ وبذلك فإنَّ المسرحيَّة تستدرج الدلالة
لتأكيد وحدة القضيَّة لدى الإسلام والمسيحيَّة، لقد كشف الشبح النوراني عن
هويَّته:
"لقد صدق يهوذا.. إنَّ مفتي فلسطين هو أحد أبنائي البررة،
وقد قضى زهرة شبابه في الجهاد لحماية وطني الأرض المقدَّسة من الدنس
الصِّهيَوْني؛ ولهذا ظهرتُ لكم في صُورته تكريمًا له...".
وبذلك
تُؤكِّد المسيحيَّة الحقَّة براءتها من تشرشل وكلِّ مَن هم في حكمه؛ إذ
تلصق به صفة الخيانة حين يدعوه السيد المسيح بـ"يهوذا"، ويُعزِّز هذه
الدلالة أنْ كان التصريح على لسان المسيح نفسه وأمام المحكمة التي أقرَّ
فيها تكريمه لمفتي فلسطين الرامز لكلِّ المدافعين عن قداسة الأرض المقدسة،
ويطلب السيد المسيح من المحكمة إطلاق سراح (شرشل) قائلاً:
• أطلقوا
سراح هذا المذنب؛ لعله يكفر بالذهب يومًا، ويؤمن بالله، إنَّ خير عقاب
لمثله أنْ يُترَك حيًّا؛ لعله يحسُّ يومًا بتأنيب الضمير!".
وهكذا
نلمَسُ مقدار الثَّراء الدلالي والرمزي الذي حقَّقه توظيف هذا المشهد
الغرائبي الذي تمكَّن من خلاله من استدعاء شخصيَّة المسيح من الذاكرة
التاريخيَّة لتمثل شاخصة بهيئتها أمام المحكمة لتكون شاهدًا على الحاضر
المعيش.
وهناك مشهد غرائبي آخَر تَمَّ التوسُّل به في مسرحيَّة "معجزة إسرائيل"[17].
• تدخُل جولدا ميرسون تحمل الطفل وقد كُسي ثوبًا عليه شارة إسرائيل، والطفل يضطرب كأنما يحاول التملُّص من يدها.
• جواتيمالا: (تهتف) سلامٌ على المسيح المنتظر (يدنو منه ليقبله)، أهذا ابني من صلبي! لا شكَّ عندي في ذلك.
• الطفل: (يلطمه لطمة قويَّة)، لا أقام الله صلبك، إليك عنِّي يا داعر!
• جواتيمالا: (يتقهقر عنه) أسمعته يا مونسينور كيف نطق، إنَّه لطمني تدليلاً لي لأنِّي أبوه الحقيقي!
• المندوب: يرسم علامة الصليب؟
• العم سام: أنا أوَّل مَن اعترف به قبل الإنس والجن (يدنو منه ليُقبِّله).
• الطفل: (يفقأ بإبهامه إحدى عينيه، لا تلمسني أيها الخنزير القذر).
إنَّ
الطفل الذي قدَّمته راشيل على أنَّه مولودها؛ ليُباركها العم سام والمندوب
السامي وجواتيمالا كان مُحيِّرًا لهم، حتى إنَّ الدب الأحمر فسَّر قُدرته
على الكلام بقوله: ربما ركب في جهاز فوتوغرافي سري من صُنع أحد العلماء
الأمان الذي استولى عليه جنبول".
بَيْدَ أنَّ الطفل يقول للمندوب:
• أيها الأب الصالح، إنِّي لست ابن هذه اليهوديَّة العاهرة".
• راشيل: (تصيح) احمله يا جولا، أبعِدْه من هنا.
• المندوب: دعينا ويلك نسمعه.
• الطفل: ولست مسيح اليهود الكاذب، ولست طفلاً صغيرًا يتكلَّم في المهد...
• جواتيمالا: لقد بدأ الطفل يخرف.
• الدب الحمر: اسكُت ويلك... دعه يتمُّ حديثه.. لقد أوشك سرُّ المعجزة أن ينكشف!
• الطفل: ولدت منذ ثلاثين سنة من أبٍ عربي مسلم وأمٍّ عربيَّة مسيحيَّة فاختطفني...
• جونبول مقاطعًا: أتُصدِّقون مثل هذا المحال؟ أين ذهبت عقولكم؟!
• الدب الأحمر: اسكت.. اسكت...
•
الطفل: فاختطفني جونبول هذا بعدما قتل أبوي ثم قمطني فمنع جسمي من النمو
فبقيت كما ترَوْن.. وجاء بهذه العاهرة ففتَح لها الماخور في هذه الأرض
المقدَّسة أرض آبائي وأجدادي (يجهش باكيًا).
إنَّ هذا
المشهد حافلٌ بالإثارة، يمزج فيه الفنان باكثير الخيالَ بالواقع، والصريحَ
بالرمزي، والرُّؤية المؤدلجة بالمهارة الفنيَّة الحاذقة، لقد جعل هذا
المشهد الغَرائبي المتلقِّي يعيشُ حالة من الترقب لإدراك حقيقة الطفل الذي
يتكلَّم في المهد، ومثلما التبست في صُورة الشَّبح النوراني هيئة المسيح
بالمفتي التبست هنا صُورة الطفل الموعود بصورة المسيح الذي تكلَّم في
المهد.
وأثار هذا المشهد الغرائبي شهيَّة المتلقي لإدراك
سرِّ الطفل، وجعَلَه يترقَّب لإدراك حقيقة الطفل الذي يتكلَّم ويقوم
بتصرفات مختلفة؛ لطم جواتيمالا، وفقأ عين سام، وتكلم في المهد، إنَّه الطفل
الرجل والرجل الطفل، لكنَّ الطفل يكشفُ عن عمليَّة التقميط التي قام بها
المندوب، وهي تعبير رمزي عن اغتيال المشروع العربي الإسلامي للاستقلال، في
فلسطين، وهي التي عاقت نموَّه، ولم يكتفِ المندوب بعمليَّة التقميط، بل
أراد نسبة الطفل لراشيل ليكون هو المولود المزعوم.
لقد
نجحَ الكاتب في إضفاء الالتباس والتداخُل في صورة الطفل، كما نجَح في فكِّ
ذلك الالتباس بمهارةٍ فائقة، وكشَف عن حقيقته على لسانه كما كشَف عن حقيقة
الشبح النوراني على لسانه أيضًا وجعَل كلاًّ منهما يظهرُ الحقيقة التي
يرومُ الكاتب أنْ يبرزها في سياق مسرحيَّته، إنَّ المسرحيَّة تكشفُ عن
ولادة إسرائيل في "ليلة 15 مايو"[18]، وقد نُشرت المسرحية في 13/6/1948م؛
أي: في فترة زمنيَّة وجيزة لا تتجاوز ثمانية وعشرين يومًا من إعلان دولة
الكيان الصِّهيَوْني؛ ممَّا يعني مواكبة الكاتب للحدَث وقدرته على تجسيده
في سياق فني ودلالي مُكثَّف ومتميز.
ونشير إلى أنَّ فكرة
الطفل المقمط قد برزت وتبلورت ذواتها في مسرحيَّة "ليلة 15 مايو" التي
نُشِرت في يوم 30/5/1948م؛ أي: قبل نشر مسرحيَّة معجزة إسرائيل بثلاثة عشر
يومًا، بَيْدَ أنَّ باكثير لم يحرز نجاحًا في توظيفه كما أحرزه في مسرحية
"معجزة إسرائيل"؛ إذ أفلت الرمز من يديه، وأسلم الحوار للحقيقة الواقعيَّة
عاريًا من الترميز، وكأنَّ مسرحيَّة "معجزة إسرائيل" كانت استِدراكًا لما
فاته في مسرحيَّة "ليلة 15 مايو"، وحِرصًا منه على استثمار الطاقة
الدلاليَّة للرمز.
ويمكن الإشارة إلى أنَّ الطفل قد توسَّل للمندوب بألا يسلمه لراشيل ولا للدب الأحمر ولا للعم سام ولا لجنبول، قائلاً:
• إيَّاك أنْ تسلمني لهذا الخائن المنافق، سلِّمني لأحد أعمامي، أتوسَّل إليك.
ويتنبَّأ الكاتب بنهاية إسرائيل بقوله على لسان المندوب:
•
إنِّي أشمُّ رائحة العذاب، بنجوريون يلهث من الحقد: لن ينزل العذاب إلا
على أعداء إسرائيل، على مكة وروما، نحن شعب الله المختار، سيحمينا إله
إسرائيل ويهلككم أجمعين، يسمع أزيز الطائرات ثم دوي القنابل.
• راشيل: (تفيقُ من غيبوبتها): ما هذا يا جولدا؟ ما هذا يا بنجوريون؟
احملوني إلى المخبأ.. احملوا مجد إسرائيل (يحملان راشيل وابنها إلى المخبأ ويخرجان بهما).
رابعًا: التناص:
تحفل
مسرحيَّات على أحمد باكثير بوفرة النصوص التي قام باستدعائها وتذويبها في
مسرحيَّاته، وقد تنوَّعت تنوُّعًا كبيرًا بين نصوص مقدَّسة قرآنيَّة
وإنجيليَّة، وبين نصوص أدبيَّة مسرحيَّة وشعريَّة وأمثال، وغير ذلك كما
سنُبيِّن في إشارات سريعة:
• التناص مع القُرآن: ومن ذلك ما ورد في
عنوان مسرحية أضغاث أحلام فهو تناص مع قوله - تعالى - في سورة يوسف: ﴿
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ
بِعَالِمِينَ ﴾ [يوسف: 44].
• وورد في الحوار الذي دار في الأمم المتحدة بخصوص إعلان دولة الكيان الصِّهيَوْني، على لسان تركيا:
•
"هذا الاتِّفاق لا يمكن أنْ يقوم؛ لأنَّه وقع على باطل صريح أملَتْه
الغباوة من أحد الجانبين والخديعة من الجانب الآخَر، وسيصلي الغبي بنار
صاحبه وشيكًا فيندم ولات ساعة مندم"[19].
فالتناص مع القرآن في قوله: وسيصلى الغبي بنار صاحبه، فهو تناص مع قوله تعالى: ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾[المسد: 3].
•
ومن التناص مع القُرآن ما ورد في مسرحيَّة "اهدمي بغداد"[20] التي تمحورت
حول معاهدة بورتسموث ومظاهرة العراقيين ضدها، يقول قائد المتظاهرين: إنَّ
الإنجليز عدوُّكم الأوَّل مهما تنوَّعت أساليبهم، فاعتبروا يا أولي
الأبصار، ويقول صالح جبر مخاطبًا نوري السعيد: ويلك! أتريد أنْ تكون مثل
الشيطان إذ قال للإنسان: اكفر، وفي هذا تناص مع قوله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ
الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾
[الحشر: 16].
• وفي مسرحيَّة "سأبقى في البيت الأبيض" يقول على لسان بنيامين ردًّا على الرئيس الأمريكي حين قال:
• لعنةُ الله على هتلر؛ أراد إبادة اليهود ولكن اللعين أخفق.
•
بنيامين (يتغيَّر وجهه) يؤسفني يا سيدي أنْ أجد في لحن قولك ما يشعر
بأنَّك تود لو نجح"[21]، وهذا يتناص مع قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ
لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30].
•
ومن التناص مع التراث المسيحي: قول الشبح الذي هبط بصورة السيد المسيح
يقول: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرَّة"، وهي
مقولة دالَّة، ولا سيَّما في مسرحيَّة "أضغاث أحلام" التي تناولت الإشارة
لأهوال الحرب العالميَّة الثانية، والفظائع التي تمخَّضت عنها، فهي تذكير
بحقيقة المسيحيَّة، وأنها سلام ومحبَّة؛ ممَّا يتعالق تعالقًا ضديًّا مع
مضمون المسرحيَّة.
التناص مع التاريخ:
إنَّ التاريخ
عند باكثير "معرض للنقد، وهو ليس حريصًا على الصِّدق التاريخي في أعماله
بقدْر حِرصه على الصدق، وهذا هو المطلوب من الفنَّان وليس حِرصه على
التاريخ إلا بالقدر الذي يتيحُ له استخدام التاريخ استخدامًا
دراميًّا"[22].
ومن التناص مع التاريخ الإسلامي يقتنصُ
الكاتب في مسرحية "أنا أبو بصير"[23]، تلك اللحظة التاريخية في السيرة
النبويَّة عقب صُلح الحديبية؛ إذ خرج أبو بصير وأبو جندل لمهاجمة القرشيين
حينما ردَّهما الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - التِزامًا ببنود الصلح...
وحاوَل باكثير إسقاط الشاهد التاريخي على الحادثة المعاصرة المتعلِّقة
بمهاجمة البريطانيين".
والتاريخ عند باكثير منبعٌ يأخُذ منه، ولكنَّه قابلٌ للنَّقد"[24].
• ومن توظيف الشعر قوله[25]: للناس فيما يعشقون مذاهب، وهو عجز بيت لأبي فراس الحمداني من قصيدة مطلعها:
أَبِيتُ كَأَنِّي لِلصَّبَابَةِ صَاحِبُ
وَلِلنَّوْمِ مُذْ بَانَ الخَلِيطُ مُجَانِبُ
يقول:
وَمِنْ مَذْهَبِي حُبُّ الدِّيَارِ لأَهْلِهَا
وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ
كما نجد تناصًّا مع مسرحيَّة شكسبير[26]: "يقول شرشل لابنته بعد أنْ قصَّت رؤياها:
•
الأب (يضحك) هيروشيما! ما الذي أوصلك إلى ذلك البلد البعيد؟ لقد صدق
شكسبير إذ يقول عن الحلم: أرقُّ من صافي الهواء، وأشد ذبذبة من الريح التي
بينا نراها في الشمال تداعب الثلج الجميل إذا بها ترتدُّ مغضبة فتلثم في
الجنوب فرائد الطل"، وقبل ذلك يقول عن الرؤيا نفسها:
• بنت الدماغ العابث اللاهي تجيءُ بها أباطيل الخيال" كما يقول شكسبير.
ونلحظ
أنَّ الكاتب لا يقحم النص على سياق مسرحيَّته، بل يأتي به في اللحظة
المناسبة ليُحقِّق دلالة كأنَّ السياق كان ينتظرها، وتتلاءم مع الشخصيَّة
بشكلٍ دقيق.
كما يتناصُّ مع السينما العالميَّة في أحد حواراته؛ إذ يذكر (شرشل) في الحوار بين (تريفول) و(بنيامين)[27]:
• إنَّ الناس يَعبُدونه هناك كما يَعبُدون شبيهًا له في المنظر والشكل يرَوْنه في الأفلام الأمريكيَّة.
• مَن هو؟
• الممثل الهزلي (هاردي).
• هاردي؟ (يندفع في قهقهةٍ عصبيَّة) هاردي.
• نعم؛ إنَّهم يضحكون عليه كما تضحك عليه الآن...
لقد خشي أنْ يقرنوه إلى (شرشل) فتكتمل الصورة الساخرة للممثِّلين الهزليين (لوريل وهاردي)، يقول:
• أخشى أنْ يقرنوني إلى (شرشل).. لا أريد أنْ أكون لوريل.
إنَّ
لجوء الكاتب إلى التناصِّ ليس لجوءًا اعتسافيًّا، بل تقتضيه دلالة السياق،
ويكشفُ عن ثَراءٍ ثقافي لدَى الكاتب، ثراء في الثقافة التراثيَّة، وثَراء
في الثقافة المعاصرة سياسيَّة وفنيَّة، وخبرة عميقة بثقافة شخصيَّاته؛
لأنَّه لا يكتب لنا نصًّا شعريًّا، بل يكتب نصًّا مسرحيًّا يتقمَّص
شخصيَّاته، ويتناغم مع ثقافتها، وذلك ليس يسيرًا إلا على فنان مثقَّف،
ومثقَّف فنان.
سادسًا: تنويع الحوار:
"يُعتبر
الحوار من أهمِّ عناصر التأليف المسرحي؛ فهو الذي يُوضِّح الفكرة
الأساسيَّة ويقيم بُرهانها، ويجلو الشخصيَّات، ويُفصح عنها، ويحمل عِبء
الصِّراع الصاعد حتى النهاية، وهذه المهمَّة يجب أنْ يضطلع بها الحوار
وحده، ولا يعتمد في شيء من ذلك على الشروح والتعليمات التي يضعها الكاتب
بين الأقواس، فهذه إنما توضع لمساعدة المخرج على فهم ما يريد الكاتب ممَّا
هو مستكنٌّ داخل الحوار، لا ممَّا هو خارجه"[28].
ومن
خِلال النص السابق نجد أنَّ باكثير يمتلك وعيًا عميقًا بصَنعته؛ فهو يعرفُ
متى يجعل الحوار خارجيًّا ومتى يجعله حوارًا نفسيًّا داخليًّا بما يكفل
إيصال الفكرة وتحقيق الإثارة، يقول في مسرحية "معجزة إسرائيل"[29] عن حادثة
ميلاد (راشيل) وأنَّ مولودها سيكون معجزة:
• الدب الأحمر: آمنوا به إنْ شئتم، أمَّا أنا فلست خرافيًّا مثلكم.
• بنجوريون: لقد شهدت المعجزة بعينك.
• الدب الأحمر: سيكشفُ الفحص العلمي سرَّ ذلك عمَّا قريب.
فالحوار
الخارجي يكشف عن الهوية الأيدلوجيَّة للشخصيَّة، ورؤيتها للحياة وتفسيرها
للظواهر، فالاتحاد السوفيتي - المرموز له بالدب الأحمر - ينطلق في رؤيته
للحياة من الرؤية الماديَّة؛ فيجحد الغيبيات، والحوار هنا يكشفُ عن هذا
البعد؛ حيث يرى أنَّ الفحص العلمي - ولا شيء سواه - سيكشف سرَّ ذلك.
ولو
تعقَّبنا الحوار الخارجي لوجدنا الشَّواهد ماثلةً في الدلالة على دقَّة
توظيفه، لكنَّنا سنقف عند ظاهرتين من ظواهر الحوار الخارجي تكادان
تُؤكِّدان حُضورهما في كثيرٍ من المسرحيَّات السياسيَّة هما: الحذف وأسلوب
المرافعة، وسنقف عندهما بشيءٍ من التفصيل كما يأتي:
الحذف:
من
الشواهد الدالَّة على الحذف ما ورد في مسرحيَّة "السكرتير الأمين"[30]،
فقد ورد الحذف مِرارًا؛ مثل قول زوجة السكرتير تحدثه عن الصِّهيَوْني
(موسيه شرتوك):
• بل أخشى أنْ يكون همزة وصل؛ فإني أعرف هؤلاء اليهود...
فالحذف
في النصِّ يُجسِّد حالة الحذر والتوجُّس من التحدُّث عن اليهود، ليس لدى
سكرتير الأمم المتحدة بل لدى زوجته أيضًا، فالحذف يقولُ ما لا يقوله
الكلام.. فلك أنْ تحمل الحوار ما تريد من الدلالات السلبيَّة عن اليهود،
إنَّ الدلالة منفتحةٌ على آماد التأويل بسبب هذا الحذف، كما يستدعي هذا
الحذف تعقيب السكرتير:
• هس.. اخفِضي صوتك، آه لو علموا أنَّ زوجتي تحمل هذه الروح اللاساميَّة لقُضِي على مركزي ومستقبلي!
وحينما
كان السكرتير مختليًا بشرتوك في حجرة خاصَّة تحرَّكت الستائر، فطَمأَنه
السكرتير بأنَّ الحركة بسبب القطَّة كيتي، لكن (شرتوك) يقول:
• ظننت أن...
• السكرتير: كلا.. هذه حجرتي الخاصة.
فالحذف
في نصِّ شرتوك يُشخِّص حالة العرب الصِّهيَوْني، ويُجسِّد مَدَى سريَّة
الموضوع وخُطورته، فهنا في هذه الحجرة تتمُّ عمليَّة خيانة كبرى من قبل
السكرتير، وتتمُّ عملية مساومة على موقف خطير للغاية.
وفي مسرحيَّة "أضغاث أحلام"[31] تقول البنت حاكية رؤياها المرعبة:
• كلا، لا أنام الليلة وحدي أبدًا.
• الأم: اطمئنِّي يا ماري... سأنام معك.
• الأب: لكن..
• الأم: نَمْ وحدك الليلة، أخائفٌ أنت؟!
فالحذف
يقتنصُ لمحةً شاردة في نفسيَّة (شرشل) لتأثُّره بالصور المرعبة التي رأتها
ابنته (ماري) على الرغم من تظاهره بالاستقواء ولا مبالاته بالرؤيا ما
يشفُّ عن مَدَى هزيمته من أعماقه، وهكذا نجدُ أنَّ الحذف سمةٌ من سمات
الحوار الخارجي يضطلعُ بإثراء دلالة النصِّ ويقول كثيرًا ممَّا لا يُقال.
أسلوب المرافعة:
من
الأساليب التي يتَّسم بها الحوار لدى باكثير أسلوب المرافعة؛ إذ يلجأ -
أحيانًا - إلى عقد جلسة محاكمة تتمُّ خلالها المرافعة في قضيَّةٍ ما، وهذا
الأسلوب الحواري ورد في المسرحيَّات: "أضغاث أحلام"[32]، و"في سبيل
إسرائيل"[33]، و"في بلاد العم سام"[34]، و"السوق السوداء"[35]، ويُعَدُّ
أسلوبًا ناجحًا في تناول الموضوعات ذات العلاقات الشائكة التي تتعدَّد فيها
وجهات النظَر، ويقتضي حسمها وجود جهة مستقلة يكون من شأنها النُّطق
بالحكم.
لقد صوَّرت مسرحيَّة "أضغاث أحلام" جناية (شرشل)
ودوره في الحرب العالمية الثانية وظُلمه للألمان، وكانت مسرحيَّة "في سبيل
إسرائيل" مُتضمنة مدى المفارقة التي وقَع فيها النظام البريطاني في
استماتَتِه في الدِّفاع عن إٍسرائيل ولو على حِساب المصالح البريطانيَّة،
حتى إنَّ المرافعة تصلُ إلى حدِّ استصدار حُكم ضد الشاهد الذي شهد بما قاله
المتَّهم الذي هتَف بموت بريطانيا؛ لأنها سحَبت جنودها من القنال ولم تعدْ
تدافع عن إسرائيل، وتتناول مسرحيَّة "في بلاد العم سام" التهم الموجَّهة
لـ(ترومان) من قِبَلِ المستر (هربرت برونل) في خِطابٍ ألقاه أمام الرأي
العام من باب الدعاية الانتخابيَّة، مفادها: أنَّ الحكومة السابقة حُكومة
ترومان كانت تسمَحُ بتسرُّب الشيوعيين والجواسيس إلى المناصب الخطيرة في
الدولة. وتتناول مسرحيَّة "السوق السوداء" محاكمة أحد أبناء تونس (مختار)
من قِبَلِ النظام الفرنسي بتُهمة الاتِّجار بالحبوب، وأخْذ الأموال من
الأهالي باسم لجنة الإسعاف التونسيَّة؛ لإغاثة المنكوبين بالمجاعة وتحت
لافتة العمل الخيري، في الوقت الذي كان المستعمِرون الفرنسيُّون هم مَن
يحتكرُ الحبوب ويبيعها في السوق السوداء بأسعارٍ مُضاعَفة.
ولا
شَكَّ في أنَّ أسلوب المرافعة يُعَدُّ أسلوبًا ناجحًا في تجسيد مثلِ هذه
القضايا، كما أنَّه يُسهِم في توتُّر حدَّة الصراع في المسرحيَّة، ويجعل
المتلقي على قدرٍ كبير من التركيز والاحتشاد لما سينجم عنه الحوار والترافع
بين الأطراف المتباينة، فمن وظائف الحوار تطوير الحبكة... وتصوير
الشخصيَّات في عواطفها وأفكارها والإمتاع الجمالي"[36].
الحوار الداخلي:
برز الحوار الداخلي في مسرحيَّات باكثير السياسيَّة في كثيرٍ من المواضيع، أبرزها في مسرحيَّة "نشيد المارسيليز"[37].
•
مارماريه: (يقف أمام المِرآة وحدَه).. قد تكون هذه تضحية قاسية.. لكن مَن
يدري لعلَّه يقتلني في المبارزة فيستولي على مرغريت.. فهذا أهون الشرَّيْن
على كلِّ حال.. مسكينة مرغريت.. إنها تحبني".
• الوزير: عجبًا لي! كيف لا أعرف (مدام مارماريه) إلى اليوم، لقد ذهبت أيامك يا دون جوان!
• الوزير (يتنفَّس الصعداء ويتمطَّى): رجعت أيامك يا دون جوان.. إنها الجمال كله يتبختر في فستان...
وفي مسرحيَّة "سأبقى في البيت الأبيض"[38] كثُرت المقاطع التي تُمثِّل النَّجوى الداخليَّة لدى الشخصيَّات؛ مثل قول (تروفول):
• (يرفع رأسه عن المكتب) لقد كادت روحي تزهَقُ من هذه المقابلات والحفلات والجلسات.. أليس لها آخِر؟
وبعد أنْ يستدعي الحاجب يقول له:
•
إنِّي لا أريد أنْ أُقابل أحدًا الآن، (يُحدِّث نفسه): هؤلاء الجشعون، لقد
أصبح مصيري تحت رحمتهم.. هؤلاء الدُّخَلاء المتحكمون الذين يصدرون أوامرهم
إلينا من نيويورك.. لقد صدق من سماها جيو يورك.. كلا، لا أدعهم يتكاثرون
في هذه البلاد، لتبتلعهم فلسطين، ولتأكلهم وحوش العرب... خمسة أشهر..
الانتخابات.. البيت الأبيض.. لا.. لا.. سأبقى في البيت الأبيض (يعود فيهوي
برأسه على المكتب).
وتستمرُّ هذه المقاطع المونولوجيَّة تُصوِّر الحالة النفسيَّة لتروفول:
•
تروفول (يحدث نفسه): حائيم ليفي.. ليفي حائيم.. كوهين إيزاك.. إيزاك
كوهين.. ليفي إيزاك.. إيزاك ليفي حائيم كوهين.. كوهين حائيم.. بنيامين
إيزاك إيزاك بنيامين.. أوَّه! كم ينتج من ضرب هذه الأسماء بعضها في بعض!
لعنة الله عليك يا هتلر..
إنَّ الشخصيَّة تُفصح من خلال
الحوار الداخلي عن تمزق عنيف.. فما يضمره عكس ما يظهر؛ يُضمر بغضًا لليهود
وحِقدًا عليهم ورغبةً في التخلُّص منهم، لكنَّه يُظهر الحفاوة والحِرص
والتضحية من أجلهم، ويُسهِمُ الحوار الداخلي في الكشف عن المضمر النفسي
ليبرز الصِّراع العميق في الشخصيَّة والتناقُض في الموقف، وبذلك تظهر لنا
أهميَّة الحوار الداخلي الذي لولاه لما تمكَّن القارئ من الوقوف على مِثل
هذا التناقُض.
ونلحَظُ في النصِّ وفرة الشخصيَّات
اليهوديَّة، بل إنَّ باكثير يستحضرُ تاريخ اليهود ويُقدِّم الشخصية
اليهوديَّة في رؤاها وطريقة تفكيرها؛ "وهذا يعني أنَّ باكثير كان في ذهنه
حضورٌ دائم للتاريخ اليهودي وهو ينتج عمله، بما في هذا الحضور من تجارب
وجدانية وتجارب مادية مارَسْناها مع اليهود، وبما أسفر عنه هذا الحضور وهذه
التجارب من رسم أبعاد الشخصية اليهودية"[39].
ويقدم ذلك
في أسلوب إبداعي يتخيَّر فيه القالب الفني الأنسب لحمل الدلالات المناسبة
في تناغُم بين الرُّؤى الفكريَّة والقوالب الجماليَّة.
• • • •
الخاتمة
ممَّا سبق نستنتجُ الآتي:
•
إنَّ المسرحيَّات السياسيَّة مُفعَمة بالرؤى الفكريَّة والمواقف
السياسيَّة التي يُعبِّر عنها باكثير، وهي في معظمها تتعلَّق بفلسطين، ثم
بعلاقة العرب جميعًا مع القوى الكبرى المهيمِنة في العالم.
•
إنَّ باكثير لم يقمْ بالتسجيل الواقعي للأحداث السياسيَّة، بل تمكَّن من
المزج بين المحافظة على جوهر الموضوع، وحمله في قالب فني جميل يثيرُ القارئ
ويجلب اهتمامه ويُؤثِّر فيه.
• إنَّ باكثير تمكَّن من
توظيف عدد من الجماليَّات الفنيَّة التي من شأنها الارتقاء بالعمل الفني
المسرحي لديه؛ أبرزها: الحلم والتناص والمفارقة وتعدُّد أنماط الحوار، وفي
الحوار نجح في تسخير أسلوبَيِ الحذف والمرافعة، وتمكَّن من خلالهما من
تقديم مخصبات جديدة لمسرحيَّاته، كما تمكَّن من توظيف الحوار الداخلي
ليتوسَّل به في استنباط المشاعر الدفينة في أعماق شخصيَّاته.
•
إنَّ المسرحيَّات السياسيَّة تتميَّز بحكم مساحتها النصيَّة بالتكثيف
الرؤيوي والفني؛ ممَّا يجعلها قمينة بتخصيص دراساتٍ واسعة وعميقة في
زَواياها المختلفة، نأمل أنْ يتحقق مستقبلاً.
والله الموفِّق.
• • • •
المصادر والمراجع:
1- "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، مكتبة الطليعة أسيوط، 1980م.
2- "جماليات التحليل الثقافي، الشعر الجاهلي أنموذجًا"؛ يوسف عليمات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2004م.
3- "حداثة السؤال"؛ محمد بنيس، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1985م.
4- "الحداثة في الشعر اليمني المعاصر"؛ عبدالحميد الحسامي، وزارة الثقافة، صنعاء، ط1، 2004م.
5- "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 16/10/1946م.
6- "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمون، 26/10/1946م.
7- "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م.
8- "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م - 5.
9- "في بلاد العم سام"، الدعوة، 8 ربيع الآخر، 1373هـ.
10- "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"؛ علي أحمد باكثير، مكتبة مصر، ط3، 1985م.
11- "في سبيل إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، 5.
12- "ليلة 15مايو"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، 5.
13- "مدارات نقدية: في إشكالية النقد والحداثة والإبداع"؛ فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية بغداد، ط1، 1990م.
14- "معجزة إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، 5.
15- "المفارقة في النص الروائي: نجيب محفوظ أنموذجًا"؛ حسن عماد، المجلس الأعلى للثقافة ط1، القاهرة، 2005م.
16- "المفارقة وصفاتها"؛ دي سيء ميويك، ترجمة: د. عبدالواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي، مجدي وهبة، مكتبة لبنان، بيروت، 1974م.
17- "نشيد المارسليز"، الإخوان المسلمون، 8/6/1948م - 5.
18- "النص المسرحي، الكلمة والفعل"؛ فرحان بلبل، 2003م، اتحاد الكتاب العرب دمشق، ط1.
من أبحاث (مؤتمر علي أحمد باكثير ومكانته الأدبية)، المنعقد بالقاهرة في 18 – 21 جمادى الآخرة 1431هـ، 1 - 4يونيه (حزيران) 2010م
[1] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، مكتبة الطليعة أسيوط، 1980م، ص303.
[2] "مدارات نقدية: في إشكالية النقد والحداثة والإبداع"؛ فاضل ثامر، دار الشؤون الثقافية، بغداد، ط1، 1990م، ص317.
[3] "حداثة السؤال"؛ محمد بنيس، الدار البيضاء، ط1، ص23.
[4] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون؛ 30/11/1946م، ص5.
[5] "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"، ص69.
[6] انظر: "الحداثة في الشعر اليمني المعاصر"؛ عبدالحميد الحسامي، وزارة الثقافة صنعاء، 2004م، ص112.
[7] "المفارقة وصفاتها"، ص34.
[8] "المفارقة وصفاتها"، ص34.
[9]
"المفارقة في النص الروائي: نجيب محفوظ أنموذجًا"؛ حسن عماد، المجلس
الأعلى للثقافة، ط1، القاهرة 2005م، عن: "النص بين النظرية والتطبيق"،
ص139.
[10] "جماليات التحليل الثقافي"، ص277.
[11] "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمين"؛ 7/3/1948م، ص5.
[12] "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 26/10/1946م، ص5.
[13] "نشيد المارسيليز"، الإخوان المسلمون، 8/6/1947م، ص5.
[14] "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م، ص5.
[15] "في سبيل إسرائيل"، الدعوة، الثلاثاء 11 صفر 1373م، ص11.
[16] "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"؛ علي أحمد باكثير، مكتبة مصر، ط3، 1985م، ص36.
[17] "معجزة إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.
[18] "ليلة 15 مايو"، الإخوان المسلمون، 30/5/1948م، ص5.
[19] "في سبيل إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.
[20] "اهدمي بغداد"، الإخوان المسلمون، 29/2/1948م، ص5.
[21] "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.
[22] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، 1980م، ص305.
[23] "أنا أبو بصير"، الإخوان المسلمون، 16/10/1946م، ص5.
[24] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي، ص307.
[25] "في سبيل إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 23/6/1948م، ص5.
[26] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون، 30/11/1946م، ص5.
[27] "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 26/10/1948م، ص5.
[28] "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية"، ص69.
[29] "معجزة إسرائيل"، الإخوان المسلمون، 13/6/1948م، ص5.
[30] "السكرتير الأمين"، الإخوان المسلمون، 7/3/1948م، ص5.
[31] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون، 30/11/1946م، ص5.
[32] "أضغاث أحلام"، الإخوان المسلمون، 30/11/1946م، ص5.
[33] "في سبيل إسرائيل"، الدعوة الثلاثاء 11 صفر 1372م - ص11.
[34] "في بلاد العم سام"، الدعوة، 8 ربيع الآخر، 1373هـ.
[35] "السوق السوداء"، الإخوان المسلمون، 28/3/1948م، ص5.
[36] "النص المسرحي، الكلمة والفعل"؛ فرحان بلبل، 2003م اتحاد الكتاب العرب دمشق ط1، ص111 (بتصرف).
[37] "نشيد المارسليز"، الإخوان المسلمون، 8، 6، 1948م، ص5.
[38] "سأبقى في البيت الأبيض"، الإخوان المسلمون، 26/10/1946م - 5.
[39] "أدب باكثير المسرحي"، ج1، المسرح السياسي؛ د.أحمد السعدني، مكتبة الطليعة، أسيوط، 1980م، ص221.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/41181/#ixzz1vWzDg0Ph
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.