الفلسطينيون. أمام الحل الأردنى الاتفاق الأردنى الفلسطينى الذى أعلن عنه فى فبراير 1985، أهم حدث على مستوى الصراع العربى الإسرائيلى هذا العام. فمن ضمن الحلول والمشاريع العديدة المطروحة برز الخل الأردنى كخيار أخير أمام منظمة التحرير، وكوسيلة عملية لاسترداد الأراضى المحتلة من إسرائيل. ولا يعتبر هذا الطرح جديدا تماما. فالوصول إلى نقطة تحليل المبادرة الأردنية الفلسطينية الأخيرة، أو بمعنى أدق الخيار الأردنى لحل القضية الفلسطينية تقتضى العودة السريعة إلى ملف تسوية الصراع العربى الإسرائيلى منذ وقف بن جوريون أمام أعضاء المجلس القومى اليهودى فى 14 مايو 1948 ليعلن عن قيام إسرائيل دولة يهودية فى فلسطين، دون تحديد لحدود تلك الدولة.
ويمكن القول بإيجاز أن إسرائيل سعت فى هذه المرحلة المبكرة إلى تثبيت أركان الكيان الإسرائيلى الجديد، ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية (بالاستيعاب)، وتحويلها إلى قضية لاجئين عرب بعد سياسية التهجير التى اتبعتها لإجبار أكثر من نصف مليون فلسطينى على اللجوء إلى الدولة العربية المجاورة كوسيلة لطمس الهوية الفلسطينية. وكانت مشاريع التسوية التى طرحت فى هذه الفترة انعكاسا لهذه الرؤية. فبعد اتفاقيات الهدنة التى أعقبت الحرب فى 1949 ظهرت مشاريع دالاس، وإيدان، وهمرشولد، وجونسون، ومشروع بورقيبة، وأشكول وكلها تدور حول قرار التقسيم فى 1947، واتفاقيات الهدنة، وحق (اللاجئين الفلسطينيين) فى العودة أو التعويض أو التوطين فى الدول العربية المجاورة(1) وأعلن بن جوريون أن الحدود التى أوجدتها اتفاقيات الهدنة فى 1949 لم تعد قائمة، وأن إسرائيل لن تعود إلى حدود ما قبل الحرب، كما أنها ستحتفظ بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل(2) وأصبح مفهوم الحدود الآمنة الذى أدخلته على إسرائيل هو محدد تعاملها مع المنطقة. وبغض النظر عن الانتماءات الحزبية كان هناك اتفاق عام فى الأوساط الإسرائيلية على نقطتين أساسيتين:
الأولى تقول بأن ( الحدود الآمنة) ليست هى خطوط ما قبل 1967، و الثانية تشير إلى أن الاتفاق على هذه الحدود لا يتم إلا من خلال التفاوض لمباشر مع كل الأطراف المعنية)(3)
ويبدو أن إسرائيل أرادت من هذين الشرطين أن نتمكن فى النهاية من تشكيل حزام أمنى من أراضى الدول العربية، وأن تطرح كقوة إقليمية مسيطرة وأصبحت القضية بين إسرائيل ودول عربية مجاورة، وليست قضية شعب وأرض فلسطين. وجاء قرار مجلس الأمن الشهير رقم 242 ترجمة لهذا الواقع المفروض فقد دعا إلى الانسحاب من أراض محتلة وحدود آمنة، وتسوية عادلة لمشكلة اللاجئين. وفسرته إسرائيل على أنه لا يتم انسحاب قواتها من بعض الأراضى التى احتلتها نتيجة حرب يونيو 1967 إلا بعد توقيع معاهدات صلح بين إسرائيل والدول العربية، ومعنى ذلك أن يكون الانسحاب لاحقا لعقد معاهدات السلام معها(4)
وبعكس الفترة التى سبقت حرب يونيو والتى اتخذ فيها الجانب العربى موقفا متشددا تجاه المشاريع التى طرحت للتسوية، فأن التعامل مع مشاريع السلام بعد 1967، قد أختلق وأكتسب نوعا من المرونة. وقبلت كل من مصر والأردن ومعها بعض الدول العربية القرار 242، وقدم الملك حسين خطة للتسوية فى 1969 تعيد التأكيد على نفس القرار ووافقت عليها مصر، وجاءت مبادرة روجرز فى 1970 تدعوا إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 فقط بالنسبة لمصر والأردن، ووافقت علية الدولتان مما وضع علاقتهما مع منظمة التحرير التى تشكلت فى 1964 ورأسها أحمد الشقيرى بموافقة القمة العربى الذى عقد فى القاهرة فى يناير من نفس العام، فى مأزق حقيقى.
وانتهت هذه المرحلة بطرح مشروع عربى قدمه العاهل الأردنى، لإقامة اتحاد بين الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن فى إطار مملكة عربية متحدة، لترفضه إسرائيل وتعترض عليه منظمة التحرير والدول العربية(5)
وتجئ حرب 1973، وتفتح ملف التسوية من جديد ولكن مع بروز عامل جديد وتصبح الولايات المتحدة هى الطرف الدولى الأساسى والمشارك الأصيل فى إرساء قواعد تسوية الصراع. ويقوم وزير خارجيتها كسينجر وقتئذ بجولاته المكوكية إلى إسرائيل وعدد من الدول العربية. يسعى من خلالها لبناء السياسة الأمريكية تجاه أزمة الشرق الأوسط، والتى تحددت فى التزام أمريكيا بالعمل على تسوية نهائية، ولكن دون التزامها بمضمون الحل النهائى، فهى لن تعلن وقوفها إلى جانب المطلب العربى بالانسحاب الكامل إلى حدود يونيو 1967. ولن تقدم حلا محددا للمشكلة الفلسطينية واقترح كسينجر أسلوب الخطوة خطوة وسيلة لحل النزاع. وكانت اتفاقيات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية فى 1974 - 1975(6)
وبقيت القضية الفلسطينية التى سعت هذه السياسة بعد منتصف السبعينات إلى إرساء منطق تعدد البدائل أمام العرب بوجه عام والفلسطينيين بوجه خاص والقيام بعملية طرح الخيارات والحلول الجزئية لاستكمال ما سمى باستراتيجية السلام فى المنطقة ولشطب فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة من قاموس التسوية السياسية.
وكان أبرز هذه البدائل هو ما سمى "الخيار الأردنى ويقوم أساسا على إحلال الأردن محل الفلسطينيين كجهة مخولة بالتفاوض فى أى تسوية مقترحة بشأن حل الصراع، وبحكم الفلسطينيين ضمن شكل من أشكال الاتحادات الفيدرالية ولكن على جزء من الأراضى المحتلة، وبهذا المعنى ظهر مشروع كارتر فى 1977. يتحدث عن وطن للفلسطينيين مرتبط بالأردن، وقبله مشروع ألون وزير الخارجية الإسرائيلى فى 1972، ويقترح إقامة كيان يتمتع بالاستقلال الذاتى فى الضفة الغربية يرتبط بالأردن، وفى نفس هذا الإطار العام قدمت اقتراحات الحكم الذاتى، واتفاقيات كامب ديفيد. فى 1978، وكلها تقترب من الحل الأردنى بشكل أو بأخر، أى سواء قام حكم ذاتى للفلسطينيين فى الضفة مرتبط بالأردن، أو كان حكما ذاتيا تحت الهيمنة الإسرائيلية ولكن مع السماح بالحصول على الجنسية الأردنية كما جاء فى مقترحات بيجين للسلام فى 1977. بل وقدم شارون وزير الدفاع الإسرائيلى فى 1981 خطة يعتبر فيها الأردن هو الدولة الفلسطينية(7) ولكن صعود نجم منظمة التحرير بعد 1973، وحصولها على الاعتراف الدولى، والشرعية العربية فى 1974ن كانت تحول دون تمرير هذا البديل أو الخيار الأردنى بالمفهوم الإسرائيلى، الذى طرح به.
حتى كان غزو إسرائيل للبنان فى 1982، وضربها القوة العسكرية للمنظمة تمهيدا لإنهاء دورها فى معادلة التسوية. وبدأت نبرة الخيار الأردنى تعلو وتظهر بإلحاح فيما طرح بعد ذلك من مشروعات سلام، وأولها مبادرة ريجان فى نفس العام التى دعت إلى إقامة كيان فلسطينى مرتبط بالأردن، واستبعاد أى دور لمنظمة التحرير تدعيما لوقفها الرسمى والثابت منها منذ 1975. بعدم الاعتراف بها.(8) فى مقابل ذلك، طرح مشروع قمة فاس من الجانب العربى لينص على انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل 1967. وحق تقرير المصير للفلسطينيين، وإدخال المنظمة كعنصر أصيل فى أى مباحثات سلام.
وكانت هذه المقررات تتركز أساسا على مشروع فهد الذى قدم فى أغسطس 1981. ويدعو إلى الانسحاب الإسرائيلى، وقيام دولة مستقلة للفلسطينيين، وحق كافة الدول فى العيش بسلام:
وكان البند الأخير يعتبر تغيرا جذريا فى الموقف العربى إذ أن كان أول اعتراف عربى رسمى بحق إسرائيل فى الوجود(9) إلا أن تداعيات الأحداث بعد 1982. والانشقاقات التى شهدتها الساحتان الفلسطينية والعربية حول أطروحات التسوية، والإخفاق فى إيجاد صيغة عملية لتنفيذها. حبذت التنسيق الفلسطينى الأردنى وطرحته كخيار أخير أمام منظمة التحرير الفلسطينية خاصة بعد فشل جهود المصالحة مع سوريا. فكان انعقاد المجلس الوطنى الفلسطينى الأخير فى عمان، وأخيرا الإعلان عن الاتفاق الأردنى الفلسطينى فى فبراير 1985. لتبدأ رحلة "الخيار الأردنى" من جديد ولكن بمضمون عربى.
1- الخيار الأردنى رؤية عربية:
فالاتفاق الأردنى الفلسطينى ليس منفصلا عن تاريخ طويل من العلاقات الأردنية التى شهدت الكثير من المد و الجزر، ولا عن التصور العربى لمفهوم الحل الأردنى. كما عرضه الملك حسين فى 1972، باسم المملكة العربية المتحدة التى تتكون تحت راية المملكة الأردنية الهامشية، من قطرين إحداهما فلسطينى فى الضفة الغربية، والآخر أردنى فى الضفة الشرقية على أن تكون عمان هى العاصمة المركزية، والملك هو رئيس الدولة. أما القدس فتصبح عاصمة لقطر فلسطين(10) وكان هذا هو أول مشروع عربى يبلور بوضوح وجهة النظر الأردنية فى فكرة الخيار الأردنى، والقصة من البداية تعود إلى عام 1948، فلا جدال فى أن أسوأ الآثار السياسية للحرب العربية الإسرائيلية فى ذلك العام كانت تمزق الهوية الذاتية للفلسطينيين. إذ حمل الجزء الأكبر منهم الهوية الأردنية، وبقى جزء منهم فى إسرائيل (الأقلية العربية) ليحملوا بطاقات هوية إسرائيلية مع الإشارة إلى وضعهم كمواطنين غير يهود. وتوزع الباقون كمجموعات لاجئين فى الدول العربية المجاورة.
وبعد انتهاء الحرب وتوقيع اتفاقيات الهدنة فى 1949 بين إسرائيل من جهة، وكل من مصر، ولبنان، والأردن، وسوريا على التوالى، انسحبت القوات العربية المسلحة بموجب هذه الاتفاقيات باستثناء مصر والأردن، حيث سيطرت الأولى على منطقة غزة والثانية على الضفة الغربية. ومنذ ذلك الوقت ارتبط اسم الأردن بالأرض المحتلة فى الضفة بعد ذلك، وبحلول التى اقترحت لحل (مشكلة الفلسطينيين)(11)
وكان أول طرح لفكرة الدمج بين الأرض المحتلة والأردن هو ما قدمه الكونت برنادوت وسيط الأمم المتحدة فى ذلك الوقت للتوفيق بين الأطراف المعنية فى يونيو 1948، حين أوصى بدمج القسم العربى من فلسطين بشرق الأردن مرة ثانية. والواضح أن الأردن كان هو الآخر أميل إلى تفضيل هذا الحل. حيث ظهر ذلك فى موافقته على مر التاريخ من مشاريع التسوية التى طرحت. مؤيدة هذا الاتجاه. وبدأت أولى هذه المواقف تظهر حين عارض مسألة التمثيل الفلسطينى المستقل فى دورة الأمم المتحدة حينئذ، وعندما تشكلت حكومة عموم فلسطين فى نفس العام كان الأردن هو الوحيد من الدول العربية الذى لم يعترف بها(12)
ثم أتخذ الأردن بعد ذلك من الخطوات العملية ما يدعم هذا الخيار فبعد مؤتمر أريحا فى 1948 ومبايعة الفلسطينيين للملك عبدالله بتوحيد الضفتين بدأ الأردن فى اتخاذ إجراءات خاصة بتجنيس الفلسطينيين وإصدار قانونا يجيز لأى عربى فلسطينى الحصول على الجنسية الأردنية، ثم ألحقه بقانون أخر يشير إلى أن كل المقيمين فى الضفتين قد حصلوا على الجنسية الأردنية.
وفى عام 1950، أعلن عن تشكيل مجلس النواب الأردنى مناصفة بين الضفتين، الذى وافق على قرار بتوحيد الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن. ومنحت الجنسية الأردنية لجميع الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون فى الضفة الغربية.
بذلك أسدل الأردن الستار على أول محاولة سياسية فلسطينية للتحرك المستقل باعتبار أن ذلك سيؤسر على عملية الوحدة بينهما ولم يكن ذلك نهاية المطاف فقد أبدى الأردن تحفظات كبيرة على الاتصالات التى قام بها الشقيرى أبان انعقاد أول مؤتمر قمة عربية فى 1963 لإنشاء كيان فلسطينى مستقل. كما لم يوافق الملك حسين على المشاركة فى اجتماعات المجلس الوطنى الفلسطينى الأول الذى انعقد فى القدس فى مايو 1964إلا بعد أن وعده (الشقيرى) بعدم سلخ الضفة الغربية عن الشرقية.(13) ولم يرحب الأردن بتواجد قوات جيش التحرير الفلسطينى على أرضه استمرارا لهذا الموقف، وإن وافق بعد ذلك مع تصاعد التوتر قبيل حرب 1967 على تواجد كتيبة واحدة لمواجهة ظروف ومتطلبات الحرب، خاصة وأن الأردن كان قد وقع اتفاقية للدفاع المشترك مع مصر فى مايو من نفس العام. والمعروف أن مصر كانت تشجع العمل الفلسطينى على إقامة كيان مستقل فى ذلك الوقت ولم تستمر هذه الحالة طويلا. إذ بدأ التوتر يعود ليصبغ هذه العلاقات مرة أخرى ووضح ذلك خلال مؤتمر القمة العربية الرابع الذى عقد بالخرطوم. إذ انتقد الأردن العمل الفدائى بعد انتهاء الحرب بحجة أنه يعطى لإسرائيل الحجة لتقوم بمزيد من الإرهاب والهجوم على الأردن. فقد كان هو المتأثر الأكبر من مجمل الأحداث التى تلت 1967، حيث بدأ العمل الفدائى يتطور أصلا فوق أراضيه بسبب موقعة الجغرافى المحاذى على طول الأرض التى احتلت حديثا ولوجود أغلبية سكانية فلسطينية فى هذا البلد.
فالمعروف أن تمركز النشاط الفلسطينى الفدائى فى الأردن كان الهدف الأول لقوة الردع الإسرائيلية(14)التى لم تفرق بين الأهداف المدينة و قواعد المقاتلين فليس سرا أن كانت هناك محاولة إسرائيلية مستمرة للقضاء على المقاومة الفلسطينية سواء باستخدام أسلوب الردع المباشر لها كما حدث فى معركة الكرامة فى 1968، أو الردع غير المباشر أى الردع الموجه ضد الدول العربية المحيطة بالأرض المحتلة لدفعها إلى كبح جماح عمليات المقاومة انطلاقا من أراضيها.
وهو ما حدا بالنظام الأردنى إلى العمل على ضبط أوضاعه الداخلية للسيطرة على العمل الفدائى ومن ثم تحجيمه حتى لا يعطى لإسرائيل مبررات للاعتداء عليه. وكانت (أيلول) 1970 أبر نتائج هذه السياسية. إذ أصرت منظمة التحرير على عدم تحجيم عمل المقامة فى ظل وضع أصبح لها فيه من النفوذ والانتشار على الساحة الأردنية، ما يغضب حكومة الأردن خاصة وأنه إلى جانب ذلك كان هناك خلاف سياسى متزايد بدأ يأخذ مكانه بينها حين أصر الأردن على التمسك بموقفه بصدد إعادة الأوضاع إلى ما كانت علية قبل الخامس من يونيو 1967 وهو ما يعنى بصورة أو بأخرى ( الحل أردنى ) للقضية الفلسطينية(15) وقد ظهر ذلك بوضوح خلال المشروع الذى طرحة الملك حسين وقتها من ست نقاط (16) والذى سمى باسمه، والذى دعا فيه إلى إنهاء حالة الحرب، والاعتراف بالسيادة الإقليمية والاستقلال لجميع الدول المنطقة مع الاعتراف بحق الجميع فى العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وضمان حرية الملاحة فى العقبة والقبول بتسوية عادلة لمشكلة ( اللاجئين). وكان هذا المشروع مرتكز على قرار مجلس الأمن 242 الذى صدر فى أعقاب 1967 ووافق عليه الأردن ورفضته منظمة التحرير. واتسعت هوة الخلاف السياسى بعد قبول العاهل الأردنى بمبادرة روجرز 1970(17). التى أغلقت تماما الجانب الفلسطينى ولم تبد استعدادا للتعامل إلا مع مصر والأردن. واعتبرتها المنظمة مقدمة لتصفيتها وكان ذلك تفسيرا لموقفها السلبى أيضا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لقبوله لها. وتجمعت هذه العوامل كلها حتى أنفجر الوضع بصورة شاملة فى سبتمبر 1970. وكانت الشرارة التى أشعلت المواقف هو إعلان الملك حسين فى اليوم السابق لذلك عن تشكيل حكومة عسكرية، وفرض الأحكام العرفية على البلاد(18) وشهدت الساحة الأردنية حربا أهلية لم تشهد لها مثيل من قبل، إلا أن القوات النظامية الأردنية استطاعت السيطرة على الموقف خاصة وأن القوات السورية وعلى رأسها وزير الدفاع السورى آنذاك حافظ الأسد، والتى كانت قد تحركت عبر الحدود تدعيما للموقف الفلسطينى قد انسحبت تحسبا لضربة إسرائيلية شاملة. وأمسك الأردن بزمام الأمر، والأهم من ذلك تحاشى الدخول بقواته فى أى اشتباكات عسكرية رئيسية مع إسرائيل منذ انتهاء الحرب الأهلية(19) وبعد سلسلة طويلة من الوساطات العربية، ساهمت مصر فيها بالدور الأكبر تم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين ووقعا على اتفاقية (القاهرة) فى 27 سبتمبر 1970 لتنظيم العلاقة بين النظام الأردنى والعمل الفدائى الفلسطينى. ولم تمض سنتان حتى أعاد عاهل الأردن طرح تصوره عن صيغة التسوية للقضية الفلسطينية بإعلانه عن مشروع المملكة المتحدة فى 1972. من جانب واحد أى دون التنسيق مع أى طرف رسمى فلسطينى. ولذا لم يكن غربيا أن ترفضه المنظمة ولم تؤد هذا الموقف إلى توتر العلاقات، إذ كان هناك نوع من المهادنة السياسية متفق ضمنيا عليها. حتى جاءت حرب 1973، وتبلدت معطيات كثيرة وأن كان أهمها فلسطينيا هو حصول منظمة التحرير على اعتراف دولى رسمى واسع بها، وفوق ذلك شرعية عربية مؤكدة باعتبارها ممثلا شرعيا وحيدا للفلسطينيين أعلنت فى قمة الرباط فى 1974.
وبعكس المتوقع أيد الأردن القرار رغم تعارضه أساس مع مفهومة لإمكانية تنفيذ (الحل الأردنى) ولدور الأردن فى استعادة الأرض المحتلة خاصة وأنه هو الذى حكم الضفة الغربية لمدة 15 عاما ولدية أكثر من مليونين من الفلسطينيين يحملون جوازات سفر أردنية) وبغض النظر عما صرح به الملك حسين وقتئذ حينما سئل عن كيفية موافقته على القرار وتنازله بسهولة عن التحدث باسم الفلسطينيين، حين قال ( أننى أرى الأحداث السياسية فى المنطقة خلال العشر سنوات المقبلة بشكل واضح، وبعد عشر سنوات سيعود الفلسطينيون لنا، لنجد صيغة مشتركة للتحدث باسم القضية الفلسطينية)(20) فيمكن القول أنه كان هناك من العوامل الأردن إلى هذا الموقف. وأولها عدم إمكانية تجاوز الشرعية العربية فلم تكن منطقيا الوقوف فى وجهها أو تجاوزها، خاصة وأن قرار الرباط جاء يعد المحادثات المصرية الأردنية التى أسفرت عن توقيع بيان الإسكندرية وهو البيان الذى أعطى للملك حسين اعترافا مصريا للتحدث باسم الفلسطينيين الذين يعيشون فى الأردن ولكنه ترك النص غامضا قابلا للتفسير والتأويل إذ لم يكن حاسما فى تحديد الموقف من فلسطين الضفة الغربية مما جعل الأردن حذرا فى تحركه. يضاف إلى ذلك بعد دولى آخر تمثل فى موقف الولايات المتحدة منه. إذ رغم إرسال الملك حسين لبعض من قواته إلى الجبهة السورية فى حرب أكتوبر1973، فقد تم استبعاده من مباحثات فك الاشتباك التى تلت الحرب وكان ذلك إيذانا باستبعاد الدور الأردنى إلى حين وفقا لسياسة الخطوة خطوة التى أرساها كسينجر لإعادة رسم خريطة المنطقة(21)
ولكن لم يكن ذلك يعنى استبعاد للخيار الأردنى أو إلغاء له إذ أن القاموس السياسى للتسوية كان يحوى مضمونا آخر لهذا الخيار ليس عربيا و إنما إسرائيليا.
2- إسرائيل تعرض البديل الأردنى:
فقد عمدت إسرائيل دائما إلى طمس القضية الفلسطينية، والقضاء على فكرة إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تشكل كيانا حضاريا جديدا فى المنطقة ومن هذا المنظور طرحت مقولاتها حول تعدد البدائل أمام حل المسألة الفلسطينية والتى تمركزت أساسا حول البديل أو الخيار الأردنى وبدون كثير من السرد - فقد كان لحزب العمل الإسرائيلى أسبقية الحديث عن هذا الخيار كما كان له تصور قديم عنه. برز بصفة خاصة بعد 1967، حين طرح إيجال ألون - وكان يشغل وقتها منصب نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى، مشروعا يدعو فيه إلى إقامة اتحاد فيدرالى بين المناطق التى تجلو عنها إسرائيل فى الضفة الغربية، والأردن بحيث يأخذ الفلسطينيون مكانهم فى هذا الاتحاد. على أن تتولى الهيئات المنتخبة من العرب فى الضفة وممارسة نوع من الحكم الذاتى مستقل عن الحكم العسكرى الإسرائيلى مع بقاء شئون الدفاع والخارجية فى أيدى إسرائيل.
وفى أكتوبر 1968، كان لحزب العمل تصور آخر عن الخيار الأردنى، حين قدم أبا آيبان مشروعا إسرائيليا للسلام يرسم فيه الحدود الآمنة بين إسرائيل وكل دولة عربية لكن مع مراعاة إقامة علاقات خاصة مع الأردن.
وفى نفس العام طرح المبعوث الأمريكى وقتئذ سكرانتون مشروعا يعطى غزة للأردن، ويعيد لها أجزاء من الضفة مع تجريدها من السلاح واحتفاظ إسرائيل بسيادتها على المناطق الحيوية لها مثل (نابلسى، جنين قلقيلية بحيث تكون حزام أمن لها). (22) ومنع أية قوات من الدول العربية فى الضفة الشرقية من الأردن مع جلاء القوات المرابطة هناك وكان ذلك شبيها بما جاء فى مشروع حزب مابام الإسرائيلى الذى طرح فى العام التالى له وتضمن الانسحاب من بعض مناطق الضفة وإعادتها إلى الدول العربية المجاورة بعد إدخال تعديلات ضرورية (لأمن إسرائيل) على الحدود، والتعهد بعدم إدخال قوات عسكرية عربية غربى النهر(23). وعندما طرح هذا المشروع مرة أخرى فى 1976، أشار إلى أن إسرائيل تجد فى الحل مع الأردن حلا سياسيا يقوم على وجود دولتين مستقلتين ذات سيادة. إسرائيل من جهة، ودولة عربية أردنية فلسطينية مستقلة من جهة أخرى.
مرورا بمشروع دايان فى 1969، ووثيقة حزب العمل فى أغسطس 1973، ووثيقة الأربعة عشرا بندا فى نوفمبر من نفس العام.
والأخرى المعدلة فى 1977. إلى البرنامج الانتخابى للكنيست العاشر لعام 1981، وكلها تتحدث عن نوع من التسوية الإقليمية مع الأردن. وبعد طرح مبارده ريجان فى 1982 طرأ تغيير على موقف حزب العمل مما دعا ممثليه لأن ينادوا بحصر الحكم الذاتى للفلسطينيين فى إطار الدولة الأردنية. على أن يقام فى بعض مناطق الضفة التى ستجلو عنها إسرائيل والتى ستتحدد من خلال المفاوضات (24).
أما الليكود الإسرائيلى، وإن كان يختلف مع حزب العمل حول الموقف من الأراضى المحتلة التى يطالب بضمها تحت أسم (جورجيا وسماريا) أو أرض إسرائيل التاريخية، إلا أنه يقترب بشكل أو بأخر من الخيار الأردنى لحل القضية الفلسطينية ولكن بفروق تختلف عن الأول. إذ يطالب بحصر الخيار الأردنى فى شرق الأردن. ويتبنى مفهوم الإدارة الذاتية للسكان العرب فى إسرائيل على أن تكون تحت الهيمنة الإسرائيلية الكاملة وقد ظهر ذلك من خلال مشروع بيجين للسلام الذى قدمه إلى الكنيست فى أواخر 1977. يقترح فيه تشكيل حكم ذاتى إدارى لسكان (يهودا والسامرة) وقطاع غزة على أن يمنح هؤلاء السكان حق الاختيار الحر فى الحصول على الجنسية الإسرائيلية أو الجنسية الأردنية، وتقوم لجنة مشكلة من ممثلين عن إسرائيل والأردن، والمجلس الإدارى للنظر فى هذه القوانين المعمول بها وتحديد أنظمة الهجرة. على أ، تتمسك إسرائيل بحقها فى السيادة على هذه المناطق ( يهودا والسامرا وقطاع غزة ). ولم يختلف موقف الليكود كثيرا عن توقيع اتفاقيات كامب ديفيد فى السنة اللاحقة، متضمنة فكرة الحكم الذاتى الإدارى للفلسطينيين فى الأراضى المحتلة.(25) ومعروف أن بيجن عندما فسر قرار مجلس الأمن 242 وفق هذا المنطق حين أشار إلى أن القرار لا يلزم سوى الأردن وإسرائيل فقط ليحددا بينهما (الحدود الآمنة). إذ ليس للأردن الذى يشكل الفلسطينيون غالبية سكانه الحق فى أ، يطالب لنفسه بأى مناطق فى الضفة الغربية أى ينحصر الخيار الأردنى فى شرق الأردن.
ولا شك أن الليكود حينما طرح الخيار الأردنى، كان هدفه الأول والأساسى ومازال هو تصفية الخيار الفلسطينى نهائيا وفى نفس الوقت احتفاظ إسرائيل بجميع الأراضى المحتلة التى تعتبرها حقا تاريخيا لا يمكن التنازل عنه. (26)
وهنا يمكن خلافه مع العمل الذى تنص مبادئه على حق إسرائيل فى السيطرة على أرض إسرائيل الكاملة. ولكن مع الموافقة على التنازل عن أجزاء من الضفة الغربية بعد ضمان إخضاعها لها. وكما يقول أقطاب حزب العمل، (أن موافقتنا على التنازل عن جزء من الضفة الغربية هى نتيجة لقرارنا نحن، وبعد أن توصلنا إلى أن دولة يهودية نقية على الجزء الأكبر من أرض إسرائيل هى أفضل من دولة ثنائية القومية على كل أرض إسرائيل. ومن هنا فالانسحاب لن يشمل المناطق الأمنية الهامة لنا فى الضفة الغربية، ولا القدس باعتبارها عاصمة إسرائيل).(27) ولحزب العمل مبرراته فى طرح الخيار الأردنى على هذا النحو.
وقد ترتكز هذه المبررات كما يفهم من الكتابات الإسرائيلية حول مجموعة نقاط منها:
1- أنه سيحرر إسرائيل من السيطرة المباشرة على السكان العرب بما ينطوى علية من مخاطر على المجتمع الإسرائيلى الداخلى. فالعمليات الفدائية فى الأرض المحتلة بلغت وفقا للمصادر الإسرائيلية حوالى 423 عملية خلال الأشهر الأخيرة فقط. (28) وهو أمر لن تستطيع إسرائيل كبح جماحه على المدى الطويل فضلا عن أنها بذلك تحقق فكرة الدولة اليهودية الخالصة.
2- ومن الناحية الإقليمية، قد يؤدى تحقيق هذا الخيار، من وجهة النظر الإسرائيلية إلى تخفيف حدة العداء العربى لها، وبالتالى مساعدتها على تحقيق أطماعها الأخرى وأولها الحصول على الشرعية الإقليمية فى المنطقة والقضاء على فكرة العزلة العربية المفروضة حولها.
3- أما العامل الأهم فى طرح الخيار الأردنى من المنظور الإسرائيلى فهو القضاء تماما على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة. أو أى كيان مستقل للفلسطينيين ولذلك يرفض حزب العمل التطور الذى يطرحه الليكود عن الخيار الأردنى بحصره فى شرق الأردن لأنه قد يتضمن على المدى الطويل تحويل الأردن إلى دولة فلسطينية. وهو منطق وتوحيد تماما على الأقل لإيمان إسرائيل الذى سيكون هناك مطالب إقليمية وعقائدية لهذه الدولة بعكس الدولة الأردنية.
4- وأخيرا فأن الخيار الأردنى يتضمن ولا شك شرطا رئيسيا لتحقيقه هو التفاوض المباشر مع الأردن وتوقيع معاهدة سلام معه. وهو جزء من الإستراتيجية الإسرائيلية الشاملة ومفهومها حول ( الحدود الآمنة)، والتى تقضى فى النهاية بتوقيع اتفاقات سلام مع كل دولة من الدول العربية المجاورة على حدة على أساس التفاوض المباشر معها. وذلك لتحقيق هدفين: التوصل إلى تعيين الحدود الآمنة) لها. ولذا فقد كانت أولى الحجج الإسرائيلية لرفض مشروع المملكة المتحدة كما طرحة الملك حسين فى 1972، هو إغفاله فكرة عقد اتفاق سلام مع إسرائيل. وهى الذريعة التى تمسكت بها جولدامائير لرفض المشروع (29) إلى جانب ما ورد به حول الموقف من القدس التى ترفض إسرائيل أى نقاش حول التنازل عنها كعاصمة أبدية موحدة لها.
فأغلب الظن أن الرفض الإسرائيلى لهذا المشروع لم يكن رفضا لفكرة الخيار الأردنى، وإنما لمضمونه العربى كما ورد به خاصة وأنه كان ينص على انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل 1967، وهو ترفضه إسرائيل تماما على أساس أنها لم تعين حدودها النهائية بعد!
ولا شك أو وقوع حرب 1973، وما صاحبها من تغيير معطيات عدة، كان ل أثر كبير فى توازى فكرة الخيار الأردنى، خاصة بعد صعود نجم منظمة التحرير سياسيا وازدياد قواتها على الساحة. وبالتالى كان على إسرائيل أن تعمل جاهدة على ضرب هذه القوة لمتنامية فالخيار الأردنى. كما تطرحه يشطب أى وجود للمنظمة فى المعادلة السياسية.
بالتالى، كان مفهوما أن تتعقب القوات الإسرائيلية قوات المنظمة فى أخر معاقلها التى بقيت لها فى لبنان بعد خروجها من الأردن. ولكن لم ينجح الجيش الإسرائيلى فى 1978 بعد الحرب التى شنها عليها فى لبنان فى تصفيتها وأمام صمود المنظمة ومعها قوات الحركة الوطنية اللبنانية عاودت إسرائيل محاولتها وبدأت قيادتها العسكرية تخطط لحرب جديدة، بدأتها فى الثمانينات تحت مسميات عديدة منها
( العمليات الانتقامية ، الحرب الوقائية) فى 1981، حتى كان القرار بالاجتياح الشامل للبنان. وضرب المنظمة ضربة قاصمة قاضية فى 1982(30)
3- مبادرة ريجان تعيد طرح الخيار الأردنى:
وقدمت الولايات المتحدة الوجه الأخر لهذه العملية، بإعلانها عن مبادرة ريجان فى سبتمبر من نفس العام. التى سعت إلى تعميق فكرة كانت صعبة التحقيق قبل إضعاف المنظمة، والقضاء على وجودها العسكرى فى لبنان. وهى إعطاء الأردن الدور المحورى الرئيسى للتفاوض المباشر مع إسرائيل حول الضفة. وإحلال قيادة منظمة التحرير بقيادات أخرى بديلة من الأرض المحتلة تكون على استعداد للمضى فى مثل هذا النوع من التسوية.
ومن هنا كان إعطاء الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر لإسرائيل لغزو لبنان (31) بهدف تحطيم القوة الفلسطينية هناك تمهيدا لطرح مشروعها عن ( البديل الأردنى ). الذى يمثل فى نظرها حلا توفيقيا قد يحظى بقبول عربى، وفى الوقت نفسه يمكن تمريرة إسرائيليا بما لإسرائيل وخاصة حزب العمل من نصور قديم عن الخيار الأردنى - وقد طرح شارون خلال زيارته لأمريكا(32) قبل عملية الغزو وكان وزير الدفاع الإسرائيلى فى ذلك الوقت، فكرته عن هذا الخيار والتى تقول بأن الأردن هو المكان الطبيعى للدولة الفلسطينية، عارضا بذلك وجهة نظر الليكود بحصر الخيار الأردنى فى شرق الأردن. ولكن لا يعنى ذلك أن البديل الأردنى برز فجأة فى الإدارة الأمريكية نتيجة الطرح الذى عرضه شارون فى واشنطن. فهذا الخيار قد أعد له أمريكيا منذ منتصف السبعينات باعتباره أكثر الحلول عملية أمام إصرار الولايات المتحدة على عدم الاعتراف بالمنظمة اتساقا مع الموقف الإسرائيلى، وعدم تقبل منظمة التحرير لقرار 242. والأهم من ذلك أن هذا الخيار سيحمل فى طياته القضاء على الولة الفلسطينية المستقلة التى تطالب بها المنظمة.
ولذا أصبح الخيار الأردنى هو البديل الطبيعى أمام صانعى السياسية الأمريكية للتقدم بمشروع سلام جديد يحقق هدفين فى وقت واحد:
أولا يحافظ على الخط الأمريكى الأساسى تجاه إسرائيل الذى بدأ منذ 1948، والمتمركز حول الحفاظ على (أمن) إسرائيل. وتأمين حدودها بالتفاوض المباشر مع جيرانها من الدول العربية. ولا يخل فى الوقت نفسه بالتعهد الرسمى الذى قطعته الإدارة الأمريكية على نفسها فى 1975 بعدم الاعتراف بمنظمة التحرير.
وثانيا: يمتص الغضب العربى بعد الوقف الأمريكى إزاء غزو إسرائيل للبنان.
وهو فى النهاية سيقدم من وجهة النظر الأمريكية (حلا) خاصا بالأرض المحتلة التى أقسمت إسرائيل على لسان قادتها من زعامات الليكود ضمها نهائيا إليها. ولذا أقترب هذا المشروع الأمريكى الذى عرف بمبادرة ريجان من تصور حزب العمل فى إسرائيل عن لسان مستقبل الضفة المحتلة، وليس من تصور الليكود. وقد ترجمت المبادرة هذه المعانى بالتفافها خول نقاط رئيسية تقول بأنه:(33) لا عودة إلى حدود 1967، عدم إقامة دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وغزة، تجرى المفاوضات حول مستقبل المناطق المحتلة مع الأردن وليس مع منظمة التحرير وأخيرا إقامة حكم ذاتى للفلسطينيين فى الضفة مرتبطا مع الأردن.
ويقترب مشروع ريجان بذلك من مشروع إيجال ألون الإسرائيلى، إن لك يكن مطابقا له. ولذا لم يكن غريبا أن تلقى المبادرة قبولا لدى الأوساط العمالية فى إسرائيل وظان يعلن شيمون بيريز الزعيم العمالى (بأن الخطة تشكل أساسا للحوار مع واشنطن) ويعتبرها (نقطة تحول ذات أهمية كبرى).(34) وفى نفس السياق يشير أباابيان (أن مقترحات ريجان هى أكثر المقترحات واقعية بين سائر المقترحات التى تلقتها إسرائيل فى السنوات الأخيرة).(35) وعلى العكس من ذلك، أثارت لمبادرة ردود فعل سلبية عند ممثلى الليكود حيث أعلن بيجين (أن الضفة جزء من أرض إسرائيل التاريخية، وأنه لا يستطيع أن يتجاوز إعلان حزبه فيما يتعلق بالأرض المحتلة. ومن ثم فهو ليس على استعداد لقبول مشروع جديد، ما لم يقم على أساس كامب ديفيد).(36) وصرح شارون وكان وزير الدفاع وقتئذ ( بأنه لن يكون هناك أمام الولايات المتحدة بديل آخر غير التخلى عن هذه المقترحات لأن إسرائيل لن تبحثها، ولا يمكن تنفيذها).
ولما كان الليكود هو الذى يعتلى الحكم فى إسرائيل وليس العمل، فلم تكن الإدارة الأمريكية فى عجلة لوضع هذه المبادرة موضع التنفيذ.
الأردن يؤيد المبادرة:
أما الأردن، فقد أعلن تأييده للمبادرة باعتبارها فكرة الخيار الأردنى، ووسيلة لاستعادة الأرض المحتلة فى الضفة ولذا رأى فيها الكثير من النقاط الإيجابية ووصفها بأنها مبادرة شجاعة.(37) ولكنه لم يكن هو الأخر فى عجلة من آمرة لتنفيذها لاعتبارات عدة، ليس آخرها وجود الليكود الإسرائيلى المتشدد فى الحكم. وإنما لأسباب يمكن بلورتها فى الآتى:
أولا: احتياج الأردن إلى اتفاق مع المنظمة يعطيه الضوء الأخضر للتفاوض حول الأرض المحتلة. وهذا يعنى الخروج عما أتفق عربيا فى الرباط فى 1974.
ثانيا: رغبته فى الحصول على تعهد أمريكى واضح وملموس بشأن وقف حركة الاستيطان الإسرائيلية فى الأرض المحتلة (38).
ثالثا: الانسحاب الإسرائيلى من لبنان. فأى حديث عن تسوية سلمية والقوات الإسرائيلية ما تزال تدهس أرض لبنان يصبح لا معنى له.
ولا شك أن الملك حسين كان يعول فى تحقيق المقولتين الأخيرتين على قوة الضغط الأمريكية على إسرائيل. أما البند الأول الخاص بالمنظمة فقد كان يقتضى إتمام خطوات ثلاث، تبدأ بموافقة منظمة التحرير ولو ضمنيا على التنازل عن صفتها كمتحدث رسمى وحيد عن الفلسطينيين، إلى حصول الأردن على دعم ومساندة عربية تعطيه قدرا من الشرعية فى أى تحرك نحو التسوية. مرورا بدعم ومساندة الشعب الفلسطينى فى الأرض المحتلة. فالأرجح أن العاهل الأردنى لم يكن متأكدا من صدق النوايا الإسرائيلية فى الانسحاب من الضفة ولا واثقا من الرغبة الأمريكية فى الضغط على إسرائيل بدون حصوله على تأييد عربى وفلسطينى وهذا هو سر إحجامه عن المضى سريعا نحو تنفيذ المبادرة الأمريكية.
ولم يكن غريبا أن يسعى الأردن منذ ذلك الوقت للحصول على التأييد العربى الفلسطينى. إلا أن الانشقاق الذى وقع فى المنظمة، وعدم رغبة الجانب المعتدل المتمثل فى قيادة منظمة التحرير فى المبادرة بالتحرك مع الأردن، إلى جانب استمرار إسرائيل فى احتلالها للبنان، وإحجام الولايات المتحدة عن الضغط عليها لوقف نشاطها الاستيطانى فى الضفة الغربية، أجهضت هذه المساعى الأردنية التى تلقت ضربة جديدة بإعلان أمريكا عن تحالفها الاستراتيجى مع إسرائيل فى ديسمبر 1983(39).إلا أن هذا العام قد حمل مؤشرات أخرى أحيت الجهود الأردنية فقد تما مقابلة الملك حسين مع السيد ياسر عرفات فى أكتوبر من نفس العام (40). وبدأت العلاقات الأردنية الفلسطينية تتحسن تدريجيا خاصة وأن الانشقاق الذى أصاب المنظمة دفع بقيادتها الشرعية إلى المضى نحو الأردن، وأمام ازدياد النفوذ السورى على العناصر المنشقة عليها.
وأعاد الأردن أحياء برلمانية الذى تشكل نصف أعضائه من ممثلى الضفة الغربية(41) وبدعوة الأردن المنظمة لعقد اجتماعات المجلس الوطنى الفلسطينى فى عمان فى نوفمبر 1984(42) وقبلها أعاد علاقاته مع مصر بدا واضحا أن الأردن يسعى للسير فى طريق التسوية الجديدة المطروحة وقد تضافرت عدة عوامل جعلته يسرع الخطى نحو هذا الطريق أهمها وصول حزب العمل الإسرائيلى إلى ضمن حكومة ائتلافية وبدء الحديث عن إجراءات الانسحاب من لبنان حتى بدأت تتشكل قناعة أردنية بأن عنصر الوقت لم يعد فى مصلحة العرب، وأنه ينبغى استغلال هذا الظرف لدفع الولايات المتحدة نحو التحرك خاصة وأنه كانت هناك مخاوف أردنية قديمة من أن عدم التوصل إلى حل للمسألة الفلسطينية من خلال مفاوضات سلام مع إسرائيل.
سيقود فى النهاية إلى تنفيذ إسرائيل لتهديدها المستمر للأردن بتوسيع حدودها إلى ما وراء النهر الأردنى(43) وتحدد التحرك الأردنى فى إطار مبادرة ريجان والقرار 242 كأساس لمقايضة الأرض بالسلام والدعوة لإقامة كيان فلسطينى فى الضفة متحدا مع الأردن. ولكن مع الدعوة لدمج هذا التحرك بما جاء فى مقررات قمة فاس التى أعلنت بعد ذلك منح الفلسطينيين حقوقا أشمل على المدى الطويل تتضمن حقهم فى تقرير المصير(44) موقف المنظمة من المبادرة:
لم يكن واضحا أن هناك رفض قاطع من قبل منظمة التحرير لمبادرة ريجان فلم يخف فاروق القدومى (رئيس الدائرة السياسية بالمنظمة) فور الإعلان عن المبادرة بأنها (تتضمن عناصر جديدة) وكان يقصد بالتحديد ما جاء فيها من النص على تجميد المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى العربية المحتلة. ووصف هذه النقطة ( بأنها شئ جيد يمكن أن يكون مادة للنقاش داخل القيادة الفلسطينية)(45). وهو نفس الاتجاه الذى عبر عنه صلاح خلف ( أبوأياد ) عضو اللجنة المركزية لحركة فتح فى حديث له حيث أشار ( أو المشروع يتضمن نغمة جديدة بشأن القضية الفلسطينية من جانب ريجان لا يمكن تجاهلها وأن المشروع لا يشكل قناعة تامة بالسبة لنا. غير أنه كبداية ليس سيئا)(46).
ولم تبد لمنظمة تحفظا واضحا على المبادرة إلا عقب اجتماعات مؤتمر القمة العربى الثانى عشر فى المغرب وإنهائه إلى بلورة مشروع عربى عرف بمشروع قمة فاس. عندما صرح السيد ياسر عرفات ( بأن المبادرة الأمريكية لم تأت بجديد، ولم تخرج عن إطار اتفاقيات كامب ديفيد)(47).
وأعلن خالد الحسن ( عضو اللجنة المركزية لحركة فتح بأن المشروع تضمن سلبيات تكاد تنسف إيجابياته بإهماله حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره، وعدم ذكر منظمة التحرير، ومعارضته إقامة دولة فلسطينية)(48). وبهذا المعنى لم يكن هناك رفض سافر وصريح لمبادرة ريجان رغم التحفظات التى أبدتها المنظمة على لسان قيادتها. صحيح أن منظمة التحرير لم تكن تبد ميلا لفكرة الخيار الأردنى الذى انطوت علية المبادرة حيث أنها تحمل فى طياتها خطر القضاء على مبدأ الدولة الفلسطينية المستقلة، وعلى الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير كمتحدث شرعى وحيد باسم الفلسطينيين. ومن هنا كان موقفها السلبى من مشاريع
(الخيار الأردنى). سواء تلك التى طرحت من الجانب العربى، أو الإسرائيلى على حد سواء. إلا أن ظروف ما بعد الحرب اللبنانية الشرسة التى عاشتها المنظمة، وبعد تشتيت قواتها فى حوالى سبع دول عربية جعلتها تعيد النظر بعض الشىء فى مواقفها السابقة من هذا المشروع عن البديل الأردنى. إذ وضعتها حرب لبنان أمام خيارين(49).
أما الدخول فى مواجهة عنيفة غير محسوب نتائجها فى تلك الفترة.
أو الانضمام إلى المعادلة السياسية الجديدة التى أفرزتها تداعيات ما بعد الحرب. حتى لا تستبعد منها، وحتى تتمكن على المدى الطويل من استعادة قدرتها العسكرية، وقوتها التفاوضية.
واختارت المنظمة البديل الثانى، فكان موقفها من مبادرة ريجان الخيار الأردنى التى انتابتها. ولم يكن هذا الموقف جديدا تماما على سياستها. فهذا النهج الذى يوصف
(بالبرجماتية السياسية)، بدأ يتشكل بعد حرب الأيام الستة، وبالتحديد بعد قبول كل من مصر والأردن لمبادرة روجرز الأمريكية فى 1970.
فقد بدأت منظمة التحرير تعانى من خوف الاستبعاد، ومن عقدة عودة الضفة الغربية إلى الحكم الأردنى. ولذا لم يكن غريبا أن تقبل قيادتها الدخول من باب التسوية السياسية الذى فتح بعد حرب 1973. حتى لا يكون هناك مجال للأردن أو لغيره من الأنظمة العربية بأن يتفاوض نيابة عنها. وأستلزم ذلك قبولها بالصيغة التوفيقية أو الحلول المرحلية وهو منطق اختلفت عليه الفصائل الفلسطينية وكان بداية لسلسلة طويلة من الخلافات الفلسطينية حول طبعته وجدواه. ولكن الثابت أنه بعد الحرب وبالتحديد منذ 1974، بدأ يتبلور البرنامج المرحلى الذى ظهر من خلال مقررات المجلس الوطنى الثانى عشر الذى عقد بالقاهرة فى يونيو من نفس العام حيث قدمت حركة فتح ورقة تجعل أحد الأهداف القريبة والمباشرة للنضال الفلسطينى (انتزاع حق الشعب الفلسطينى العادل والمشروع بقيادة منظمة التحرير فى تقرير مصيره بنفسه وحقه فى الاستقلال الوطنى والسيادة الكاملة على الأرض الفلسطينية التى يتم تحريرها) وهو ما يعنى القبول بإقامة سلطة وطنية على جزء من أرض فلسطين بعد أن كان الشعار الرسمى للمنظمة يقول (بإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة على كل أرض فلسطين)(50).
وقد أعتبر ذلك تنازلا سياسيا خطيرا لمنظمة التحرير إلا أن حجتها الأساسى كانت تقوم على أساس خشيتها من أن تستخدم الإدارة الأمريكية رفض المنظمة مبادئ التسوية المعروضة، لإدخال الأردن منفردا ساحة المفاوضات لتوقيع اتفاق مع إسرائيل تجعل للملك حسين السيطرة المباشرة على الضفة(51). ولم تكن خطة ريجان، وظروف ما بعد حرب لبنان أقل خطرا على المنظمة من الظروف التى تلت حرب 1973 وظهور مشروع كسينجر للشرق الأوسط. وبنفس المنطق (البرجماتى) بدأت المنظمة تعد للتحاور مع الأردن وهى تملك من الأوراق ما يعطى لها قوة تفاوضية، وأهمها ورقة الشرعية العربية ) التى بدأت بدونها لن تلقى الأردن قبولا لتحركه وتأييدا رسميا له. والواضح أن ذلك كان هو هامش المناورة السياسية الذى بقى لها بعد حرب لبنان.
وعندما ذهب عرفات إلى الأردن فى خريف 1982، لم يرد فقط أن يثبت أن المنظمة لن تستبعد من أى تسوية سياسية، وإنما أيضا أراد تفويت الفرصة على الأردن الذى تحمس للمبادرة الأمريكية أن تدخل محادثات منفردة مع الولايات المتحدة، إذا ما أغفلت المنظمة القنوات السياسية المفتوحة معه. وقد كانت هناك من العوامل الأخرى ما عزز هذا التقارب مع الأردن. وأهمها ازدياد التوتر القديم بين القيادتين السورية الفلسطينية وخاصة بعد أحداث غزو لبنان، وحصار بيروت والخروج الفلسطينى من طرابلس، ولاتهامات التى وجهتها قيادة المنظمة للدور الذى لعبته القوات السورية فى البقاع والجبل والجنوب وإحجامها عن خوض أى قتال حقيقى مع القوات الإسرائيلية(52) هذا فضلا عن الغطاء الذى قدمته سوريا للمنشقين فى فتح. وصرح السيد ياسر عرفات (بأن سوريا ومعها ليبيا قد تآمرتا على منظمة التحرير وفتح بالذات، وأنها تسعى لمصادرة قرارها المستقل (53)
وفى المقابل بدأ عرفات بالحوار الأردنى الفلسطينى يأخذ مجراه سريعا(54) واستمرت المرحلة الأولى له من بعد حرب 1982 حتى أبريل 1983، وتخللها دورة المجلس الوطنى الفلسطينى السادسة عشر والتى شكلت منعطفا هاما فى العلاقات الأردنية الفلسطينية. أما المرحلة الثانية فقد بدأت فى صيف 1984 واستمرت حتى الآن وكان أبرز أحداثها الدعوة لانعقاد المجلس الوطنى الأخير فى عمان 1985.
فمنذ زيارة أو عمار لعمان فى أكتوبر 1982، والأحداث تترد عن علاقة كونفدرالية تربط ما بين الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها على الأرض المحررة والأردن. ولم يتحول هذا المفهوم إلى الصيغة مكتوبة إلا مع مقررات المجلس الوطنى السادس عشر الذى انعقد فى العام التالى، والتى تضمنت نقطتين أساسيتين فيما يتعلق بفكرة الخيار الأردنى:
- تؤكد الأولى على العلاقات الخاصة والمتميزة التى تربط الشعبين الأردنى والفلسطينى.
- وترى الثانية، أن العلاقات المستقلة مع الأردن ستكون على أساس علاقة كونفدرالية (وليس فيدرالية) بين دولتين مستقلتين. ورغم أن هذا الإعلان يشكل منعطفا أو مرحلة هامة على طريق العلاقات الأردنية الفلسطينية إلا أنه لم يكن كافيا لتطور هذه العلاقات أبعد من ذلك ويبدو أن ذلك يرجع لسببين:
1- أن الأردن أراد تحركا مشتركا تكون ركيزته الأولى هو قرار مجلس الأمن 242 الذى يراه الأساس الحقيقى لآى تسوية واقعية فى المنطقة، ومن ثم أراد موقفا واضحا منه من المنظمة قبل الحديث عن طبيعة العلاقة الكونفدرالية أو الفدرالية مع الأردن.
2- اشتداد الخلافات على الساحة الفلسطينية إزاء فكرة الكونفدرالية التى أتت بها قرارات المجلس الوطنى. مما عرقل القيادة الفلسطينية عن المضى فى هذا الطريق إلى أبعد من ذلك.
وتوقف الحوار مع الأردن ولكن بناء على طلب الحكومة الأردنية التى أصدرت بيانا فى العاشر من أبريل تعلن فيه وقف الحوار مع منظمة التحرير(55) ولم تبادر المنظمة باستئناف الحوار مع الأردن مع بدايات 1984(56)
ويبدو أنها كانت مدفوعة فى ذلك بالتطورات الداخلية التى شهدها الأردن بأحياء برمانه الذى ضم ممثلين عن الضفة الغربية (57) فكان ذلك نذيرا للمنظمة بقرب دخول تسوية ما يعد لها خاصة وأن العاهل الأردنى لم يترك مناسبة إلا وحث فيها العرب على استغلال الفرص المتاحة للسلام بدعوى أن عنصر الوقت لم يعد فى صالحهم وأن الحركة الاستيطانية فى إسرائيل تتزايد وتتفاقم حدتها مع مرور الوقت. وتكررت زيارات السيد عرفات الأردن رغم عدم الإجمال الفلسطينى عليها.
وأنتهى الأمر بانقسام الساحة الفلسطينية إزاء العلاقة مع الأردن إلى محاور ثلاثة:
1- تحالف يضم اللجنة المركزية لحركة فتح بقيادة عرفات رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، بالإضافة إلى جبهة التحرير العربية ( الموالية للعراق ) ويدعو إلى إقامة علاقات أوثق مع الأردن وتحقيق تقارب مع كل من مصر والعراق.
2- التحالف الديمقراطى، ويضم الجبهة الديمقراطية، الجبهة الشعبية ، الحزب الشيوعى الفلسطينى وجبهة التحرير الفلسطينية ومثل محورا محايدا أو وسطا.
3- التحالف الوطنى الذى ضم الصاعقة، القيادة العامة، جبهة النضال الشعبى إلى جانب المعارضة المنشقة عن فتح ويرفض التحاور مع الأردن ويطرح فى المقابل علاقات وثيقة مع سوريا.
وأراد التحالف الديمقراطى أن يلعب دور الوسيط فدعا إلى حوار فلسطينى بين الطرفين الآخرين حتى توصلا إلى اتفاق شامل تم برعاية الجزائر واليمن الديمقراطى عرف باتفاق عدن(58)
إلا أن قيام السيد عرفات بعد ذلك بزيارة إلى القاهرة، ثم موافقته على عقد المجلس الوطنى الأخير فى عمان، فسر من قبل التنظيمات الفلسطينية الأخرى على أنه تجاوز كبير ومخالفة واضحة لقرارات عدن التى نصت على عدم العودة إلى مصر إلا بعد إلغاء كامب ديفيد. كما أن عقد المجلس فى عمان كان يعنى ترجيحا لهذه الكفة على ما عداها. بل ووصل المر إلى حد القول بأن القيادة الفلسطينية أرادت أن تقوم بعملية فرز على الساحة الفلسطينية حتى تتمكن من تنسيق مواقفها مع الأردن لأن عدم التمسك حرفيا ببنود (عدن) قد أحرج التحالف الوسط، فهاجمت الجبهة الشعبية تصريحات أبوعمار، وامتنعت الجبهة الديمقراطية عن لعب دور الوسيط ولم يحضر اجتماعات المجلس إلا من يوافق على سياسية التقارب الفلسطينية الأردنية. وليس مبالغة القول بأن أتحاذ القيادة الفلسطينية القرار بعقد المجلس فى عمان كان نهاية لمرحلة وبداية حاسمة لمرحلة لاحقة تبلورت حول الاتفاق الأردنى الفلسطينى الذى وقع عليه مع مشارف عام 1985.
4- الاتفاق الأردنى الفلسطينى يحرك مبادرة ريجان:
كانت اجتماعات المجلس الوطنى فى دورته السابعة عشرة الأخيرة فى العاصمة الأردنية فى نوفمبر 1985، مقدمة حقيقية لاتفاق عمان. إذ أعلن الأردن بصراحة ووضوح شديد طوال الفترة التى سبقت اجتماعات المجلس استعداده للتحرك نحو السلام على أساس مبدأين(59).
الأرض مقابل السلام، وقرار مجلس الأمن رقم 242 الذى يحظى فى نظر الأردن بقبول الأطراف المعنية فيما عدا الطرف الرئيسى وهو الفلسطينى وإزاء ذلك تقاسم المجلس تياران، إحداهما يعلن رفضه لقرار 242، والأخر يؤيد التحرك مع الأردن ولكن من خلال صيغة تتجنب الإشارة بشكل مباشر إلى القرار. ولكن فى النهاية لم يكن هناك خلاف حول تنسيق المواقف على الأردن والتحرك المشترك معه.
والمتابع لجلسات المجلس الوطنى فى دورته الأخيرة يلحظ عدة ملاحظات(60) أن المجلس ضم أكبر عدد من العناصر الفلسطينية المعتدلة وبالتحديد تلك التى تقبل التحرك السلمى مع الأردن، ومصر.
- تشكيل لجنة تنفيذية جديدة يجمع بينها أيضا قاسم الاعتدال وتقبل بالتنسيق الأردنى الفلسطينى. وكانت غالبية عناصر هذه اللجنة ممن يقيمون فى العاصمة الأردنية بشكل دائم مثل ( محمد ملحم ) وفهد القوامسة الذى اغتيل، والمطران أيليا خورى،
هذا بالإضافة إلى أعضاء منظمة فتح الثلاثة وهم (فاروق القدومى) محمد عباس (أبومازن)، علاوة على السيد عرفات شخصيا.
أما الباقون وهم عبدالرحمن ويقيم فى بغداد ممثلا عن جبهة التحرير العربية، وجمال الصورانى الذى يقيم فى القاهرة فليسا بعيدين عن التحرك الأردنى وأخيرا السيد محمد عباس (أبوالعباس) ويقيم فى تونس ويمثل جبهة التحرير الفلسطينية المنشقة عن الجبهة الشعبية القيادة العامة التى يتزعمها أحمد جبريل.
ولول مرة لم تتضمن قرارات المجلس الوطنى الفلسطينى فى دورته السابعة عشرة الأخيرة رفضا صريحا معلنا للقرار 242 وبرر السيد أبواللطف (فاروق القدومى) ذلك بقولة (أن تأكيدا من المجلس على قرارات المجالس الوطنية السابقة هو رفض ضمنى للقرار)(61)
لذا يمكن القول أن كل الطرق كانت ممهدة أمام التحرك الأردنى الفلسطينى المشترك، بل وإن القيادة الشرعية للمنظمة كانت تضغط فى هذا الاتجاه لإدراكها بأنه ربما يكون الخيار الوحيد المطروح أمامها بعد خروج المقاومة من بيروت وتعثر كل محاولات المصالحة مع دمشق حتى لا تجد المنظمة نفسها فى النهاية بعيدة عن تحركات السلام فى المنطقة إذا ما بدأت.
ونتيجة لهذه الجهود المشتركة مع الأردن قدمت ورقتان إحداهما أردنية والأخرى فلسطينية تطرح صيغة لمشروع عمل مشترك.
ونصت الورقة الأولى الأردنية على المبادئ التالية(62)
أ- الأرض مقابل السلام.
1- كما ورد فى قرار مجلس الأمن رقم 242.
ب - كما أكده قرار مجلس الأمن رقم 242 أو
ج- كما ورد فى قرار مجلس الأمن الدولى.
2- حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى.
أ- فى إطار علاقة أردنية فلسطينية سقفها كونفدرالى أو
ب- فى إطار اتحاد أردنى فلسطينى كونفدرالى.
3- وعلى هذا الأساس تجرى مفاوضات السلام فى ظل مؤتمر دولى تحضره الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن. وسائر أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى للشعب الفلسطينى وتكون المشاركة الأردنية الفلسطينية على قدم المساواة من خلال وفد مشترك.
4 حل قضية اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الأمم المتحدة.
أما الورقة الفلسطينية فقد تضمنت الآتى:
1- الأرض مقابل السلام كما ورد فى قرارات مجلس الأمم المتحدة بما فيها قرارات مجلس الأمن.
2- حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى فى إطار دولة فلسطينية ضمن اتحاد كونفدرالى أردنى فلسطينى.
3- حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الأمم المتحدة.
4- حل القضية الفلسطينية من جميع جوانبها.
5- على هذا الأساس تجرى مفاوضات السلام فى ظل مؤتمر دولى تحضره الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى وسائر أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى.
وتكون المشاركة الفلسطينية على قدم مساواة ضمن وفد عربى مشترك.
وبذلك. اختلفت الورقتان حول نقطتين أساسيتين وإن لم نختلف جوهريا فى إطارها العام. إذ نصت الورقة الفلسطينية على مشاركة أردنية فلسطينية على قدم المساواة ضمن وفد عربى مشترك، بينما دعت الورقة الأردنية إلى مشاركة على قدم المساواة ضمن وفد مشترك دون تحديد. وكانت مسألة التمثيل هى نقطة الاختلاف الثانية حيث أغفلت الورقة الأردنية الإشارة إلى المنظمة كممثل شرعى (وحيد) للفلسطينيين كما جاء فى الورقة الفلسطينية.
ولكن بوصول السيد ياسر عرفات إلى الأردن فى العاشر من فبراير وعقده اجتماعا مع الملك حسين، وبعد مباحثات مكثفة، أعلن فى اليوم التالى لهذا اللقاء عن توقيع اتفاق عمان أو الاتفاق الأردنى الفلسطينى الذى التقى فيه الطرفان على المبادئ التالية(64):
(1) الأرض مقابل السلام.
كما ورد فى قرارات الأمم المتحدة بما فيها قرارات مجلس الأمن.
(2) حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى.
يمارس الفلسطينيون حقهم الثابت فى تقرير المصير عندما يتمكن الأردنيون والفلسطينيون من تحقيق ذلك ضمن إطار الاتحاد الكونفدرالى العربى المنوى إنشاؤه.بين دولتى الأردن وفلسطين.
(3) حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الأمم المتحدة.
(4) حل القضية الفلسطينية من جميع جوانبها.
(5) وعلى هذا الأساس تجرى مفاوضات السلام فى ظل مؤتمر دولى تحضره الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى وسائر أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى ضمن وفد مشترك.
وكان النقاش قبل الاتفاق على الصيغة النهائية يتركز حول مسألتين:
الأولى: خاصة بعبارة (اللاجئين الفلسطينيين) والتى أثارت تساؤلات حول الفرق بينها، وبين النص الوارد فى القرار 242.
والأخرى تتعلق بالعبارة التى تقول (عندما يتمكن الأردنيون والفلسطينيون من تحقيق ذلك وكان السؤال هو من هم الفلسطينيون المقصودين فى هذه العبارة وهل يقصد بها إقامة الدولة الفلسطينية والاستفتاء عليها من قبل الطرفين، أم الاتحاد الكونفدرالى والاستفتاء عليه من كل طرف على حدة.
ولذا جاء التصديق الفلسطينى على الاتفاق مشروطا بموافقة الأردن على بعض التغييرات فكان تعديل النقطة الثانية بما يتضمن الإقرار بحق الفلسطينيين فى تقرير المصير، وإضافة عبارة (عندما يتمكن الفلسطينيون والأردنيون من تحقيق ذلك).
ضمن إطار الاتحاد الكونفدرالى العربى المنوى إنشاؤه بين دولتى الأردن وفلسطين.
وذلك حتى لا يفسر الأمر بما يتعارض مع الحق الفلسطينى الذى تنادى به المنظمة دائما بأنه دولة مستقلة.
كما عدلت النقطة الخامسة على أساس تشكيل وفدين مستقلين إحداهما أردنى والأخر فلسطينى يشاركان فى إطار وفد عربى موحد فى المؤتمر الدولى للسلام, وكانت هذه النقطة قد أشارت من قبل إلى تشكيل وفد أردنى فلسطينى مشترك الأمر الذى فسره البعض على أنه يعنى المشاركة فى وحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطينى وهو ما يخالف جميع قرارات المجالس الوطنية السابقة(65)
ولا شك أن الاتفاق على هذا النحو قد حمل بعض من ملامح مبادرة ريجان خاصة فيما يتعلق بالعلاقة الكونفدرالية والاتفاق على التحرك الفلسطينى المشترك مع الأردن والذى يعنى بصورة أو بأخرى تفضيلا (للخيار الأردنى) محور المبادرة الأمريكية خاصة وأنه لم ينص صراحة على الدولة الفلسطينية المستقلة. ولذا لم يكن غيبا أن ينفتح بعدة الباب واسعا للحديث عن ترتيبات التسوية المقترحة. وأن يكون هناك حضور أمريكى متزايد فى هذا السياق خاصة وأن واشنطن قد وجدت من المبررات ما يجعلها تبدأ فى وضع مبادرتها المجمدة موضع التنفيذ، وليس آخرها وجود الجناح العمالى الإسرائيلى فى الحكم على رأس حكومة ائتلافية، وقراره بالانسحاب من لبنان، الذى يعطى لها شرعية التحرك أمام الجانب العربى. وإنما أيضا وهو الأهم وجود استعداد أردنى عال للتحرك، واتخاذ الأردن من الإجراءات العملية، ما يتيح له الحصول على نوع من المساندة العربية، ومن الدعم الفلسطينى من سكان الأرض المحتلة. فلم تكن مصادفة أن تشارك فى حكومة الرفاعى الأخيرة (66)
هذا الكم من الوزراء الفلسطينيين. صحيح أن الوزارات الأردنية قبل احتلال الضفة فى 1967 كانت تشكل مناصفة بين ممثلى الضفة الشرقية والغربية، إلا أن عدد الوزراء الفلسطينيين تقلص بعد ذلك إلى حد كبير. وكانت هذه المرة الأولى منذ 1974، التى يأتى إلى مقاعد الوزارة الأردنية 12 وزيرا فلسطينيا من أصل 23. وهو ما يتيح التقارب مع فلسطينى الضفة المحتلة. إلى جانب شخص رئيس الوزراء المعروف بتقاربه مع سوريا. مما يجعله أقدر على التحاور معها، فهى ليست فقط الرقم الصعب فى هذه المعادلة الجديدة وإنما هى أيضا مدخل الوصول إلى أكبر تأييد عربى ممكن. ولا شك أن جولة الملك حسين الخليجية
(67) الأخيرة تصب فى هذا الاتجاه.
وبذلك تجمعت خيوط عديدة لإدخال مبادرة ريجان مرحلة التنفيذ بعد الإعلان عن اتفاق عمان. وفى هذا الإطار جاءت الجولات المكوكية للمبعوث الأمريكى ريتشارد مورفى إلى عدد من العواصم العربية وإسرائيل وبقى الخلاف حول التفاصيل. متمركزا حول قضية التمثيل الفلسطينى فى الوفد المشترك المقترح تشكيلة على الجانب الأردنى للتفاوض حول التسوية.
5- المنظمة. والمأزق الراهن:
لقد اصطدمت مسألة التمثيل بعقبة رئيسية وضعتها إسرائيل وساندتها الإدارة الأمريكية، وتقضى باستبعاد أى تمثيل لمنظمة التحرير فى الوفد والأرجح استبعادها من هذه المعادلة السياسية.
فتوقيع المنظمة على اتفاق عمان الذى يقوم على أساس قرار 242، ومبدأ مقايضة الأرض بالسلام)، وموافقتها على الكونفدرالية مع الأردن) أو بمعنى أخر قبولها الصريح بفكرة (الحل الوسط) لم يلق أى استجابة أمريكية ولا يخف أن محاولة مصر الوصول إلى صيغة توفيقية ترضى جميع الأطراف قد لقيت هى الأخرى تحفظا من الإدارة الأمريكية. فالمعروف أن مصر حين طرحت مقترحاتها فى إطار اتفاق عمان، أرادت أن توجد مدخلا عمليا لتنفيذه، فيما عرف باسم المبادرة المصرية(68) التى اشتملت على مراحل ثلاث:
تقضى الأولى باجتماع فلسطينى فى واشنطن بالإدارة الأمريكية وتشير الثانية إلى إجراء مفاوضات مباشرة أردنية فلسطينية إسرائيلية سواء فى القاهرة، أو واشنطن بشأن مستقبل الأراضى المحتلة، ووضع الدولة الفلسطينية المحتمل قيامها فى إطار اتحاد كونفدرالى مع الأردن. وأخيرا، تنص المحلة الثالثة على عقد مؤتمر دولى تشترك فيه الدول الخمس لإعطاء الشرعية الدولية اللازمة لضمان حل دائم للنزاع.
وبذلك اشتملت المبادرة المصرية على فكرة (التفاوض المباشر) الذى تصر عليه إسرائيل حتى لا توقف مساعى التسوية، على أن يكون تحت أشراف أمريكى بمعنى أن تبدأ المفاوضات بحوار أمريكى فلسطينى أردنى وهى محاولة من مصر لأن تكون مقدمة لاعتراف أمريكا ولو ضمنيا بمنظمة التحرير. وفى النهاية النص على عقد المؤتمر الدولى الذى يلح عليه السوفييت والسوريون.
ومن هنا قدمت الصيغة التوفيقية لجميع الأطراف. ورغم ذلك اعترضت الولايات المتحدة على أن تجرى حوارا أمريكيا مع الطرف الفلسطينى قبل جلوسه للتفاوض المباشر مع إسرائيل مع الاشتراط بعدم تمثيل المنظمة فى الوفد، إل إذا اعترفت صراحة بالقرار 242. وبإسرائيل بلت بالتفاوض المباشر معها. كما جاء على لسان مورفى(69)
ولم يبد الأردن اعترضا على ما طرحه مورفى، إلا أنه كان واضحا أنه لن يستطيع التقدم بدون (شرعية) فلسطينية. خاصة وأن تصريحات مورفى قد أثارت ردود فعل سلبية داخل حركة فتح تجاه الاتفاق الأردنى الفلسطينى نفسه وتحدث أبوأياد(70)
صراحة ولأول مرة عن إمكانية إلغاء هذا الاتفاق.
وبهذا المعنى، وضعت جولة مورفى سياسية الملك حسين، ومبادرة عمان فى مأزق حقيقى ولذا حاولت الإدارة الأمريكية تدارك الأمر بعد إصرار الأردن على عدم التحرك المنفرد، فكان اقتراحها الأخير الذى قدمه جورج شولتز وزير خارجيتها خلال زيارته للمنطقة، بقبول اشتراك أعضاء من المجلس الوطنى الفلسطينى فى الوفد المشترك بشرط أن لا يعلن هؤلاء انتمائهم للمنظمة، وأن لا تتحدث المنظمة عن تمثيلهم لها
(71) ويبدو أن أمريكا أرادت بذلك أن تصب هدفين فى أن واحد إذ يمكنها القول أمام المنظمة بأنها تقدمت خطوة إلى الأمام بموافقتها على أن يضم الوفد أعضاء من الهيئة التشريعية ومعروف أن فى المجلس عناصر عديدة مرتبطة بالأردن ارتباطا وثيقا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يمكنها التأكيد لإسرائيل أنها لم تغير موقفها الثابت بعدم الاعتراف بالمنظمة خاصة وأن المجلس يضم العديد من الشخصيات المستقلة.
والواضح أن الرئيس الأمريكى يريد أن يبدو فى موقف أكثر مرونة تجاه مسألة التمثيل الفلسطينى بعد معرفته الأكيدة بأن الأردن لن يمضى وحده ولن يستطيع التحرك بدون شرعية عربية وفلسطينية بالأساس. وهذا هو سر الغزل الأمريكى لقيادات المنظمة وللمقابلة السرية التى تمت فى عمان بين السيد ياسر عرفات وعدد من المستشارين فى إدارة ريجان
(72) قبل وصول ريتشارد مورفى إليها ثم اجتماعه بعد ذلك بالعديد من الشخصيات الفلسطينية ولا جدال فى أن هذه المرونة محسوبة أمريكيا ولا تغير فى موقف أمريكا الثابت تجاه المنظمة وتجاه الدور الذى سيلعبه فى المفاوضات المقبلة. وخروجا من هذا المأزق حاول الأردن بمشروعية ذى النقاط الأربع(73)
الذى قدمه مؤخرا، أن تطرح حلا توفيقيا جديدا لاستئناف مساعى السلام، ويؤدى فى الوقت نفسه إلى إجراء مباحثات مباشرة كما تصر واشنطن. فنص فى مرحلته الأولى على إجراء جلسة تمهيدية بين وفد أردنى فلسطينى لا يضم أعضاء بارزين فى منظمة التحرير، ووفد أمريكى يعقبه جلسة أخرى بين الوفد المشترك والأداة الأمريكية ليبدأ المؤتمر الدولى فى المرحلة الثالثة. ويتم التفاوض المباشر فى المرحلة الرابعة والأخيرة. وعارضت الإدارة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها جورج شولتز الخطة الأردنية بحجة أنها (لا تؤدى إلى الهدف الأمريكى وهو إجراء مفاوضات مباشرة بين العرب وإسرائيل)(74)
ولم يكن غريبا أن يسارع بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلى بالكشف عن خطة إسرائيلية أخرى للسلام(75)
تستبعد أى اشتراك لمنظمة التحرير فى عملية السلام، وعقد مؤتمر دولى يشترك فيه الاتحاد السوفيتى إذ تضمنت الخطة استمرار المباحثات التى تجريها الولايات المتحدة مع ممثلى مصر وإسرائيل والأردن. وكذلك الوفود الفلسطينية التى لا تضم أعضاء من منظمة التحرير.
وتسير فى المرحلة الثانية إلى تشكيل وفد إسرائيلى وآخر أردنى فلسطينى مشترك إعداد جدول أعمال لمؤتمر إسرائيلى أردنى فلسطينى باشتراك الولايات المتحدة. ليحصل على تأييد الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن لإجراء مفاوضات مباشرة بين الأردن ووفد فلسطينى وإسرائيلى فى مرحلة ثالثة.
أخيرا تأتى المرحلة الرابعة بتعيين وفود فلسطينية من الأراضى المحتلة بحيث يمثلون مواقف السكان فى الأرض المحتلة، وبذلك ألغى المشروع الإسرائيلى ذو النقاط الخمس فكرة المؤتمر الدولى والفكرة الأساسية التى طرحها المشروع الأردنى بأن يتم حوار أمريكى مسبق مع الوفد المشترك.
ورغم أن منظمة التحرير ترفض إلى الآن إصدار أى بيان رسمى من جانبها بدون أى تعهد من جانب الولايات المتحدة التى ترفض التعامل معها. ورغم تأكيدها على موقفها وحقها فى تسمية أعضاء الوفد الذى سيشارك فى المفاوضات المقبلة إلا أن المأزق الحقيقة فى مسألة التمثيل هذه تكمن فى طبيعتها المزدوجة. فاشتراك المنظمة المباشر فى الوفد سيعنى عمليا اعترافها بإسرائيل وهى ورقة أمسكت بها المنظمة حتى الآن. لأن موافقة واشنطن على الوفد المشترك تقترن بشرط أمريكى آخر حاسم وهو أن يكون مقدمة للتفاوض المباشر مع إسرائيل. وعدم اشتراك المنظمة فى هذا الوفد سيضعها على هامش أى مفاوضات مقبلة مع ما يحمله هذا الوضع من خطر استبعادها. وإفساح المكان للتسوية لمنفردة مع الأردن ولا شك أن ذكريات مؤتمرا ريجان الذى عقد فى 1948، وحصل بمقتضاه الملك عبد الله على تفويض فلسطينى بتوحيد الضفتين الشرقية والغربية تحت إمارته مازال ماثلا فى الأذهان.
وليس هذا هو المأزق الوحيد الذى تعانى منه المنظمة، فليس خافيا ما أحدثه التوقع على الاتفاق الأردنى الفلسطينى من انقسام حاد داخل الصف الفلسطينى بدأ يظهر فى الشهر التالى لتوقيع الاتفاق حين أعلن فى دمشق عن تشكيل تجمع فلسطينى أطلق عليه اسم " لجنة العمر الوحدوى(75)
برئاسة محمد زهدى النشاشيبى العضو المستقل السابق فى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وذلك بهدف إسقاط الاتفاق. وانتهى الأمر بقيام جبهة الإنقاذ الوطنية(77) التى تكونت من أطراف التحالف الوطنى السابق (القيادة العامة، جبهة النضال الشعبى، الصاعقة، حركة المعارضة فى فتح ) بالإضافة إلى الجبهة الشعبية التى يتزعمها جورج حبشى وجناح من جبهة التحرير الفلسطينية. بينما رفضت الجبهة الديمقراطية بقيادة ناييف حواتمة، والحزب الشيوعى فضلا عن الجناح الأكبر من جبهة التحرير الفلسطينية الانضمام إليها.
والمرجح فى ظل المأزق الراهن، أن الخيار الأخير الذى قد تراهن عليه منظمة التحرير هو عامل الوقت. إذ قد ترى فى تجميد الموقف الحالى ما يفسح المجال لقلب بعض من المعطيات السائدة خاصة وأن الأحداث الأخيرة فى لبنان، والذابح التى تعرضت لها المخيمات الفلسطينية على أيدى حركة أمل الشيعية والدور الذى لعبته سوريا هناك بعد إعطائها الضوء الأخضر للانقضاض على الوجود الفلسطينى، قد خطت أول انشقاق فى علاقة سوريا بجبهة الإنقاذ الوطنية، وقد يكون فى ذلك بداية لعودة (الوحدة) إلى القاموس الفلسطينى.
العمر الوحدوى(76)
برئاسة محمد زهدى النشاشيبى العضو المستقل السابق فى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وذلك بهدف إسقاط الاتفاق. وانتهى الأمر بقيام جبهة الانقاذ الوطنية(77) التى تكونت من أطراف التحالف الوطنى السابق (القيادة العامة، جبهة النضال الشعبى، الصاعقة، حركة المعارضة فى فتح) بالإضافة إلى الجبهة الشعبية التى يتزعمها جورج حبشى، وجناح من جبهة التحرير الفلسطينية، بينما رفضت الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمه، والحزب الشيوعى فضلا عن الجناح الأكبر من جبهة التحرير الفلسطينية.
ويمكن القول بإيجاز أن إسرائيل سعت فى هذه المرحلة المبكرة إلى تثبيت أركان الكيان الإسرائيلى الجديد، ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية (بالاستيعاب)، وتحويلها إلى قضية لاجئين عرب بعد سياسية التهجير التى اتبعتها لإجبار أكثر من نصف مليون فلسطينى على اللجوء إلى الدولة العربية المجاورة كوسيلة لطمس الهوية الفلسطينية. وكانت مشاريع التسوية التى طرحت فى هذه الفترة انعكاسا لهذه الرؤية. فبعد اتفاقيات الهدنة التى أعقبت الحرب فى 1949 ظهرت مشاريع دالاس، وإيدان، وهمرشولد، وجونسون، ومشروع بورقيبة، وأشكول وكلها تدور حول قرار التقسيم فى 1947، واتفاقيات الهدنة، وحق (اللاجئين الفلسطينيين) فى العودة أو التعويض أو التوطين فى الدول العربية المجاورة(1) وأعلن بن جوريون أن الحدود التى أوجدتها اتفاقيات الهدنة فى 1949 لم تعد قائمة، وأن إسرائيل لن تعود إلى حدود ما قبل الحرب، كما أنها ستحتفظ بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل(2) وأصبح مفهوم الحدود الآمنة الذى أدخلته على إسرائيل هو محدد تعاملها مع المنطقة. وبغض النظر عن الانتماءات الحزبية كان هناك اتفاق عام فى الأوساط الإسرائيلية على نقطتين أساسيتين:
الأولى تقول بأن ( الحدود الآمنة) ليست هى خطوط ما قبل 1967، و الثانية تشير إلى أن الاتفاق على هذه الحدود لا يتم إلا من خلال التفاوض لمباشر مع كل الأطراف المعنية)(3)
ويبدو أن إسرائيل أرادت من هذين الشرطين أن نتمكن فى النهاية من تشكيل حزام أمنى من أراضى الدول العربية، وأن تطرح كقوة إقليمية مسيطرة وأصبحت القضية بين إسرائيل ودول عربية مجاورة، وليست قضية شعب وأرض فلسطين. وجاء قرار مجلس الأمن الشهير رقم 242 ترجمة لهذا الواقع المفروض فقد دعا إلى الانسحاب من أراض محتلة وحدود آمنة، وتسوية عادلة لمشكلة اللاجئين. وفسرته إسرائيل على أنه لا يتم انسحاب قواتها من بعض الأراضى التى احتلتها نتيجة حرب يونيو 1967 إلا بعد توقيع معاهدات صلح بين إسرائيل والدول العربية، ومعنى ذلك أن يكون الانسحاب لاحقا لعقد معاهدات السلام معها(4)
وبعكس الفترة التى سبقت حرب يونيو والتى اتخذ فيها الجانب العربى موقفا متشددا تجاه المشاريع التى طرحت للتسوية، فأن التعامل مع مشاريع السلام بعد 1967، قد أختلق وأكتسب نوعا من المرونة. وقبلت كل من مصر والأردن ومعها بعض الدول العربية القرار 242، وقدم الملك حسين خطة للتسوية فى 1969 تعيد التأكيد على نفس القرار ووافقت عليها مصر، وجاءت مبادرة روجرز فى 1970 تدعوا إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 فقط بالنسبة لمصر والأردن، ووافقت علية الدولتان مما وضع علاقتهما مع منظمة التحرير التى تشكلت فى 1964 ورأسها أحمد الشقيرى بموافقة القمة العربى الذى عقد فى القاهرة فى يناير من نفس العام، فى مأزق حقيقى.
وانتهت هذه المرحلة بطرح مشروع عربى قدمه العاهل الأردنى، لإقامة اتحاد بين الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن فى إطار مملكة عربية متحدة، لترفضه إسرائيل وتعترض عليه منظمة التحرير والدول العربية(5)
وتجئ حرب 1973، وتفتح ملف التسوية من جديد ولكن مع بروز عامل جديد وتصبح الولايات المتحدة هى الطرف الدولى الأساسى والمشارك الأصيل فى إرساء قواعد تسوية الصراع. ويقوم وزير خارجيتها كسينجر وقتئذ بجولاته المكوكية إلى إسرائيل وعدد من الدول العربية. يسعى من خلالها لبناء السياسة الأمريكية تجاه أزمة الشرق الأوسط، والتى تحددت فى التزام أمريكيا بالعمل على تسوية نهائية، ولكن دون التزامها بمضمون الحل النهائى، فهى لن تعلن وقوفها إلى جانب المطلب العربى بالانسحاب الكامل إلى حدود يونيو 1967. ولن تقدم حلا محددا للمشكلة الفلسطينية واقترح كسينجر أسلوب الخطوة خطوة وسيلة لحل النزاع. وكانت اتفاقيات فك الاشتباك على الجبهتين المصرية والسورية فى 1974 - 1975(6)
وبقيت القضية الفلسطينية التى سعت هذه السياسة بعد منتصف السبعينات إلى إرساء منطق تعدد البدائل أمام العرب بوجه عام والفلسطينيين بوجه خاص والقيام بعملية طرح الخيارات والحلول الجزئية لاستكمال ما سمى باستراتيجية السلام فى المنطقة ولشطب فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة من قاموس التسوية السياسية.
وكان أبرز هذه البدائل هو ما سمى "الخيار الأردنى ويقوم أساسا على إحلال الأردن محل الفلسطينيين كجهة مخولة بالتفاوض فى أى تسوية مقترحة بشأن حل الصراع، وبحكم الفلسطينيين ضمن شكل من أشكال الاتحادات الفيدرالية ولكن على جزء من الأراضى المحتلة، وبهذا المعنى ظهر مشروع كارتر فى 1977. يتحدث عن وطن للفلسطينيين مرتبط بالأردن، وقبله مشروع ألون وزير الخارجية الإسرائيلى فى 1972، ويقترح إقامة كيان يتمتع بالاستقلال الذاتى فى الضفة الغربية يرتبط بالأردن، وفى نفس هذا الإطار العام قدمت اقتراحات الحكم الذاتى، واتفاقيات كامب ديفيد. فى 1978، وكلها تقترب من الحل الأردنى بشكل أو بأخر، أى سواء قام حكم ذاتى للفلسطينيين فى الضفة مرتبط بالأردن، أو كان حكما ذاتيا تحت الهيمنة الإسرائيلية ولكن مع السماح بالحصول على الجنسية الأردنية كما جاء فى مقترحات بيجين للسلام فى 1977. بل وقدم شارون وزير الدفاع الإسرائيلى فى 1981 خطة يعتبر فيها الأردن هو الدولة الفلسطينية(7) ولكن صعود نجم منظمة التحرير بعد 1973، وحصولها على الاعتراف الدولى، والشرعية العربية فى 1974ن كانت تحول دون تمرير هذا البديل أو الخيار الأردنى بالمفهوم الإسرائيلى، الذى طرح به.
حتى كان غزو إسرائيل للبنان فى 1982، وضربها القوة العسكرية للمنظمة تمهيدا لإنهاء دورها فى معادلة التسوية. وبدأت نبرة الخيار الأردنى تعلو وتظهر بإلحاح فيما طرح بعد ذلك من مشروعات سلام، وأولها مبادرة ريجان فى نفس العام التى دعت إلى إقامة كيان فلسطينى مرتبط بالأردن، واستبعاد أى دور لمنظمة التحرير تدعيما لوقفها الرسمى والثابت منها منذ 1975. بعدم الاعتراف بها.(8) فى مقابل ذلك، طرح مشروع قمة فاس من الجانب العربى لينص على انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل 1967. وحق تقرير المصير للفلسطينيين، وإدخال المنظمة كعنصر أصيل فى أى مباحثات سلام.
وكانت هذه المقررات تتركز أساسا على مشروع فهد الذى قدم فى أغسطس 1981. ويدعو إلى الانسحاب الإسرائيلى، وقيام دولة مستقلة للفلسطينيين، وحق كافة الدول فى العيش بسلام:
وكان البند الأخير يعتبر تغيرا جذريا فى الموقف العربى إذ أن كان أول اعتراف عربى رسمى بحق إسرائيل فى الوجود(9) إلا أن تداعيات الأحداث بعد 1982. والانشقاقات التى شهدتها الساحتان الفلسطينية والعربية حول أطروحات التسوية، والإخفاق فى إيجاد صيغة عملية لتنفيذها. حبذت التنسيق الفلسطينى الأردنى وطرحته كخيار أخير أمام منظمة التحرير الفلسطينية خاصة بعد فشل جهود المصالحة مع سوريا. فكان انعقاد المجلس الوطنى الفلسطينى الأخير فى عمان، وأخيرا الإعلان عن الاتفاق الأردنى الفلسطينى فى فبراير 1985. لتبدأ رحلة "الخيار الأردنى" من جديد ولكن بمضمون عربى.
1- الخيار الأردنى رؤية عربية:
فالاتفاق الأردنى الفلسطينى ليس منفصلا عن تاريخ طويل من العلاقات الأردنية التى شهدت الكثير من المد و الجزر، ولا عن التصور العربى لمفهوم الحل الأردنى. كما عرضه الملك حسين فى 1972، باسم المملكة العربية المتحدة التى تتكون تحت راية المملكة الأردنية الهامشية، من قطرين إحداهما فلسطينى فى الضفة الغربية، والآخر أردنى فى الضفة الشرقية على أن تكون عمان هى العاصمة المركزية، والملك هو رئيس الدولة. أما القدس فتصبح عاصمة لقطر فلسطين(10) وكان هذا هو أول مشروع عربى يبلور بوضوح وجهة النظر الأردنية فى فكرة الخيار الأردنى، والقصة من البداية تعود إلى عام 1948، فلا جدال فى أن أسوأ الآثار السياسية للحرب العربية الإسرائيلية فى ذلك العام كانت تمزق الهوية الذاتية للفلسطينيين. إذ حمل الجزء الأكبر منهم الهوية الأردنية، وبقى جزء منهم فى إسرائيل (الأقلية العربية) ليحملوا بطاقات هوية إسرائيلية مع الإشارة إلى وضعهم كمواطنين غير يهود. وتوزع الباقون كمجموعات لاجئين فى الدول العربية المجاورة.
وبعد انتهاء الحرب وتوقيع اتفاقيات الهدنة فى 1949 بين إسرائيل من جهة، وكل من مصر، ولبنان، والأردن، وسوريا على التوالى، انسحبت القوات العربية المسلحة بموجب هذه الاتفاقيات باستثناء مصر والأردن، حيث سيطرت الأولى على منطقة غزة والثانية على الضفة الغربية. ومنذ ذلك الوقت ارتبط اسم الأردن بالأرض المحتلة فى الضفة بعد ذلك، وبحلول التى اقترحت لحل (مشكلة الفلسطينيين)(11)
وكان أول طرح لفكرة الدمج بين الأرض المحتلة والأردن هو ما قدمه الكونت برنادوت وسيط الأمم المتحدة فى ذلك الوقت للتوفيق بين الأطراف المعنية فى يونيو 1948، حين أوصى بدمج القسم العربى من فلسطين بشرق الأردن مرة ثانية. والواضح أن الأردن كان هو الآخر أميل إلى تفضيل هذا الحل. حيث ظهر ذلك فى موافقته على مر التاريخ من مشاريع التسوية التى طرحت. مؤيدة هذا الاتجاه. وبدأت أولى هذه المواقف تظهر حين عارض مسألة التمثيل الفلسطينى المستقل فى دورة الأمم المتحدة حينئذ، وعندما تشكلت حكومة عموم فلسطين فى نفس العام كان الأردن هو الوحيد من الدول العربية الذى لم يعترف بها(12)
ثم أتخذ الأردن بعد ذلك من الخطوات العملية ما يدعم هذا الخيار فبعد مؤتمر أريحا فى 1948 ومبايعة الفلسطينيين للملك عبدالله بتوحيد الضفتين بدأ الأردن فى اتخاذ إجراءات خاصة بتجنيس الفلسطينيين وإصدار قانونا يجيز لأى عربى فلسطينى الحصول على الجنسية الأردنية، ثم ألحقه بقانون أخر يشير إلى أن كل المقيمين فى الضفتين قد حصلوا على الجنسية الأردنية.
وفى عام 1950، أعلن عن تشكيل مجلس النواب الأردنى مناصفة بين الضفتين، الذى وافق على قرار بتوحيد الضفتين الغربية والشرقية لنهر الأردن. ومنحت الجنسية الأردنية لجميع الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون فى الضفة الغربية.
بذلك أسدل الأردن الستار على أول محاولة سياسية فلسطينية للتحرك المستقل باعتبار أن ذلك سيؤسر على عملية الوحدة بينهما ولم يكن ذلك نهاية المطاف فقد أبدى الأردن تحفظات كبيرة على الاتصالات التى قام بها الشقيرى أبان انعقاد أول مؤتمر قمة عربية فى 1963 لإنشاء كيان فلسطينى مستقل. كما لم يوافق الملك حسين على المشاركة فى اجتماعات المجلس الوطنى الفلسطينى الأول الذى انعقد فى القدس فى مايو 1964إلا بعد أن وعده (الشقيرى) بعدم سلخ الضفة الغربية عن الشرقية.(13) ولم يرحب الأردن بتواجد قوات جيش التحرير الفلسطينى على أرضه استمرارا لهذا الموقف، وإن وافق بعد ذلك مع تصاعد التوتر قبيل حرب 1967 على تواجد كتيبة واحدة لمواجهة ظروف ومتطلبات الحرب، خاصة وأن الأردن كان قد وقع اتفاقية للدفاع المشترك مع مصر فى مايو من نفس العام. والمعروف أن مصر كانت تشجع العمل الفلسطينى على إقامة كيان مستقل فى ذلك الوقت ولم تستمر هذه الحالة طويلا. إذ بدأ التوتر يعود ليصبغ هذه العلاقات مرة أخرى ووضح ذلك خلال مؤتمر القمة العربية الرابع الذى عقد بالخرطوم. إذ انتقد الأردن العمل الفدائى بعد انتهاء الحرب بحجة أنه يعطى لإسرائيل الحجة لتقوم بمزيد من الإرهاب والهجوم على الأردن. فقد كان هو المتأثر الأكبر من مجمل الأحداث التى تلت 1967، حيث بدأ العمل الفدائى يتطور أصلا فوق أراضيه بسبب موقعة الجغرافى المحاذى على طول الأرض التى احتلت حديثا ولوجود أغلبية سكانية فلسطينية فى هذا البلد.
فالمعروف أن تمركز النشاط الفلسطينى الفدائى فى الأردن كان الهدف الأول لقوة الردع الإسرائيلية(14)التى لم تفرق بين الأهداف المدينة و قواعد المقاتلين فليس سرا أن كانت هناك محاولة إسرائيلية مستمرة للقضاء على المقاومة الفلسطينية سواء باستخدام أسلوب الردع المباشر لها كما حدث فى معركة الكرامة فى 1968، أو الردع غير المباشر أى الردع الموجه ضد الدول العربية المحيطة بالأرض المحتلة لدفعها إلى كبح جماح عمليات المقاومة انطلاقا من أراضيها.
وهو ما حدا بالنظام الأردنى إلى العمل على ضبط أوضاعه الداخلية للسيطرة على العمل الفدائى ومن ثم تحجيمه حتى لا يعطى لإسرائيل مبررات للاعتداء عليه. وكانت (أيلول) 1970 أبر نتائج هذه السياسية. إذ أصرت منظمة التحرير على عدم تحجيم عمل المقامة فى ظل وضع أصبح لها فيه من النفوذ والانتشار على الساحة الأردنية، ما يغضب حكومة الأردن خاصة وأنه إلى جانب ذلك كان هناك خلاف سياسى متزايد بدأ يأخذ مكانه بينها حين أصر الأردن على التمسك بموقفه بصدد إعادة الأوضاع إلى ما كانت علية قبل الخامس من يونيو 1967 وهو ما يعنى بصورة أو بأخرى ( الحل أردنى ) للقضية الفلسطينية(15) وقد ظهر ذلك بوضوح خلال المشروع الذى طرحة الملك حسين وقتها من ست نقاط (16) والذى سمى باسمه، والذى دعا فيه إلى إنهاء حالة الحرب، والاعتراف بالسيادة الإقليمية والاستقلال لجميع الدول المنطقة مع الاعتراف بحق الجميع فى العيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وضمان حرية الملاحة فى العقبة والقبول بتسوية عادلة لمشكلة ( اللاجئين). وكان هذا المشروع مرتكز على قرار مجلس الأمن 242 الذى صدر فى أعقاب 1967 ووافق عليه الأردن ورفضته منظمة التحرير. واتسعت هوة الخلاف السياسى بعد قبول العاهل الأردنى بمبادرة روجرز 1970(17). التى أغلقت تماما الجانب الفلسطينى ولم تبد استعدادا للتعامل إلا مع مصر والأردن. واعتبرتها المنظمة مقدمة لتصفيتها وكان ذلك تفسيرا لموقفها السلبى أيضا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لقبوله لها. وتجمعت هذه العوامل كلها حتى أنفجر الوضع بصورة شاملة فى سبتمبر 1970. وكانت الشرارة التى أشعلت المواقف هو إعلان الملك حسين فى اليوم السابق لذلك عن تشكيل حكومة عسكرية، وفرض الأحكام العرفية على البلاد(18) وشهدت الساحة الأردنية حربا أهلية لم تشهد لها مثيل من قبل، إلا أن القوات النظامية الأردنية استطاعت السيطرة على الموقف خاصة وأن القوات السورية وعلى رأسها وزير الدفاع السورى آنذاك حافظ الأسد، والتى كانت قد تحركت عبر الحدود تدعيما للموقف الفلسطينى قد انسحبت تحسبا لضربة إسرائيلية شاملة. وأمسك الأردن بزمام الأمر، والأهم من ذلك تحاشى الدخول بقواته فى أى اشتباكات عسكرية رئيسية مع إسرائيل منذ انتهاء الحرب الأهلية(19) وبعد سلسلة طويلة من الوساطات العربية، ساهمت مصر فيها بالدور الأكبر تم التوصل إلى اتفاق بين الطرفين ووقعا على اتفاقية (القاهرة) فى 27 سبتمبر 1970 لتنظيم العلاقة بين النظام الأردنى والعمل الفدائى الفلسطينى. ولم تمض سنتان حتى أعاد عاهل الأردن طرح تصوره عن صيغة التسوية للقضية الفلسطينية بإعلانه عن مشروع المملكة المتحدة فى 1972. من جانب واحد أى دون التنسيق مع أى طرف رسمى فلسطينى. ولذا لم يكن غربيا أن ترفضه المنظمة ولم تؤد هذا الموقف إلى توتر العلاقات، إذ كان هناك نوع من المهادنة السياسية متفق ضمنيا عليها. حتى جاءت حرب 1973، وتبلدت معطيات كثيرة وأن كان أهمها فلسطينيا هو حصول منظمة التحرير على اعتراف دولى رسمى واسع بها، وفوق ذلك شرعية عربية مؤكدة باعتبارها ممثلا شرعيا وحيدا للفلسطينيين أعلنت فى قمة الرباط فى 1974.
وبعكس المتوقع أيد الأردن القرار رغم تعارضه أساس مع مفهومة لإمكانية تنفيذ (الحل الأردنى) ولدور الأردن فى استعادة الأرض المحتلة خاصة وأنه هو الذى حكم الضفة الغربية لمدة 15 عاما ولدية أكثر من مليونين من الفلسطينيين يحملون جوازات سفر أردنية) وبغض النظر عما صرح به الملك حسين وقتئذ حينما سئل عن كيفية موافقته على القرار وتنازله بسهولة عن التحدث باسم الفلسطينيين، حين قال ( أننى أرى الأحداث السياسية فى المنطقة خلال العشر سنوات المقبلة بشكل واضح، وبعد عشر سنوات سيعود الفلسطينيون لنا، لنجد صيغة مشتركة للتحدث باسم القضية الفلسطينية)(20) فيمكن القول أنه كان هناك من العوامل الأردن إلى هذا الموقف. وأولها عدم إمكانية تجاوز الشرعية العربية فلم تكن منطقيا الوقوف فى وجهها أو تجاوزها، خاصة وأن قرار الرباط جاء يعد المحادثات المصرية الأردنية التى أسفرت عن توقيع بيان الإسكندرية وهو البيان الذى أعطى للملك حسين اعترافا مصريا للتحدث باسم الفلسطينيين الذين يعيشون فى الأردن ولكنه ترك النص غامضا قابلا للتفسير والتأويل إذ لم يكن حاسما فى تحديد الموقف من فلسطين الضفة الغربية مما جعل الأردن حذرا فى تحركه. يضاف إلى ذلك بعد دولى آخر تمثل فى موقف الولايات المتحدة منه. إذ رغم إرسال الملك حسين لبعض من قواته إلى الجبهة السورية فى حرب أكتوبر1973، فقد تم استبعاده من مباحثات فك الاشتباك التى تلت الحرب وكان ذلك إيذانا باستبعاد الدور الأردنى إلى حين وفقا لسياسة الخطوة خطوة التى أرساها كسينجر لإعادة رسم خريطة المنطقة(21)
ولكن لم يكن ذلك يعنى استبعاد للخيار الأردنى أو إلغاء له إذ أن القاموس السياسى للتسوية كان يحوى مضمونا آخر لهذا الخيار ليس عربيا و إنما إسرائيليا.
2- إسرائيل تعرض البديل الأردنى:
فقد عمدت إسرائيل دائما إلى طمس القضية الفلسطينية، والقضاء على فكرة إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تشكل كيانا حضاريا جديدا فى المنطقة ومن هذا المنظور طرحت مقولاتها حول تعدد البدائل أمام حل المسألة الفلسطينية والتى تمركزت أساسا حول البديل أو الخيار الأردنى وبدون كثير من السرد - فقد كان لحزب العمل الإسرائيلى أسبقية الحديث عن هذا الخيار كما كان له تصور قديم عنه. برز بصفة خاصة بعد 1967، حين طرح إيجال ألون - وكان يشغل وقتها منصب نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى، مشروعا يدعو فيه إلى إقامة اتحاد فيدرالى بين المناطق التى تجلو عنها إسرائيل فى الضفة الغربية، والأردن بحيث يأخذ الفلسطينيون مكانهم فى هذا الاتحاد. على أن تتولى الهيئات المنتخبة من العرب فى الضفة وممارسة نوع من الحكم الذاتى مستقل عن الحكم العسكرى الإسرائيلى مع بقاء شئون الدفاع والخارجية فى أيدى إسرائيل.
وفى أكتوبر 1968، كان لحزب العمل تصور آخر عن الخيار الأردنى، حين قدم أبا آيبان مشروعا إسرائيليا للسلام يرسم فيه الحدود الآمنة بين إسرائيل وكل دولة عربية لكن مع مراعاة إقامة علاقات خاصة مع الأردن.
وفى نفس العام طرح المبعوث الأمريكى وقتئذ سكرانتون مشروعا يعطى غزة للأردن، ويعيد لها أجزاء من الضفة مع تجريدها من السلاح واحتفاظ إسرائيل بسيادتها على المناطق الحيوية لها مثل (نابلسى، جنين قلقيلية بحيث تكون حزام أمن لها). (22) ومنع أية قوات من الدول العربية فى الضفة الشرقية من الأردن مع جلاء القوات المرابطة هناك وكان ذلك شبيها بما جاء فى مشروع حزب مابام الإسرائيلى الذى طرح فى العام التالى له وتضمن الانسحاب من بعض مناطق الضفة وإعادتها إلى الدول العربية المجاورة بعد إدخال تعديلات ضرورية (لأمن إسرائيل) على الحدود، والتعهد بعدم إدخال قوات عسكرية عربية غربى النهر(23). وعندما طرح هذا المشروع مرة أخرى فى 1976، أشار إلى أن إسرائيل تجد فى الحل مع الأردن حلا سياسيا يقوم على وجود دولتين مستقلتين ذات سيادة. إسرائيل من جهة، ودولة عربية أردنية فلسطينية مستقلة من جهة أخرى.
مرورا بمشروع دايان فى 1969، ووثيقة حزب العمل فى أغسطس 1973، ووثيقة الأربعة عشرا بندا فى نوفمبر من نفس العام.
والأخرى المعدلة فى 1977. إلى البرنامج الانتخابى للكنيست العاشر لعام 1981، وكلها تتحدث عن نوع من التسوية الإقليمية مع الأردن. وبعد طرح مبارده ريجان فى 1982 طرأ تغيير على موقف حزب العمل مما دعا ممثليه لأن ينادوا بحصر الحكم الذاتى للفلسطينيين فى إطار الدولة الأردنية. على أن يقام فى بعض مناطق الضفة التى ستجلو عنها إسرائيل والتى ستتحدد من خلال المفاوضات (24).
أما الليكود الإسرائيلى، وإن كان يختلف مع حزب العمل حول الموقف من الأراضى المحتلة التى يطالب بضمها تحت أسم (جورجيا وسماريا) أو أرض إسرائيل التاريخية، إلا أنه يقترب بشكل أو بأخر من الخيار الأردنى لحل القضية الفلسطينية ولكن بفروق تختلف عن الأول. إذ يطالب بحصر الخيار الأردنى فى شرق الأردن. ويتبنى مفهوم الإدارة الذاتية للسكان العرب فى إسرائيل على أن تكون تحت الهيمنة الإسرائيلية الكاملة وقد ظهر ذلك من خلال مشروع بيجين للسلام الذى قدمه إلى الكنيست فى أواخر 1977. يقترح فيه تشكيل حكم ذاتى إدارى لسكان (يهودا والسامرة) وقطاع غزة على أن يمنح هؤلاء السكان حق الاختيار الحر فى الحصول على الجنسية الإسرائيلية أو الجنسية الأردنية، وتقوم لجنة مشكلة من ممثلين عن إسرائيل والأردن، والمجلس الإدارى للنظر فى هذه القوانين المعمول بها وتحديد أنظمة الهجرة. على أ، تتمسك إسرائيل بحقها فى السيادة على هذه المناطق ( يهودا والسامرا وقطاع غزة ). ولم يختلف موقف الليكود كثيرا عن توقيع اتفاقيات كامب ديفيد فى السنة اللاحقة، متضمنة فكرة الحكم الذاتى الإدارى للفلسطينيين فى الأراضى المحتلة.(25) ومعروف أن بيجن عندما فسر قرار مجلس الأمن 242 وفق هذا المنطق حين أشار إلى أن القرار لا يلزم سوى الأردن وإسرائيل فقط ليحددا بينهما (الحدود الآمنة). إذ ليس للأردن الذى يشكل الفلسطينيون غالبية سكانه الحق فى أ، يطالب لنفسه بأى مناطق فى الضفة الغربية أى ينحصر الخيار الأردنى فى شرق الأردن.
ولا شك أن الليكود حينما طرح الخيار الأردنى، كان هدفه الأول والأساسى ومازال هو تصفية الخيار الفلسطينى نهائيا وفى نفس الوقت احتفاظ إسرائيل بجميع الأراضى المحتلة التى تعتبرها حقا تاريخيا لا يمكن التنازل عنه. (26)
وهنا يمكن خلافه مع العمل الذى تنص مبادئه على حق إسرائيل فى السيطرة على أرض إسرائيل الكاملة. ولكن مع الموافقة على التنازل عن أجزاء من الضفة الغربية بعد ضمان إخضاعها لها. وكما يقول أقطاب حزب العمل، (أن موافقتنا على التنازل عن جزء من الضفة الغربية هى نتيجة لقرارنا نحن، وبعد أن توصلنا إلى أن دولة يهودية نقية على الجزء الأكبر من أرض إسرائيل هى أفضل من دولة ثنائية القومية على كل أرض إسرائيل. ومن هنا فالانسحاب لن يشمل المناطق الأمنية الهامة لنا فى الضفة الغربية، ولا القدس باعتبارها عاصمة إسرائيل).(27) ولحزب العمل مبرراته فى طرح الخيار الأردنى على هذا النحو.
وقد ترتكز هذه المبررات كما يفهم من الكتابات الإسرائيلية حول مجموعة نقاط منها:
1- أنه سيحرر إسرائيل من السيطرة المباشرة على السكان العرب بما ينطوى علية من مخاطر على المجتمع الإسرائيلى الداخلى. فالعمليات الفدائية فى الأرض المحتلة بلغت وفقا للمصادر الإسرائيلية حوالى 423 عملية خلال الأشهر الأخيرة فقط. (28) وهو أمر لن تستطيع إسرائيل كبح جماحه على المدى الطويل فضلا عن أنها بذلك تحقق فكرة الدولة اليهودية الخالصة.
2- ومن الناحية الإقليمية، قد يؤدى تحقيق هذا الخيار، من وجهة النظر الإسرائيلية إلى تخفيف حدة العداء العربى لها، وبالتالى مساعدتها على تحقيق أطماعها الأخرى وأولها الحصول على الشرعية الإقليمية فى المنطقة والقضاء على فكرة العزلة العربية المفروضة حولها.
3- أما العامل الأهم فى طرح الخيار الأردنى من المنظور الإسرائيلى فهو القضاء تماما على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة. أو أى كيان مستقل للفلسطينيين ولذلك يرفض حزب العمل التطور الذى يطرحه الليكود عن الخيار الأردنى بحصره فى شرق الأردن لأنه قد يتضمن على المدى الطويل تحويل الأردن إلى دولة فلسطينية. وهو منطق وتوحيد تماما على الأقل لإيمان إسرائيل الذى سيكون هناك مطالب إقليمية وعقائدية لهذه الدولة بعكس الدولة الأردنية.
4- وأخيرا فأن الخيار الأردنى يتضمن ولا شك شرطا رئيسيا لتحقيقه هو التفاوض المباشر مع الأردن وتوقيع معاهدة سلام معه. وهو جزء من الإستراتيجية الإسرائيلية الشاملة ومفهومها حول ( الحدود الآمنة)، والتى تقضى فى النهاية بتوقيع اتفاقات سلام مع كل دولة من الدول العربية المجاورة على حدة على أساس التفاوض المباشر معها. وذلك لتحقيق هدفين: التوصل إلى تعيين الحدود الآمنة) لها. ولذا فقد كانت أولى الحجج الإسرائيلية لرفض مشروع المملكة المتحدة كما طرحة الملك حسين فى 1972، هو إغفاله فكرة عقد اتفاق سلام مع إسرائيل. وهى الذريعة التى تمسكت بها جولدامائير لرفض المشروع (29) إلى جانب ما ورد به حول الموقف من القدس التى ترفض إسرائيل أى نقاش حول التنازل عنها كعاصمة أبدية موحدة لها.
فأغلب الظن أن الرفض الإسرائيلى لهذا المشروع لم يكن رفضا لفكرة الخيار الأردنى، وإنما لمضمونه العربى كما ورد به خاصة وأنه كان ينص على انسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل 1967، وهو ترفضه إسرائيل تماما على أساس أنها لم تعين حدودها النهائية بعد!
ولا شك أو وقوع حرب 1973، وما صاحبها من تغيير معطيات عدة، كان ل أثر كبير فى توازى فكرة الخيار الأردنى، خاصة بعد صعود نجم منظمة التحرير سياسيا وازدياد قواتها على الساحة. وبالتالى كان على إسرائيل أن تعمل جاهدة على ضرب هذه القوة لمتنامية فالخيار الأردنى. كما تطرحه يشطب أى وجود للمنظمة فى المعادلة السياسية.
بالتالى، كان مفهوما أن تتعقب القوات الإسرائيلية قوات المنظمة فى أخر معاقلها التى بقيت لها فى لبنان بعد خروجها من الأردن. ولكن لم ينجح الجيش الإسرائيلى فى 1978 بعد الحرب التى شنها عليها فى لبنان فى تصفيتها وأمام صمود المنظمة ومعها قوات الحركة الوطنية اللبنانية عاودت إسرائيل محاولتها وبدأت قيادتها العسكرية تخطط لحرب جديدة، بدأتها فى الثمانينات تحت مسميات عديدة منها
( العمليات الانتقامية ، الحرب الوقائية) فى 1981، حتى كان القرار بالاجتياح الشامل للبنان. وضرب المنظمة ضربة قاصمة قاضية فى 1982(30)
3- مبادرة ريجان تعيد طرح الخيار الأردنى:
وقدمت الولايات المتحدة الوجه الأخر لهذه العملية، بإعلانها عن مبادرة ريجان فى سبتمبر من نفس العام. التى سعت إلى تعميق فكرة كانت صعبة التحقيق قبل إضعاف المنظمة، والقضاء على وجودها العسكرى فى لبنان. وهى إعطاء الأردن الدور المحورى الرئيسى للتفاوض المباشر مع إسرائيل حول الضفة. وإحلال قيادة منظمة التحرير بقيادات أخرى بديلة من الأرض المحتلة تكون على استعداد للمضى فى مثل هذا النوع من التسوية.
ومن هنا كان إعطاء الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر لإسرائيل لغزو لبنان (31) بهدف تحطيم القوة الفلسطينية هناك تمهيدا لطرح مشروعها عن ( البديل الأردنى ). الذى يمثل فى نظرها حلا توفيقيا قد يحظى بقبول عربى، وفى الوقت نفسه يمكن تمريرة إسرائيليا بما لإسرائيل وخاصة حزب العمل من نصور قديم عن الخيار الأردنى - وقد طرح شارون خلال زيارته لأمريكا(32) قبل عملية الغزو وكان وزير الدفاع الإسرائيلى فى ذلك الوقت، فكرته عن هذا الخيار والتى تقول بأن الأردن هو المكان الطبيعى للدولة الفلسطينية، عارضا بذلك وجهة نظر الليكود بحصر الخيار الأردنى فى شرق الأردن. ولكن لا يعنى ذلك أن البديل الأردنى برز فجأة فى الإدارة الأمريكية نتيجة الطرح الذى عرضه شارون فى واشنطن. فهذا الخيار قد أعد له أمريكيا منذ منتصف السبعينات باعتباره أكثر الحلول عملية أمام إصرار الولايات المتحدة على عدم الاعتراف بالمنظمة اتساقا مع الموقف الإسرائيلى، وعدم تقبل منظمة التحرير لقرار 242. والأهم من ذلك أن هذا الخيار سيحمل فى طياته القضاء على الولة الفلسطينية المستقلة التى تطالب بها المنظمة.
ولذا أصبح الخيار الأردنى هو البديل الطبيعى أمام صانعى السياسية الأمريكية للتقدم بمشروع سلام جديد يحقق هدفين فى وقت واحد:
أولا يحافظ على الخط الأمريكى الأساسى تجاه إسرائيل الذى بدأ منذ 1948، والمتمركز حول الحفاظ على (أمن) إسرائيل. وتأمين حدودها بالتفاوض المباشر مع جيرانها من الدول العربية. ولا يخل فى الوقت نفسه بالتعهد الرسمى الذى قطعته الإدارة الأمريكية على نفسها فى 1975 بعدم الاعتراف بمنظمة التحرير.
وثانيا: يمتص الغضب العربى بعد الوقف الأمريكى إزاء غزو إسرائيل للبنان.
وهو فى النهاية سيقدم من وجهة النظر الأمريكية (حلا) خاصا بالأرض المحتلة التى أقسمت إسرائيل على لسان قادتها من زعامات الليكود ضمها نهائيا إليها. ولذا أقترب هذا المشروع الأمريكى الذى عرف بمبادرة ريجان من تصور حزب العمل فى إسرائيل عن لسان مستقبل الضفة المحتلة، وليس من تصور الليكود. وقد ترجمت المبادرة هذه المعانى بالتفافها خول نقاط رئيسية تقول بأنه:(33) لا عودة إلى حدود 1967، عدم إقامة دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وغزة، تجرى المفاوضات حول مستقبل المناطق المحتلة مع الأردن وليس مع منظمة التحرير وأخيرا إقامة حكم ذاتى للفلسطينيين فى الضفة مرتبطا مع الأردن.
ويقترب مشروع ريجان بذلك من مشروع إيجال ألون الإسرائيلى، إن لك يكن مطابقا له. ولذا لم يكن غريبا أن تلقى المبادرة قبولا لدى الأوساط العمالية فى إسرائيل وظان يعلن شيمون بيريز الزعيم العمالى (بأن الخطة تشكل أساسا للحوار مع واشنطن) ويعتبرها (نقطة تحول ذات أهمية كبرى).(34) وفى نفس السياق يشير أباابيان (أن مقترحات ريجان هى أكثر المقترحات واقعية بين سائر المقترحات التى تلقتها إسرائيل فى السنوات الأخيرة).(35) وعلى العكس من ذلك، أثارت لمبادرة ردود فعل سلبية عند ممثلى الليكود حيث أعلن بيجين (أن الضفة جزء من أرض إسرائيل التاريخية، وأنه لا يستطيع أن يتجاوز إعلان حزبه فيما يتعلق بالأرض المحتلة. ومن ثم فهو ليس على استعداد لقبول مشروع جديد، ما لم يقم على أساس كامب ديفيد).(36) وصرح شارون وكان وزير الدفاع وقتئذ ( بأنه لن يكون هناك أمام الولايات المتحدة بديل آخر غير التخلى عن هذه المقترحات لأن إسرائيل لن تبحثها، ولا يمكن تنفيذها).
ولما كان الليكود هو الذى يعتلى الحكم فى إسرائيل وليس العمل، فلم تكن الإدارة الأمريكية فى عجلة لوضع هذه المبادرة موضع التنفيذ.
الأردن يؤيد المبادرة:
أما الأردن، فقد أعلن تأييده للمبادرة باعتبارها فكرة الخيار الأردنى، ووسيلة لاستعادة الأرض المحتلة فى الضفة ولذا رأى فيها الكثير من النقاط الإيجابية ووصفها بأنها مبادرة شجاعة.(37) ولكنه لم يكن هو الأخر فى عجلة من آمرة لتنفيذها لاعتبارات عدة، ليس آخرها وجود الليكود الإسرائيلى المتشدد فى الحكم. وإنما لأسباب يمكن بلورتها فى الآتى:
أولا: احتياج الأردن إلى اتفاق مع المنظمة يعطيه الضوء الأخضر للتفاوض حول الأرض المحتلة. وهذا يعنى الخروج عما أتفق عربيا فى الرباط فى 1974.
ثانيا: رغبته فى الحصول على تعهد أمريكى واضح وملموس بشأن وقف حركة الاستيطان الإسرائيلية فى الأرض المحتلة (38).
ثالثا: الانسحاب الإسرائيلى من لبنان. فأى حديث عن تسوية سلمية والقوات الإسرائيلية ما تزال تدهس أرض لبنان يصبح لا معنى له.
ولا شك أن الملك حسين كان يعول فى تحقيق المقولتين الأخيرتين على قوة الضغط الأمريكية على إسرائيل. أما البند الأول الخاص بالمنظمة فقد كان يقتضى إتمام خطوات ثلاث، تبدأ بموافقة منظمة التحرير ولو ضمنيا على التنازل عن صفتها كمتحدث رسمى وحيد عن الفلسطينيين، إلى حصول الأردن على دعم ومساندة عربية تعطيه قدرا من الشرعية فى أى تحرك نحو التسوية. مرورا بدعم ومساندة الشعب الفلسطينى فى الأرض المحتلة. فالأرجح أن العاهل الأردنى لم يكن متأكدا من صدق النوايا الإسرائيلية فى الانسحاب من الضفة ولا واثقا من الرغبة الأمريكية فى الضغط على إسرائيل بدون حصوله على تأييد عربى وفلسطينى وهذا هو سر إحجامه عن المضى سريعا نحو تنفيذ المبادرة الأمريكية.
ولم يكن غريبا أن يسعى الأردن منذ ذلك الوقت للحصول على التأييد العربى الفلسطينى. إلا أن الانشقاق الذى وقع فى المنظمة، وعدم رغبة الجانب المعتدل المتمثل فى قيادة منظمة التحرير فى المبادرة بالتحرك مع الأردن، إلى جانب استمرار إسرائيل فى احتلالها للبنان، وإحجام الولايات المتحدة عن الضغط عليها لوقف نشاطها الاستيطانى فى الضفة الغربية، أجهضت هذه المساعى الأردنية التى تلقت ضربة جديدة بإعلان أمريكا عن تحالفها الاستراتيجى مع إسرائيل فى ديسمبر 1983(39).إلا أن هذا العام قد حمل مؤشرات أخرى أحيت الجهود الأردنية فقد تما مقابلة الملك حسين مع السيد ياسر عرفات فى أكتوبر من نفس العام (40). وبدأت العلاقات الأردنية الفلسطينية تتحسن تدريجيا خاصة وأن الانشقاق الذى أصاب المنظمة دفع بقيادتها الشرعية إلى المضى نحو الأردن، وأمام ازدياد النفوذ السورى على العناصر المنشقة عليها.
وأعاد الأردن أحياء برلمانية الذى تشكل نصف أعضائه من ممثلى الضفة الغربية(41) وبدعوة الأردن المنظمة لعقد اجتماعات المجلس الوطنى الفلسطينى فى عمان فى نوفمبر 1984(42) وقبلها أعاد علاقاته مع مصر بدا واضحا أن الأردن يسعى للسير فى طريق التسوية الجديدة المطروحة وقد تضافرت عدة عوامل جعلته يسرع الخطى نحو هذا الطريق أهمها وصول حزب العمل الإسرائيلى إلى ضمن حكومة ائتلافية وبدء الحديث عن إجراءات الانسحاب من لبنان حتى بدأت تتشكل قناعة أردنية بأن عنصر الوقت لم يعد فى مصلحة العرب، وأنه ينبغى استغلال هذا الظرف لدفع الولايات المتحدة نحو التحرك خاصة وأنه كانت هناك مخاوف أردنية قديمة من أن عدم التوصل إلى حل للمسألة الفلسطينية من خلال مفاوضات سلام مع إسرائيل.
سيقود فى النهاية إلى تنفيذ إسرائيل لتهديدها المستمر للأردن بتوسيع حدودها إلى ما وراء النهر الأردنى(43) وتحدد التحرك الأردنى فى إطار مبادرة ريجان والقرار 242 كأساس لمقايضة الأرض بالسلام والدعوة لإقامة كيان فلسطينى فى الضفة متحدا مع الأردن. ولكن مع الدعوة لدمج هذا التحرك بما جاء فى مقررات قمة فاس التى أعلنت بعد ذلك منح الفلسطينيين حقوقا أشمل على المدى الطويل تتضمن حقهم فى تقرير المصير(44) موقف المنظمة من المبادرة:
لم يكن واضحا أن هناك رفض قاطع من قبل منظمة التحرير لمبادرة ريجان فلم يخف فاروق القدومى (رئيس الدائرة السياسية بالمنظمة) فور الإعلان عن المبادرة بأنها (تتضمن عناصر جديدة) وكان يقصد بالتحديد ما جاء فيها من النص على تجميد المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى العربية المحتلة. ووصف هذه النقطة ( بأنها شئ جيد يمكن أن يكون مادة للنقاش داخل القيادة الفلسطينية)(45). وهو نفس الاتجاه الذى عبر عنه صلاح خلف ( أبوأياد ) عضو اللجنة المركزية لحركة فتح فى حديث له حيث أشار ( أو المشروع يتضمن نغمة جديدة بشأن القضية الفلسطينية من جانب ريجان لا يمكن تجاهلها وأن المشروع لا يشكل قناعة تامة بالسبة لنا. غير أنه كبداية ليس سيئا)(46).
ولم تبد لمنظمة تحفظا واضحا على المبادرة إلا عقب اجتماعات مؤتمر القمة العربى الثانى عشر فى المغرب وإنهائه إلى بلورة مشروع عربى عرف بمشروع قمة فاس. عندما صرح السيد ياسر عرفات ( بأن المبادرة الأمريكية لم تأت بجديد، ولم تخرج عن إطار اتفاقيات كامب ديفيد)(47).
وأعلن خالد الحسن ( عضو اللجنة المركزية لحركة فتح بأن المشروع تضمن سلبيات تكاد تنسف إيجابياته بإهماله حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره، وعدم ذكر منظمة التحرير، ومعارضته إقامة دولة فلسطينية)(48). وبهذا المعنى لم يكن هناك رفض سافر وصريح لمبادرة ريجان رغم التحفظات التى أبدتها المنظمة على لسان قيادتها. صحيح أن منظمة التحرير لم تكن تبد ميلا لفكرة الخيار الأردنى الذى انطوت علية المبادرة حيث أنها تحمل فى طياتها خطر القضاء على مبدأ الدولة الفلسطينية المستقلة، وعلى الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير كمتحدث شرعى وحيد باسم الفلسطينيين. ومن هنا كان موقفها السلبى من مشاريع
(الخيار الأردنى). سواء تلك التى طرحت من الجانب العربى، أو الإسرائيلى على حد سواء. إلا أن ظروف ما بعد الحرب اللبنانية الشرسة التى عاشتها المنظمة، وبعد تشتيت قواتها فى حوالى سبع دول عربية جعلتها تعيد النظر بعض الشىء فى مواقفها السابقة من هذا المشروع عن البديل الأردنى. إذ وضعتها حرب لبنان أمام خيارين(49).
أما الدخول فى مواجهة عنيفة غير محسوب نتائجها فى تلك الفترة.
أو الانضمام إلى المعادلة السياسية الجديدة التى أفرزتها تداعيات ما بعد الحرب. حتى لا تستبعد منها، وحتى تتمكن على المدى الطويل من استعادة قدرتها العسكرية، وقوتها التفاوضية.
واختارت المنظمة البديل الثانى، فكان موقفها من مبادرة ريجان الخيار الأردنى التى انتابتها. ولم يكن هذا الموقف جديدا تماما على سياستها. فهذا النهج الذى يوصف
(بالبرجماتية السياسية)، بدأ يتشكل بعد حرب الأيام الستة، وبالتحديد بعد قبول كل من مصر والأردن لمبادرة روجرز الأمريكية فى 1970.
فقد بدأت منظمة التحرير تعانى من خوف الاستبعاد، ومن عقدة عودة الضفة الغربية إلى الحكم الأردنى. ولذا لم يكن غريبا أن تقبل قيادتها الدخول من باب التسوية السياسية الذى فتح بعد حرب 1973. حتى لا يكون هناك مجال للأردن أو لغيره من الأنظمة العربية بأن يتفاوض نيابة عنها. وأستلزم ذلك قبولها بالصيغة التوفيقية أو الحلول المرحلية وهو منطق اختلفت عليه الفصائل الفلسطينية وكان بداية لسلسلة طويلة من الخلافات الفلسطينية حول طبعته وجدواه. ولكن الثابت أنه بعد الحرب وبالتحديد منذ 1974، بدأ يتبلور البرنامج المرحلى الذى ظهر من خلال مقررات المجلس الوطنى الثانى عشر الذى عقد بالقاهرة فى يونيو من نفس العام حيث قدمت حركة فتح ورقة تجعل أحد الأهداف القريبة والمباشرة للنضال الفلسطينى (انتزاع حق الشعب الفلسطينى العادل والمشروع بقيادة منظمة التحرير فى تقرير مصيره بنفسه وحقه فى الاستقلال الوطنى والسيادة الكاملة على الأرض الفلسطينية التى يتم تحريرها) وهو ما يعنى القبول بإقامة سلطة وطنية على جزء من أرض فلسطين بعد أن كان الشعار الرسمى للمنظمة يقول (بإقامة الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة على كل أرض فلسطين)(50).
وقد أعتبر ذلك تنازلا سياسيا خطيرا لمنظمة التحرير إلا أن حجتها الأساسى كانت تقوم على أساس خشيتها من أن تستخدم الإدارة الأمريكية رفض المنظمة مبادئ التسوية المعروضة، لإدخال الأردن منفردا ساحة المفاوضات لتوقيع اتفاق مع إسرائيل تجعل للملك حسين السيطرة المباشرة على الضفة(51). ولم تكن خطة ريجان، وظروف ما بعد حرب لبنان أقل خطرا على المنظمة من الظروف التى تلت حرب 1973 وظهور مشروع كسينجر للشرق الأوسط. وبنفس المنطق (البرجماتى) بدأت المنظمة تعد للتحاور مع الأردن وهى تملك من الأوراق ما يعطى لها قوة تفاوضية، وأهمها ورقة الشرعية العربية ) التى بدأت بدونها لن تلقى الأردن قبولا لتحركه وتأييدا رسميا له. والواضح أن ذلك كان هو هامش المناورة السياسية الذى بقى لها بعد حرب لبنان.
وعندما ذهب عرفات إلى الأردن فى خريف 1982، لم يرد فقط أن يثبت أن المنظمة لن تستبعد من أى تسوية سياسية، وإنما أيضا أراد تفويت الفرصة على الأردن الذى تحمس للمبادرة الأمريكية أن تدخل محادثات منفردة مع الولايات المتحدة، إذا ما أغفلت المنظمة القنوات السياسية المفتوحة معه. وقد كانت هناك من العوامل الأخرى ما عزز هذا التقارب مع الأردن. وأهمها ازدياد التوتر القديم بين القيادتين السورية الفلسطينية وخاصة بعد أحداث غزو لبنان، وحصار بيروت والخروج الفلسطينى من طرابلس، ولاتهامات التى وجهتها قيادة المنظمة للدور الذى لعبته القوات السورية فى البقاع والجبل والجنوب وإحجامها عن خوض أى قتال حقيقى مع القوات الإسرائيلية(52) هذا فضلا عن الغطاء الذى قدمته سوريا للمنشقين فى فتح. وصرح السيد ياسر عرفات (بأن سوريا ومعها ليبيا قد تآمرتا على منظمة التحرير وفتح بالذات، وأنها تسعى لمصادرة قرارها المستقل (53)
وفى المقابل بدأ عرفات بالحوار الأردنى الفلسطينى يأخذ مجراه سريعا(54) واستمرت المرحلة الأولى له من بعد حرب 1982 حتى أبريل 1983، وتخللها دورة المجلس الوطنى الفلسطينى السادسة عشر والتى شكلت منعطفا هاما فى العلاقات الأردنية الفلسطينية. أما المرحلة الثانية فقد بدأت فى صيف 1984 واستمرت حتى الآن وكان أبرز أحداثها الدعوة لانعقاد المجلس الوطنى الأخير فى عمان 1985.
فمنذ زيارة أو عمار لعمان فى أكتوبر 1982، والأحداث تترد عن علاقة كونفدرالية تربط ما بين الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها على الأرض المحررة والأردن. ولم يتحول هذا المفهوم إلى الصيغة مكتوبة إلا مع مقررات المجلس الوطنى السادس عشر الذى انعقد فى العام التالى، والتى تضمنت نقطتين أساسيتين فيما يتعلق بفكرة الخيار الأردنى:
- تؤكد الأولى على العلاقات الخاصة والمتميزة التى تربط الشعبين الأردنى والفلسطينى.
- وترى الثانية، أن العلاقات المستقلة مع الأردن ستكون على أساس علاقة كونفدرالية (وليس فيدرالية) بين دولتين مستقلتين. ورغم أن هذا الإعلان يشكل منعطفا أو مرحلة هامة على طريق العلاقات الأردنية الفلسطينية إلا أنه لم يكن كافيا لتطور هذه العلاقات أبعد من ذلك ويبدو أن ذلك يرجع لسببين:
1- أن الأردن أراد تحركا مشتركا تكون ركيزته الأولى هو قرار مجلس الأمن 242 الذى يراه الأساس الحقيقى لآى تسوية واقعية فى المنطقة، ومن ثم أراد موقفا واضحا منه من المنظمة قبل الحديث عن طبيعة العلاقة الكونفدرالية أو الفدرالية مع الأردن.
2- اشتداد الخلافات على الساحة الفلسطينية إزاء فكرة الكونفدرالية التى أتت بها قرارات المجلس الوطنى. مما عرقل القيادة الفلسطينية عن المضى فى هذا الطريق إلى أبعد من ذلك.
وتوقف الحوار مع الأردن ولكن بناء على طلب الحكومة الأردنية التى أصدرت بيانا فى العاشر من أبريل تعلن فيه وقف الحوار مع منظمة التحرير(55) ولم تبادر المنظمة باستئناف الحوار مع الأردن مع بدايات 1984(56)
ويبدو أنها كانت مدفوعة فى ذلك بالتطورات الداخلية التى شهدها الأردن بأحياء برمانه الذى ضم ممثلين عن الضفة الغربية (57) فكان ذلك نذيرا للمنظمة بقرب دخول تسوية ما يعد لها خاصة وأن العاهل الأردنى لم يترك مناسبة إلا وحث فيها العرب على استغلال الفرص المتاحة للسلام بدعوى أن عنصر الوقت لم يعد فى صالحهم وأن الحركة الاستيطانية فى إسرائيل تتزايد وتتفاقم حدتها مع مرور الوقت. وتكررت زيارات السيد عرفات الأردن رغم عدم الإجمال الفلسطينى عليها.
وأنتهى الأمر بانقسام الساحة الفلسطينية إزاء العلاقة مع الأردن إلى محاور ثلاثة:
1- تحالف يضم اللجنة المركزية لحركة فتح بقيادة عرفات رئيس اللجنة التنفيذية للمنظمة، بالإضافة إلى جبهة التحرير العربية ( الموالية للعراق ) ويدعو إلى إقامة علاقات أوثق مع الأردن وتحقيق تقارب مع كل من مصر والعراق.
2- التحالف الديمقراطى، ويضم الجبهة الديمقراطية، الجبهة الشعبية ، الحزب الشيوعى الفلسطينى وجبهة التحرير الفلسطينية ومثل محورا محايدا أو وسطا.
3- التحالف الوطنى الذى ضم الصاعقة، القيادة العامة، جبهة النضال الشعبى إلى جانب المعارضة المنشقة عن فتح ويرفض التحاور مع الأردن ويطرح فى المقابل علاقات وثيقة مع سوريا.
وأراد التحالف الديمقراطى أن يلعب دور الوسيط فدعا إلى حوار فلسطينى بين الطرفين الآخرين حتى توصلا إلى اتفاق شامل تم برعاية الجزائر واليمن الديمقراطى عرف باتفاق عدن(58)
إلا أن قيام السيد عرفات بعد ذلك بزيارة إلى القاهرة، ثم موافقته على عقد المجلس الوطنى الأخير فى عمان، فسر من قبل التنظيمات الفلسطينية الأخرى على أنه تجاوز كبير ومخالفة واضحة لقرارات عدن التى نصت على عدم العودة إلى مصر إلا بعد إلغاء كامب ديفيد. كما أن عقد المجلس فى عمان كان يعنى ترجيحا لهذه الكفة على ما عداها. بل ووصل المر إلى حد القول بأن القيادة الفلسطينية أرادت أن تقوم بعملية فرز على الساحة الفلسطينية حتى تتمكن من تنسيق مواقفها مع الأردن لأن عدم التمسك حرفيا ببنود (عدن) قد أحرج التحالف الوسط، فهاجمت الجبهة الشعبية تصريحات أبوعمار، وامتنعت الجبهة الديمقراطية عن لعب دور الوسيط ولم يحضر اجتماعات المجلس إلا من يوافق على سياسية التقارب الفلسطينية الأردنية. وليس مبالغة القول بأن أتحاذ القيادة الفلسطينية القرار بعقد المجلس فى عمان كان نهاية لمرحلة وبداية حاسمة لمرحلة لاحقة تبلورت حول الاتفاق الأردنى الفلسطينى الذى وقع عليه مع مشارف عام 1985.
4- الاتفاق الأردنى الفلسطينى يحرك مبادرة ريجان:
كانت اجتماعات المجلس الوطنى فى دورته السابعة عشرة الأخيرة فى العاصمة الأردنية فى نوفمبر 1985، مقدمة حقيقية لاتفاق عمان. إذ أعلن الأردن بصراحة ووضوح شديد طوال الفترة التى سبقت اجتماعات المجلس استعداده للتحرك نحو السلام على أساس مبدأين(59).
الأرض مقابل السلام، وقرار مجلس الأمن رقم 242 الذى يحظى فى نظر الأردن بقبول الأطراف المعنية فيما عدا الطرف الرئيسى وهو الفلسطينى وإزاء ذلك تقاسم المجلس تياران، إحداهما يعلن رفضه لقرار 242، والأخر يؤيد التحرك مع الأردن ولكن من خلال صيغة تتجنب الإشارة بشكل مباشر إلى القرار. ولكن فى النهاية لم يكن هناك خلاف حول تنسيق المواقف على الأردن والتحرك المشترك معه.
والمتابع لجلسات المجلس الوطنى فى دورته الأخيرة يلحظ عدة ملاحظات(60) أن المجلس ضم أكبر عدد من العناصر الفلسطينية المعتدلة وبالتحديد تلك التى تقبل التحرك السلمى مع الأردن، ومصر.
- تشكيل لجنة تنفيذية جديدة يجمع بينها أيضا قاسم الاعتدال وتقبل بالتنسيق الأردنى الفلسطينى. وكانت غالبية عناصر هذه اللجنة ممن يقيمون فى العاصمة الأردنية بشكل دائم مثل ( محمد ملحم ) وفهد القوامسة الذى اغتيل، والمطران أيليا خورى،
هذا بالإضافة إلى أعضاء منظمة فتح الثلاثة وهم (فاروق القدومى) محمد عباس (أبومازن)، علاوة على السيد عرفات شخصيا.
أما الباقون وهم عبدالرحمن ويقيم فى بغداد ممثلا عن جبهة التحرير العربية، وجمال الصورانى الذى يقيم فى القاهرة فليسا بعيدين عن التحرك الأردنى وأخيرا السيد محمد عباس (أبوالعباس) ويقيم فى تونس ويمثل جبهة التحرير الفلسطينية المنشقة عن الجبهة الشعبية القيادة العامة التى يتزعمها أحمد جبريل.
ولول مرة لم تتضمن قرارات المجلس الوطنى الفلسطينى فى دورته السابعة عشرة الأخيرة رفضا صريحا معلنا للقرار 242 وبرر السيد أبواللطف (فاروق القدومى) ذلك بقولة (أن تأكيدا من المجلس على قرارات المجالس الوطنية السابقة هو رفض ضمنى للقرار)(61)
لذا يمكن القول أن كل الطرق كانت ممهدة أمام التحرك الأردنى الفلسطينى المشترك، بل وإن القيادة الشرعية للمنظمة كانت تضغط فى هذا الاتجاه لإدراكها بأنه ربما يكون الخيار الوحيد المطروح أمامها بعد خروج المقاومة من بيروت وتعثر كل محاولات المصالحة مع دمشق حتى لا تجد المنظمة نفسها فى النهاية بعيدة عن تحركات السلام فى المنطقة إذا ما بدأت.
ونتيجة لهذه الجهود المشتركة مع الأردن قدمت ورقتان إحداهما أردنية والأخرى فلسطينية تطرح صيغة لمشروع عمل مشترك.
ونصت الورقة الأولى الأردنية على المبادئ التالية(62)
أ- الأرض مقابل السلام.
1- كما ورد فى قرار مجلس الأمن رقم 242.
ب - كما أكده قرار مجلس الأمن رقم 242 أو
ج- كما ورد فى قرار مجلس الأمن الدولى.
2- حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى.
أ- فى إطار علاقة أردنية فلسطينية سقفها كونفدرالى أو
ب- فى إطار اتحاد أردنى فلسطينى كونفدرالى.
3- وعلى هذا الأساس تجرى مفاوضات السلام فى ظل مؤتمر دولى تحضره الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن. وسائر أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى للشعب الفلسطينى وتكون المشاركة الأردنية الفلسطينية على قدم المساواة من خلال وفد مشترك.
4 حل قضية اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الأمم المتحدة.
أما الورقة الفلسطينية فقد تضمنت الآتى:
1- الأرض مقابل السلام كما ورد فى قرارات مجلس الأمم المتحدة بما فيها قرارات مجلس الأمن.
2- حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى فى إطار دولة فلسطينية ضمن اتحاد كونفدرالى أردنى فلسطينى.
3- حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الأمم المتحدة.
4- حل القضية الفلسطينية من جميع جوانبها.
5- على هذا الأساس تجرى مفاوضات السلام فى ظل مؤتمر دولى تحضره الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى وسائر أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى.
وتكون المشاركة الفلسطينية على قدم مساواة ضمن وفد عربى مشترك.
وبذلك. اختلفت الورقتان حول نقطتين أساسيتين وإن لم نختلف جوهريا فى إطارها العام. إذ نصت الورقة الفلسطينية على مشاركة أردنية فلسطينية على قدم المساواة ضمن وفد عربى مشترك، بينما دعت الورقة الأردنية إلى مشاركة على قدم المساواة ضمن وفد مشترك دون تحديد. وكانت مسألة التمثيل هى نقطة الاختلاف الثانية حيث أغفلت الورقة الأردنية الإشارة إلى المنظمة كممثل شرعى (وحيد) للفلسطينيين كما جاء فى الورقة الفلسطينية.
ولكن بوصول السيد ياسر عرفات إلى الأردن فى العاشر من فبراير وعقده اجتماعا مع الملك حسين، وبعد مباحثات مكثفة، أعلن فى اليوم التالى لهذا اللقاء عن توقيع اتفاق عمان أو الاتفاق الأردنى الفلسطينى الذى التقى فيه الطرفان على المبادئ التالية(64):
(1) الأرض مقابل السلام.
كما ورد فى قرارات الأمم المتحدة بما فيها قرارات مجلس الأمن.
(2) حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى.
يمارس الفلسطينيون حقهم الثابت فى تقرير المصير عندما يتمكن الأردنيون والفلسطينيون من تحقيق ذلك ضمن إطار الاتحاد الكونفدرالى العربى المنوى إنشاؤه.بين دولتى الأردن وفلسطين.
(3) حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حسب قرارات الأمم المتحدة.
(4) حل القضية الفلسطينية من جميع جوانبها.
(5) وعلى هذا الأساس تجرى مفاوضات السلام فى ظل مؤتمر دولى تحضره الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن الدولى وسائر أطراف النزاع بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى ضمن وفد مشترك.
وكان النقاش قبل الاتفاق على الصيغة النهائية يتركز حول مسألتين:
الأولى: خاصة بعبارة (اللاجئين الفلسطينيين) والتى أثارت تساؤلات حول الفرق بينها، وبين النص الوارد فى القرار 242.
والأخرى تتعلق بالعبارة التى تقول (عندما يتمكن الأردنيون والفلسطينيون من تحقيق ذلك وكان السؤال هو من هم الفلسطينيون المقصودين فى هذه العبارة وهل يقصد بها إقامة الدولة الفلسطينية والاستفتاء عليها من قبل الطرفين، أم الاتحاد الكونفدرالى والاستفتاء عليه من كل طرف على حدة.
ولذا جاء التصديق الفلسطينى على الاتفاق مشروطا بموافقة الأردن على بعض التغييرات فكان تعديل النقطة الثانية بما يتضمن الإقرار بحق الفلسطينيين فى تقرير المصير، وإضافة عبارة (عندما يتمكن الفلسطينيون والأردنيون من تحقيق ذلك).
ضمن إطار الاتحاد الكونفدرالى العربى المنوى إنشاؤه بين دولتى الأردن وفلسطين.
وذلك حتى لا يفسر الأمر بما يتعارض مع الحق الفلسطينى الذى تنادى به المنظمة دائما بأنه دولة مستقلة.
كما عدلت النقطة الخامسة على أساس تشكيل وفدين مستقلين إحداهما أردنى والأخر فلسطينى يشاركان فى إطار وفد عربى موحد فى المؤتمر الدولى للسلام, وكانت هذه النقطة قد أشارت من قبل إلى تشكيل وفد أردنى فلسطينى مشترك الأمر الذى فسره البعض على أنه يعنى المشاركة فى وحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطينى وهو ما يخالف جميع قرارات المجالس الوطنية السابقة(65)
ولا شك أن الاتفاق على هذا النحو قد حمل بعض من ملامح مبادرة ريجان خاصة فيما يتعلق بالعلاقة الكونفدرالية والاتفاق على التحرك الفلسطينى المشترك مع الأردن والذى يعنى بصورة أو بأخرى تفضيلا (للخيار الأردنى) محور المبادرة الأمريكية خاصة وأنه لم ينص صراحة على الدولة الفلسطينية المستقلة. ولذا لم يكن غيبا أن ينفتح بعدة الباب واسعا للحديث عن ترتيبات التسوية المقترحة. وأن يكون هناك حضور أمريكى متزايد فى هذا السياق خاصة وأن واشنطن قد وجدت من المبررات ما يجعلها تبدأ فى وضع مبادرتها المجمدة موضع التنفيذ، وليس آخرها وجود الجناح العمالى الإسرائيلى فى الحكم على رأس حكومة ائتلافية، وقراره بالانسحاب من لبنان، الذى يعطى لها شرعية التحرك أمام الجانب العربى. وإنما أيضا وهو الأهم وجود استعداد أردنى عال للتحرك، واتخاذ الأردن من الإجراءات العملية، ما يتيح له الحصول على نوع من المساندة العربية، ومن الدعم الفلسطينى من سكان الأرض المحتلة. فلم تكن مصادفة أن تشارك فى حكومة الرفاعى الأخيرة (66)
هذا الكم من الوزراء الفلسطينيين. صحيح أن الوزارات الأردنية قبل احتلال الضفة فى 1967 كانت تشكل مناصفة بين ممثلى الضفة الشرقية والغربية، إلا أن عدد الوزراء الفلسطينيين تقلص بعد ذلك إلى حد كبير. وكانت هذه المرة الأولى منذ 1974، التى يأتى إلى مقاعد الوزارة الأردنية 12 وزيرا فلسطينيا من أصل 23. وهو ما يتيح التقارب مع فلسطينى الضفة المحتلة. إلى جانب شخص رئيس الوزراء المعروف بتقاربه مع سوريا. مما يجعله أقدر على التحاور معها، فهى ليست فقط الرقم الصعب فى هذه المعادلة الجديدة وإنما هى أيضا مدخل الوصول إلى أكبر تأييد عربى ممكن. ولا شك أن جولة الملك حسين الخليجية
(67) الأخيرة تصب فى هذا الاتجاه.
وبذلك تجمعت خيوط عديدة لإدخال مبادرة ريجان مرحلة التنفيذ بعد الإعلان عن اتفاق عمان. وفى هذا الإطار جاءت الجولات المكوكية للمبعوث الأمريكى ريتشارد مورفى إلى عدد من العواصم العربية وإسرائيل وبقى الخلاف حول التفاصيل. متمركزا حول قضية التمثيل الفلسطينى فى الوفد المشترك المقترح تشكيلة على الجانب الأردنى للتفاوض حول التسوية.
5- المنظمة. والمأزق الراهن:
لقد اصطدمت مسألة التمثيل بعقبة رئيسية وضعتها إسرائيل وساندتها الإدارة الأمريكية، وتقضى باستبعاد أى تمثيل لمنظمة التحرير فى الوفد والأرجح استبعادها من هذه المعادلة السياسية.
فتوقيع المنظمة على اتفاق عمان الذى يقوم على أساس قرار 242، ومبدأ مقايضة الأرض بالسلام)، وموافقتها على الكونفدرالية مع الأردن) أو بمعنى أخر قبولها الصريح بفكرة (الحل الوسط) لم يلق أى استجابة أمريكية ولا يخف أن محاولة مصر الوصول إلى صيغة توفيقية ترضى جميع الأطراف قد لقيت هى الأخرى تحفظا من الإدارة الأمريكية. فالمعروف أن مصر حين طرحت مقترحاتها فى إطار اتفاق عمان، أرادت أن توجد مدخلا عمليا لتنفيذه، فيما عرف باسم المبادرة المصرية(68) التى اشتملت على مراحل ثلاث:
تقضى الأولى باجتماع فلسطينى فى واشنطن بالإدارة الأمريكية وتشير الثانية إلى إجراء مفاوضات مباشرة أردنية فلسطينية إسرائيلية سواء فى القاهرة، أو واشنطن بشأن مستقبل الأراضى المحتلة، ووضع الدولة الفلسطينية المحتمل قيامها فى إطار اتحاد كونفدرالى مع الأردن. وأخيرا، تنص المحلة الثالثة على عقد مؤتمر دولى تشترك فيه الدول الخمس لإعطاء الشرعية الدولية اللازمة لضمان حل دائم للنزاع.
وبذلك اشتملت المبادرة المصرية على فكرة (التفاوض المباشر) الذى تصر عليه إسرائيل حتى لا توقف مساعى التسوية، على أن يكون تحت أشراف أمريكى بمعنى أن تبدأ المفاوضات بحوار أمريكى فلسطينى أردنى وهى محاولة من مصر لأن تكون مقدمة لاعتراف أمريكا ولو ضمنيا بمنظمة التحرير. وفى النهاية النص على عقد المؤتمر الدولى الذى يلح عليه السوفييت والسوريون.
ومن هنا قدمت الصيغة التوفيقية لجميع الأطراف. ورغم ذلك اعترضت الولايات المتحدة على أن تجرى حوارا أمريكيا مع الطرف الفلسطينى قبل جلوسه للتفاوض المباشر مع إسرائيل مع الاشتراط بعدم تمثيل المنظمة فى الوفد، إل إذا اعترفت صراحة بالقرار 242. وبإسرائيل بلت بالتفاوض المباشر معها. كما جاء على لسان مورفى(69)
ولم يبد الأردن اعترضا على ما طرحه مورفى، إلا أنه كان واضحا أنه لن يستطيع التقدم بدون (شرعية) فلسطينية. خاصة وأن تصريحات مورفى قد أثارت ردود فعل سلبية داخل حركة فتح تجاه الاتفاق الأردنى الفلسطينى نفسه وتحدث أبوأياد(70)
صراحة ولأول مرة عن إمكانية إلغاء هذا الاتفاق.
وبهذا المعنى، وضعت جولة مورفى سياسية الملك حسين، ومبادرة عمان فى مأزق حقيقى ولذا حاولت الإدارة الأمريكية تدارك الأمر بعد إصرار الأردن على عدم التحرك المنفرد، فكان اقتراحها الأخير الذى قدمه جورج شولتز وزير خارجيتها خلال زيارته للمنطقة، بقبول اشتراك أعضاء من المجلس الوطنى الفلسطينى فى الوفد المشترك بشرط أن لا يعلن هؤلاء انتمائهم للمنظمة، وأن لا تتحدث المنظمة عن تمثيلهم لها
(71) ويبدو أن أمريكا أرادت بذلك أن تصب هدفين فى أن واحد إذ يمكنها القول أمام المنظمة بأنها تقدمت خطوة إلى الأمام بموافقتها على أن يضم الوفد أعضاء من الهيئة التشريعية ومعروف أن فى المجلس عناصر عديدة مرتبطة بالأردن ارتباطا وثيقا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يمكنها التأكيد لإسرائيل أنها لم تغير موقفها الثابت بعدم الاعتراف بالمنظمة خاصة وأن المجلس يضم العديد من الشخصيات المستقلة.
والواضح أن الرئيس الأمريكى يريد أن يبدو فى موقف أكثر مرونة تجاه مسألة التمثيل الفلسطينى بعد معرفته الأكيدة بأن الأردن لن يمضى وحده ولن يستطيع التحرك بدون شرعية عربية وفلسطينية بالأساس. وهذا هو سر الغزل الأمريكى لقيادات المنظمة وللمقابلة السرية التى تمت فى عمان بين السيد ياسر عرفات وعدد من المستشارين فى إدارة ريجان
(72) قبل وصول ريتشارد مورفى إليها ثم اجتماعه بعد ذلك بالعديد من الشخصيات الفلسطينية ولا جدال فى أن هذه المرونة محسوبة أمريكيا ولا تغير فى موقف أمريكا الثابت تجاه المنظمة وتجاه الدور الذى سيلعبه فى المفاوضات المقبلة. وخروجا من هذا المأزق حاول الأردن بمشروعية ذى النقاط الأربع(73)
الذى قدمه مؤخرا، أن تطرح حلا توفيقيا جديدا لاستئناف مساعى السلام، ويؤدى فى الوقت نفسه إلى إجراء مباحثات مباشرة كما تصر واشنطن. فنص فى مرحلته الأولى على إجراء جلسة تمهيدية بين وفد أردنى فلسطينى لا يضم أعضاء بارزين فى منظمة التحرير، ووفد أمريكى يعقبه جلسة أخرى بين الوفد المشترك والأداة الأمريكية ليبدأ المؤتمر الدولى فى المرحلة الثالثة. ويتم التفاوض المباشر فى المرحلة الرابعة والأخيرة. وعارضت الإدارة الأمريكية على لسان وزير خارجيتها جورج شولتز الخطة الأردنية بحجة أنها (لا تؤدى إلى الهدف الأمريكى وهو إجراء مفاوضات مباشرة بين العرب وإسرائيل)(74)
ولم يكن غريبا أن يسارع بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلى بالكشف عن خطة إسرائيلية أخرى للسلام(75)
تستبعد أى اشتراك لمنظمة التحرير فى عملية السلام، وعقد مؤتمر دولى يشترك فيه الاتحاد السوفيتى إذ تضمنت الخطة استمرار المباحثات التى تجريها الولايات المتحدة مع ممثلى مصر وإسرائيل والأردن. وكذلك الوفود الفلسطينية التى لا تضم أعضاء من منظمة التحرير.
وتسير فى المرحلة الثانية إلى تشكيل وفد إسرائيلى وآخر أردنى فلسطينى مشترك إعداد جدول أعمال لمؤتمر إسرائيلى أردنى فلسطينى باشتراك الولايات المتحدة. ليحصل على تأييد الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن لإجراء مفاوضات مباشرة بين الأردن ووفد فلسطينى وإسرائيلى فى مرحلة ثالثة.
أخيرا تأتى المرحلة الرابعة بتعيين وفود فلسطينية من الأراضى المحتلة بحيث يمثلون مواقف السكان فى الأرض المحتلة، وبذلك ألغى المشروع الإسرائيلى ذو النقاط الخمس فكرة المؤتمر الدولى والفكرة الأساسية التى طرحها المشروع الأردنى بأن يتم حوار أمريكى مسبق مع الوفد المشترك.
ورغم أن منظمة التحرير ترفض إلى الآن إصدار أى بيان رسمى من جانبها بدون أى تعهد من جانب الولايات المتحدة التى ترفض التعامل معها. ورغم تأكيدها على موقفها وحقها فى تسمية أعضاء الوفد الذى سيشارك فى المفاوضات المقبلة إلا أن المأزق الحقيقة فى مسألة التمثيل هذه تكمن فى طبيعتها المزدوجة. فاشتراك المنظمة المباشر فى الوفد سيعنى عمليا اعترافها بإسرائيل وهى ورقة أمسكت بها المنظمة حتى الآن. لأن موافقة واشنطن على الوفد المشترك تقترن بشرط أمريكى آخر حاسم وهو أن يكون مقدمة للتفاوض المباشر مع إسرائيل. وعدم اشتراك المنظمة فى هذا الوفد سيضعها على هامش أى مفاوضات مقبلة مع ما يحمله هذا الوضع من خطر استبعادها. وإفساح المكان للتسوية لمنفردة مع الأردن ولا شك أن ذكريات مؤتمرا ريجان الذى عقد فى 1948، وحصل بمقتضاه الملك عبد الله على تفويض فلسطينى بتوحيد الضفتين الشرقية والغربية تحت إمارته مازال ماثلا فى الأذهان.
وليس هذا هو المأزق الوحيد الذى تعانى منه المنظمة، فليس خافيا ما أحدثه التوقع على الاتفاق الأردنى الفلسطينى من انقسام حاد داخل الصف الفلسطينى بدأ يظهر فى الشهر التالى لتوقيع الاتفاق حين أعلن فى دمشق عن تشكيل تجمع فلسطينى أطلق عليه اسم " لجنة العمر الوحدوى(75)
برئاسة محمد زهدى النشاشيبى العضو المستقل السابق فى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وذلك بهدف إسقاط الاتفاق. وانتهى الأمر بقيام جبهة الإنقاذ الوطنية(77) التى تكونت من أطراف التحالف الوطنى السابق (القيادة العامة، جبهة النضال الشعبى، الصاعقة، حركة المعارضة فى فتح ) بالإضافة إلى الجبهة الشعبية التى يتزعمها جورج حبشى وجناح من جبهة التحرير الفلسطينية. بينما رفضت الجبهة الديمقراطية بقيادة ناييف حواتمة، والحزب الشيوعى فضلا عن الجناح الأكبر من جبهة التحرير الفلسطينية الانضمام إليها.
والمرجح فى ظل المأزق الراهن، أن الخيار الأخير الذى قد تراهن عليه منظمة التحرير هو عامل الوقت. إذ قد ترى فى تجميد الموقف الحالى ما يفسح المجال لقلب بعض من المعطيات السائدة خاصة وأن الأحداث الأخيرة فى لبنان، والذابح التى تعرضت لها المخيمات الفلسطينية على أيدى حركة أمل الشيعية والدور الذى لعبته سوريا هناك بعد إعطائها الضوء الأخضر للانقضاض على الوجود الفلسطينى، قد خطت أول انشقاق فى علاقة سوريا بجبهة الإنقاذ الوطنية، وقد يكون فى ذلك بداية لعودة (الوحدة) إلى القاموس الفلسطينى.
العمر الوحدوى(76)
برئاسة محمد زهدى النشاشيبى العضو المستقل السابق فى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وذلك بهدف إسقاط الاتفاق. وانتهى الأمر بقيام جبهة الانقاذ الوطنية(77) التى تكونت من أطراف التحالف الوطنى السابق (القيادة العامة، جبهة النضال الشعبى، الصاعقة، حركة المعارضة فى فتح) بالإضافة إلى الجبهة الشعبية التى يتزعمها جورج حبشى، وجناح من جبهة التحرير الفلسطينية، بينما رفضت الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمه، والحزب الشيوعى فضلا عن الجناح الأكبر من جبهة التحرير الفلسطينية.
المصدر: السياسة الدولية
بقلم: د.هاله مصطفى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.