أشكو أحيانا من بلادة في فهم الأمور. وأستشعر تلك البلادة بعد فوات الأوان. حين كانت أمي تحدثني عن والديها وطفولتها. كنت أفهم الاحداث وكأنها قصص لا تعنيني الا بقدر ما كانت تضحكني. كانت الجلسات الشتائية هي الأنسب لسرد الحكايا، وبوجود جدتي لأمي، تفيض الذاكرة وتندلق. كانت جدتي لأمي، والصفدية لجهة أبيها، تمتلك حصانا عربيا أصيلا. ويحكى أنها فارسة من الطراز الأول، تجوب المدن الفلسطينية على حصانها. لا يرعبها سفر الليل أو النهار، فلقبت بالشهباء.. وهي الأمية التي أرسلت بناتها قبل أولادها الى المدرسة الانجليزية، وبالعصا تجلس أمام طاولاتهم يكتبون فروضهم. وأعطت موافقتها على سفر ابنتها/ أمي الى دار المعلمات في القدس.
حينها لم أجد في القصة ما يثير الاهتمام، لطفلة لم تختبر الحياة بعد، أو بسبب البلادة، لا فرق. قصصا كثيرة سمعتها أو عايشتها لاحقا، عن نساء فلسطينيات، قمن بأعمال مجيدة. وفهمت الأمور على أنها هي الحياة تسير في مجراها الطبيعي. وجاءتني الصدمة متأخرة، فتحت عيني على صراع داخلي يتلاعب بي. قيود لا حصر لها على سلوكيات المرأة وفي كل يوم تضاف اغلال جديدة، تحولها الى جماد! فأتخيل.. ماذا لو برزت اليوم، امرأة فلسطينية على حصانها تتنقل بين القدس وغزة ورام الله.. أو أن ترسل عائلة محافظة ابنتها الى بلد اخر للدراسة؟ منذ أواخر الخمسينيات، حيث بدأت أعي ما يدور حولي لا أذكر أني شاهدت تلك الزنازين السوداء المفصلة على قياس النساء. فقط النساء المتقدمات في السن يضعن على رؤوسهن ما كان يسمى "الإيشارب"، دون أي مشكلة، لظهور "الغرّة"، التي تعددت موديلاتها. والفساتين الأنيقة تغطي الركبة فقط. فأتساءل ببراءة أو هبل: ما الذي تغيّر ومن الذي تغيّر ولماذا وكيف؟ أهي المرأة أم هو الرجل، الذي أصيب بنكسة حضارية، ويمارس الضغط والقمع على "حريمه"؟ ليس هذا موضوعي الان، فالفتاوى تقطع الأنفاس من الرعب، فيشكل ضغطا يدفع المرأة الى تقبل زنزانة ليست من تراثنا. ويبدو أن هؤلاء المشايخ، قد تخصصوا في مدرسة هيتشكوك، بإثارة الرعب عند النساء، وتشويه صورة الخالق. ما يثير حنقي لوضع المرأة الفلسطينية، هو التنكر لتاريخها ونضالاتها، ومشاركتها للرجل في الخنادق، والدفاع عن وطنها.. واستمرت تحمل صليب القضية نضالا وصمودا حتى يومنا هذا. في فلسطين تنقل لنا التكنولوجيا الحديثة دورها في النضال، وحماية الأقصى، فهل صوتها عورة حين تصرخ في وجه المحتل؟ أم هو انحراف في سلوكياتها حين تخرج لانتشال الأطفال من براثن البنادق؟ ذات مرة وصف مراسل صحفي فرنسي، مخيمات لبنان بأنها "ممالك النساء". حيث كانت المرأة تقوم بعائلتها، وتعمل خارج المخيم لتأمين قوت عائلتها. وتشارك الرجل في الخنادق، دفاعا عن المخيم. وفي فترة الهدنة، تقع في فخ من يسمحون لها بالتسوق .. فيقعن ضحايا القناصين.. وتكون المكافأة الحجر عليها واعتبارها عورة "من ساسها لراسها".. هؤلاء الذين حجروا على عقولهم في صومعة الجهل، لا يعرفون أن المرأة الفلسطينية، كانت رائدة التنوير منذ العام 1848. وسافرت الفتيات الى الخارج للدراسة. وأسسن الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية، التي كانت النواة لاتحاد المرأة الفلسطينية، ثم جرى تعميم التجربة في بلدان عربية أخرى. لعبت البعثات التبشيرية والارساليات الاجنبية، دورا هاما في إنشاء المدارس والكليات، الغربية والتي ساهمت في تعليم اللغات الاجنبية، للفتيات كما الاولاد، ومن هنا كانت ريادة المرأة الفلسطينية في تغيير أوضاع المرأة العربية.
الحياة الجديدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.