أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

فلسطين ليست من العشيرة!/ نهلة الشهال

صفحلت حسين توكمن المحرج دوماً تعداد الأسماء، فقد يُنسى أحدها، وعندها تكون النتيجة عكسية. فبإقصاء من نُسي، تُحبَط الغاية من لفظ كل اسم تخصيصاً له، وإعلاناً للأهمية والحميمية في آن. ولكن الرئيس الجديد خاض المخاطرة واسترسل في التعيين. فبعد أن تصدرت تشكراته رجال الجيش والشرطة (الذين حرص على نفي «تقديره الأقل» لهم، فأكد لهم أنهم مشمولون بأبوته) والقضاة (من عمل على إصدار النتيجة العظيمة ومن لم يعمل)، التفت الى فئات، وتفرعات فئات الشعب، بادئاً من الاتجاهات الاربعة، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. ولما خشي أن يكون قد نسي الوسط، ذكره. وانطلق بعدها يذكر المحافظات والمدن الكبرى اسماً اسماً، كما في أغنية نسيت عنوانها ومن المرجح أن سميرة توفيق غنتها في الماضي. هؤلاء جميعاً «أهله وعشيرته». التعبير كان كاللازمة، يُعاد إليها كلما انتهت فقرة من الخطاب. كل ابناء المهن هم «أهله وعشيرته»، معدداً إياها هي الأخرى بعناوينها الكبيرة، ثم بفئاتها الفرعية، لإيصال شعور «الحب» لها الذي كرر الإشارة إليه مراراً، ويبدو أنه يعول عليه في تحفيز الناس وفي إشعارهم بأنهم معنيون، فيرى كل سائق اوتوبيس وقطار وتاكسي وتوك توك، انتهاء بأبو محمدين صاحب الدكان الصغير في «الدرب الأحمر» أن الرئيس خاطبه شخصياً، تماماً كما كانت تفعل أم كلثوم حين تصرخ «أنت عمري»، فيشعر كل رجل في القاعة ووراء المذياع أنه هو شخصياً المقصود. سوى أن السيدة كانت تحوز على طاقة كاريزمية تجعلها مقنعة، وتجعل اللعبة ممكنة. والكاريزمية منحة من الله يفتقدها مرسي بقوة، وهي ستكون واحدة من مشاكله.

يعوض الرئيس الجديد بالتواضع. لم يرغ ويزبد، بل اخضع نفسه، كما عمر بن الخطاب (!)، الى طاعة الناس له طالما لم يعص الله فيهم. وهو استخدم لغة بسيطة، لعله فيها صادقاً غير متكلف بقصد الشعبوية كما قد يُظن به. وأبقى على لهجته الجهوية، كابن محافظة الشرقية. ومن المؤكد أن «أهله وعشيرته» هناك طُربوا لهذا التخصيص الخفي. ويذكر له أنه أدرج المسيحيين،الذين ذكرهم بالاسم مراراً، ضمن «أهله وعشيرته»، مما له قيمته من فم قائد إسلامي. وهو أبقى حقوق النساء في حيز «المرأة والأسرة والطفل»، كعادة عامة متأصلة، فلم يأت هنا بجديد. وأشار في معرض النية بتحقيق الانجازات أنها ستتم وفق «هويتنا ومرجعيتنا»، وفي مرة أخرى «وفق منظومة القيم المصرية وهويتها الحضارية»، (مستدركاً «إضافةً الى القيم الانسانية»، مخافة أذني الأخ الأكبر الذي كان يستمع). وتلك إشارات «طبيعية»، حرص عليها وفاءً لانتمائه الايديولوجي، ومطمئناً من طرف خفي «أهله وعشيرته» المخصوصين، أبناء التيارات الإسلامية. والأخيرة متنوعة هي نفسها في مقاربتها لأمر الضوابط المرجعية، مما يستحضر في الأفق صراعاً حول تحديد معاني وتبعات ذلك، بما يتعدى العموميات…لا بأس، ولا يهم!

كما سيتعين خوض الصراع حول تعيين «المشروع الكبير». فعلاوة على بناء «الدولة الدستورية الوطنية الحديثة»، فُهم من الخطاب أن من ركائز المشروع ذاك، الذي وُصف بـ«الشامل»، استعادة الدور الحضاري لمصر «قائدة لأمتها»، وهي الإشارة الوحيدة واليتيمة لانتماء يتعدى المنوفية والدقهلية. وأن من ركائزه الوحدة الوطنية، و«التماسك الاجتماعي»، وهذا المفهوم الأخير كان يعني، كلما ذكر وأينما ذكر، مناهضة المطالب الاجتماعية للفئات المختلفة، والتصدي للتحركات المطلبية وكسر الإضرابات باسم التماسك الاجتماعي… سنرى.

ذكر مرسي محقاً شعار ثورة «25 يناير» المصرية، وهو شعار/هتاف كل الانتفاضات في المنطقة عموماً: «العيش الكريم والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الانسانية»، يلخص بحق ما دفع ويدفع الآلاف للتصدي لسلطات فرعنت وتجاوزت كل حدود، فانقلب الامر بالضرورة الى ضده، كما تقول الحكمة القديمة. قال الرئيس الجديد، أول رئيس لمصر مدني ومنتخب، إنه سيحارب «المرض والجوع والظلم والقهر والتهميش وتزوير الإرادة والانتخابات». ولكن آخر تلك الآفات هو ما بدا يهمه بشكل خاص، فتوسع فيه من دون سواه، مسترسلاً أن الشعب اليوم قد أصبح مصدر السلطة. والشعب، يا للروعة، انتخبه هو حين تحررت إرادته، وحقق هذه «الملحمة والمنظومة العظيمة التى نمر بها بمصرنا إلى الخير والغد الأعظم والأفضل إن شاء الله». لن يستكثر مخلوق على الرجل المتواضع أن ينزلق في تلك اللحظة الى بعض المباهاة. لكن المرض والجوع والظلم والقهر والتهميش تنتظره بعد ذلك، في بلد ضيق الامكانات بذاته، فُكِّك علاوة على ذلك اقتصاده الانتاجي، وأحيل كل شبر فيه الى ممرات للنهب ليس إلا…غداً أمرُ!

الواقع أنه سيكون من قبيل الظلم افتراض سلطة لمرسي تمكّنه من التصدي لكل تلك المشكلات. فالمجلس العسكري يبسط ظله خلف الرئيس. وهو لم يكتف بحل البرلمان حين بدا ان انتخابات الرئاسة قد توصل مرشح الإخوان الى الرئاسة، بل أصدر «الاعلان الدستوري المكمل» الذي ينزع عن الرئيس كافة صلاحياته السيادية، ويجعل منصبه أقرب الى الرمزي والشرفي. وسيكون هنا الصراع عنيفاً. ولعل الإخوان يتجنبون هذه المرة الخطأ القاتل الذي ارتكبوه حتى الآن، فهم طوال السنة والنصف المنصرمة، رفضوا الانخراط في بناء تحالف توافقي بين قوى التغيير حول أهداف تأسيسية، تحالفاً توافقياً يسمح بموازنة نقاط قوة المجلس العسكري، وبخوض المواجهة معه بكفاءة. وهم نهجوا وفق انتهازية مشهودة، فناوروا قدر ما أمكنهم، وتحالفوا مع العسكر حين أمكنهم، وكانوا يظنون ربما أنهم بذلك يتسللون الى السلطة موقعاً بعد آخر. وهم من فرط اشتياقهم لها فاتهم أن المجالس والمناصب ليست سوى أطر للسلطة، لا تكفي بذاتها. وقد ادى هذا المسلك، بالدرجة الاولى، علاوة على قصور الاطراف الاخرى وعللها، الى إشاعة اليأس والفزع بين الناس، وربما القرف أيضاً. ولعل من دلالاته ألا يصوّت إلا نصف من يحق لهم التصويت في الدورة الثانية من انتخابات الرئاسة، وأن يصوت نصف النصف تقريباً ـ أو إلا قليلاً ـ لأحمد شفيق، لا يستهان به، إذ لم يخرج الرجل من سباق الرئاسة منبوذاً. وهذا معطى سيرخي بظلاله على الفترة الصراعية المقبلة، حيث لم يعد يسوي أمر النظام القديم نعت رجاله بالفلول!

لم يغادر مرسي اثناء إلقاء خطابه لهجته الصعيدية المخففة إلا مرة واحدة. كان قد استرسل في الإيقاع نفسه فذكر احترام المعاهدات والمواثيق الدولية. قال ذلك ثم توقف، وشد حنكه، وأعاد قول الجملة بلهجة فصيحة خالية من أي شائبة. الجملة الوحيدة التي كررها، ويقصد بها «كامب دافيد» بالطبع. كررها برسمية وارتاح. تلك مناسبات يعني فيها التسمر أمام التلفاز شيئاً. ففي قراءة الخطاب وليس «رؤيته» يغيب مثل هذا التفصيل وهو هام.

أما غياب فلسطين فسرُ من لم يصدق فبالغ كما يُقال في وصف هؤلاء، وهم غالباً متزلفون.كان يمكن أن ترد عبارة عن الحب مثلا الذي اكتظ به الخطاب، أو عن التعاطف مع الآلام، وهو أقل من الحب المخصص للمصريين دون سواهم. أو ما يشاء. بعد التأكيد على «كامب ديفيد» أو بعيداً عنه. كلمة، تلميح، بينما غزة تدفن ضحايا اسرائيل. ولكن الحذر هنا وصل الى منسوبه الاعلى: لا وجود لفلسطين. ليست من العشيرة ولا من الاهل، ولا حتى من الانسانية. والسلام

السفير

نهلة الشهال


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية