ثريا نافع ..
الكل حزين لغيابك يا غالية |
يقول العرب إن لنا من أسمائنا
نصيبا، وقد كان ذلك، فلك من الثريا نورها وبهاؤها وجمالها ورفعتها، فكنت
تشعين على كل من حولك بصفائك وسلامك وكرمك ومحبتك نورا على الأرض. عطفت على
كل بائس إستطعت الوصول إليه أو عبر طريقك وحياتك, ونفعت الجميع أهلك وبنيك
وبناتك وأصدقاءك، وكنت الحضن الدافىء للموجوعين والحائرين والمتألمين,
وكقديسة كنت تخفين الآمك وتصفحين وتسامحين وتمنحين من قلبك ومالك وصحتك
ومحبتك للجميع.
ودائما, ومنذ عرفتك شكرت الله وأشكره أن
كان لي نصيب في صداقتك ومحبتك. دخلت حياتى كملاك أنارها وكنت جمالا يذكرني
بقيمة الإنساني والنبيل فينا، وأن في الأرض أناس يحبهم الله ويحبونه وهم من
الصالحين. وهكذا كنت ومن صلاحك ذلك أضأت الكثير من القناديل في حياتي،
فشكرا لأنك عبرت في دنياي وشكرا لأنك كنت خير الصديقات. شكرا لذكائك الوقاد
وحنانك وشساعة روحك ووجودك في هذه الدنيا الصعبة - والإمتحان.
ماذا سيقال عن حياتك القصيرة على هذه الأرض؟
كاتبة
وأديبة, صحفية وروائية, أم وزوجة, مصرية وفلسطينية, ربة منزل وعاملة. ماذا
سيقال؟ إنك حملت هم أبنائك ووثيقتهم الفلسطينية وحاولت أن ترسي لهم الجذور
في الدوحة والقاهرة في تجديدات إقامة وخوف مهدد بالترحيل لأن هويتهم تنتمي
لمكان لم يولدوا فيه ولم يروه، ولكن عليهم أن يدوروا بين الورق الرسمي حيث
ولدوا وحيث تنتمين كغرباء يبحثون عن استضافة؟!
وكانت
حياتك الكتابة: الكتابة عن الناس الضعفاء والمقهورين والنساء المتألمات
والضائعات والمحزونات. خلقت منهم جميعا قصصا وروايات ومقالات تتوسلين
الإنساني في القارىء ليعي وبفهم ويتعاطف؟ ومقالاتك التي بطنتيها بالسخرية
حول السياسة وخلافها لتتجاوزي مقص الرقيب الحاد لم تنفذ منها.
إخترق ذلك الرقيب أحشاءك وقلبك وحملك بما لا طاقة لك به.
أصابك
ذلك القصف الإسرائيلي القذر الذي هطل على سماوات لبنان في 2006 في قلب
بيتك في الدوحة، ودخلت منه شظية كبرت وصارت شظايا حوَّلها الحزن إلى مرض
خبيث، فتك بجسدك الجميل وأدمى روحك حتى الموت. حين صادروا جواز سفرك وهددوك
بالترحيل والتسفير والمنع من الحياة في قطر حيث بيتك وزوجك وأهلك وأحباؤك
وصديقاتك والرمل والبحر والنخل الذي عشقتيه وعشت معه قرابة الثلاثين عاما.
عامان
مرَّا لم تطأ فيها قدماك أرض مصر بلادك. رفضت مغادرة الدوحة ورفضت اللجوء
لحقوق الإنسان وحاولت طريق المحبة والحوار معهم هناك فلا ذنب لك سوى
الإنتصار للبنان ضد الصهاينة ككل الشرفاء الذين ينتمون لعروبتهم. وكنت
مصرية وفلسطينية وقطرية في إنتمائك وحبك حتى النخاع, وانتصرت وتحقق لك ما
تريدين فلن يجبرك أحد على مغادرة بلاد اخترتيها وانتميت إليها مهما كان
الثمن.
وعدت للزيارة, لا الإقامة في بلدك مصر, غير أن
غضبك وألمك الذي عشتيه لعامين غزا جسدك ومن ذلك الحزن الذي كسر الروح
انكسرت حصانة الجسد وسرى السرطان فيه لتتقلبي في آلامك التي تطاولت حتى
وصلت إلى ذروتها فاستسلمت الروح إلى بارئها ورحلتِ عن دنيانا اليوم. ودفن
جسدك في الأرض التي لم تسمحي لأحد باقتلاعك منها, دفنت في الدوحة التي
تحبين، فعلى روحك السلام يا أيتها الروح الصافية.
كل يوم
تضيق الدنيا أكثر برحيل من نحب فيها, وخصوصا أولئك الحالمون الذين كان
الحزن والقهر فاتورة أحلامهم النبيلة، فزهرة حب لك يا ثريا ولأصدقائنا
الذين سبقوك: محمد الحسينى شاعر الرؤية, علاء كريم عاشق السينما الذي ناضل
من أجل أن يتم حلمه لكنه رحل, أصدقاء وسط البلد سيد خميس ورؤوف عياد وفاروق
البقيلي ومحمد حمام وغيرهم.
لن نتم جلساتنا الدافئة في
البيوت والمقاهي والشوارع والمطاعم. وسيفرش الحزن ظله على بيوتنا في
المريوطية حيث أنت جارتي هناك وحيث جاورنا الأصدقاء وعشنا سنواتنا الجميلة
معا: مريم وصافى وميثة وبدران وفوزية ورؤوف وفاطمة. حيث بيت ابنتك أميرة،
وحيث مكثت للدراسة مع أخيها عبدالله وحيث جمعة ومنى وخميس والصغار محمد
ومريم وصابرين وعمر ويوسف والممر الذي يلعبون فيه وهدايا الزيارات والقهوة
التي نشربها مع جاراتك وأمك وإخوتك حين يزورونك وحيث كان زوجك يذهب للمقاهي
القريبة ويغار من جمعتنا غيرة محبة.
لقد ذرفت من أجلك
الكثير من الدموع اليوم. ذهول الحزن طغى على كل من أبلغته خبر الغياب:
صديقتنا منحة زيتون وهدى أم يوسف وجمعة ومنى وأم صفاء. الكل حزين لغيابك يا
غالية. فلأهلك وذوويك ولنا جميعا أصدقاءك ومحبيك ومعارفك العزاء يا غالية.
ولأنك
كالورد الذي أحب وكنور شموعي الموقدة دائما، وكشمس الصباح ودفء لقاء
المساء, ولأنك في شوارع حياتنا في القاهرة وبيوتنا وجلساتنا ومقاهينا
وأماكن سهرنا وكتبنا وأوراقنا وعطورنا وفي الهدايا التي لا تزال في
الدواليب وفي الخاتم والحلق والحلي والتحف التي أهديتيني إياها, ولأنك في
قلبى لن تغيبي أبدا حتى لو رحلت إلى بعيد البعيد.
تقفز
إلى ذهني صورتك في لوحة رائعة كانت معلقة على جدران بيتك كفتاة فارسة مع
حصانها, نور الشمس على وجهها وشعرها الأشقر طليقا في الهواء. وأختم برسالة
صديقنا أحمد الشويخات حولك وهو يتذكر عرس أميرة ابنتك الذي حضرناه منذ
أعوام.
"رأيت ظهيرة اليوم ضوءا يتطاير في الأرصفة,
وها هو الخبر, إنتقال ثريا.
تسكت الآن زغرودة العرس في فندق الهيلتون, كي نقرأ الفاتحة.
الفاتحة لأرواح الأمهات والآباء, محمد الحسينى, وثريا.
لأرواحنا أيضا وأرواح الشهداء في الميادين والسجون. محبتي يا ظبية, رحمنا الله جميعا.
وقت للصلاة والتفكر".
ظبية خميس ـ القاهرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.