أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

فوضى ذاكرة / فاطمة يوسف عبد الرحيم



قبل طلوع الشمس يجر بلهاث متقطع عربته التي يبيع عليها ما تنوع من خضار عبر شوراع منداحة على مدِّ البصر وخارج مـدارات المألـوف، وترافقه هواجسه الفائتة لتعبر إلى مـا لا نهايـة على جسر أوهامه ليرى زمنــاً تفقـد الأشيـاء فيــه تناغمهــا، وارتفعت حرارة الجوّ مع تألق عين الشمس، فانبعثت في الجـــو نسائم مشبعة بأبخرة الوقود الخانقة وروائح مخلفات بشرية وحيوانية وعفن تعربش على جدران أزقة السوق الذي لا يعرف إلى أيّ زمن ينتمي، وليعلو صوته بين ضجيج الباعة"حلوة يا بطاطا، حمرا يا بندورة، حرّاق يا فلفل، يا ربّ، يا رزّاق".


ويعيده المساء حاملا من بقايا خضارعربته طعاما لأسرته، فيتناول عشاءه مع أفراد أسرته ثمّ يجلس أمام ذلك الصندوق الغوغائي الذي يمدّه بأخبار العالم، يتابعها بنهم ويحللها ويصدر توقعاته واستنتاجاته عن أخبار الوطن المسروق على مسمع زوجته التي لا يعنيها شيء إلا الأولاد ومتطلبات البيت، إذ يئست من سماع أخبار القضية التي أضحت همّا منسيا، بعد أن تحولت إلى صراعات مناصب ومكاسب.
كان حذرا في نقاشه وانفعاله وتأسيه، حديث السياسة ممنوع جهرا، وإن حدّثها بفكرة يخفض صوته معطيا الموضوع هيئة السرية التامة ولا يسمع إلا هسيس الصوت الخفيض السائد على ثرثرة الكلمات، وعندما تبادر إلى تعليق يلزمها الصمت فتعترض بنبرة تعجّب: لا أحد يسمعك، نحن نسكن التسوية، يزمجر بغضب: الحيطان لها آذان وألسن، أنت لا تعرفين ما يحدث في الأقبية السرية، يتحسس ظهرة: إنهم يجلدونهم كالحيوانات وتتشنج ملامح وجهه: ويصعقونهم بالكهرباء، تصمت حتى لا تثير ذكرى وجيعة، تشده الفرجة إلى ما يعرض على الشاشة من لقاءات مع المسؤولين،وهم يرتدون أغلى الملابس الأجنبية، فيسرّح نظراته في منامته التي تولّى الزمن الإكثار من ثقوبها، ينظر إلى أياديهم الناعمة التي تحمل "بايباتهم"ويرنو متحسرا على يده المبتورة من جراء معركة شرسة مع العدو، فيوجه أقذع السباب، ويردد بقهر:" فيهم كتير زعران باعونا وقبضوا الثمن".
جهّز عربته التي تئن تحت سقفها أعواد خشب واهية، ومحاطة بأستار خيشية مائلة للاهتراء أنسلت خيوطها بفعل عوامل التعرية، لتصفر في زواياها ريح كانون الباردة، ويدفعها أمامه كلّ صباح كهمّ ثقيل بعد أن يجهّز بضاعته ويرتبها بشكل يثير شهوة الجوع، ويعلو صوته صدّاحا مناديا على بضاعته:"يا أبو العيال، تعال واشتر، حمرا يا بندورة، البطاطا مقلية أطيب من اللحمة المشوية، طفّي جوع ولادك"
ويسترسل في النداء والتغني بجودة بضاعته، وتمتدّ يده المرتعشة لتقبض ثمن بيعه من بضع وريقات ماليّة يخبئها بحرص الاحتياج في جيب بنطاله"الحمد لله، كريم يا ربّ"وإذا أراد أن يريح هذا الجسد المتعب بعبء السنين يقف في زاوية السوق مستظلا قباء مظلته التي تزيّت بثقوب الزمن.
رعدة خوف اعتلته وذكرى مريرة طوّحت به جانبا حين أطل من بعيد ضابط المعتقل متعاليا بزهو كبريائه وجبروته، تتلألأ على كتفيه نجوما ذهبية وبيده سوط يتلوى بإيقاع ظلم، حدّق فيه من زاوية عربته وحدجه بنظرة حاقدة لا تشفي غليل آلام مزمنة، وأخفى دمعة إذلال طفرت من عينه وأربكته لحظة صمت، خال فيها قوة توهمه أنّه لن يمس أحد نقطة ضعفه، لكنّ ذلا وجيعا قفز من ذاكرة الزمن البعيد وجعله يقعي خلف عربته لاهثا يضغط بكفه على رقبته ليحدّ من تضخم الغدة الدرقية التي يثيرها الخوف القابع في ذاته، هذا الوجه محفورة سيماه في ذاكرة أزلية وصعق حين سمع صوته متسائلا: "بكم البطاطا" لكنّه تلهى عنه بترتيب بضاعته متجاهلا وجوده مؤثرا عدم الإجابة ومتواريا عن وقع نظراته وتحسس صدغا دوّت اللطمات عليه من هذه اليد اللئيمة، لكن صاحب السؤال نظر إليه بازدراء ولم تعجبه بضاعة الفقراء وانسحب مختفيا عن الأنظار دون أن يلتفت إليه، أخذ نفسا عميقا أراحه من توقعات ظلم قادم، ورماه همسا بأقبح السباب.
في تلك الليلة تضخمت الغدة الدرقية كأنّ مسّا حرك كلّ هواجس الرعب الخفي وأطبقت على أنفاسه، انطلق هائجا مائجا إلى ساحة الدار، وبدد بآهاته السكون المهيمن على سكينة الليل، وصل صوت نداءاته المخنوقة إلى أجواء الحي: إلحقوني أنا بختنق ويردد الشهادتين ،هبّ الجيران لنجدته وحملوه ومعه زوجته إلى قسم الطوارئ وغذيّ بالأكسجين حتى لا يتوقف نبض قلبه، استغرب الطبيب تضخم الغدة أضعافا وخضع لإجراء جراحة معقدة بيد أمهرالجراحين لاستئصالها قبل أن تخنقه، ثمّ نقل إلى غرفة العناية الحثيثة وبدأت رحلة الانفلات من قبضة البنج، فتح عينيه ووجد نفسه محاطا بغابة متشابكة من الأسلاك والخراطيم، المكان يغط في هدوء تام لا تسمع إلا كركرة عربة التنظيف تدور بين الأقسام وبعض عمال النظافة تغسل الممرات من أثر ضغط الزوارعلى أرضية المشفى.
في تلك اللحظة المنفلتة من عقــال أزمنة العمر حين يبــدو المـرء متماسكاً قوياً كمنارة عصية على السقوط، أخذت الرؤى القاسية تعبث بأفكاره وتنسج له صورا مرعبة من مخزون خياله، لحظات والرؤى أضحت حقيقة إلا أن اللحظات المسربلة بالغموض كانت على حواف الذاكرة تغزل هواجسا حادة كمدية انتُضيت تطعـن فـــلول المعقولات المهزومة، هبّ جالسا في سريره، نزع بعنف كلّ الأنابيب المغروزة في أنحاء جسده العليل وقفز من فوق السرير راكضا في الممرات شبه عارٍ صارخا: أنا محاصر، الأعداء حولي، ابتعدوا، سأدافع عن وجودي يتكور في الزاوية، اسكتوا صراخ المعتقلين في غرف التعذيب، تردّ عليه الممرضة بحنق: هذه أنّات النساء في قسم الحروق، أنت في المشفى.
مادت الأرض تحت قديه، وبدا متماسكاً قوياً وراح يتشظى في ذاكرة الزمن فيسكتها بعنفوان: أنت كاذبة هذه الأصوات قادمة من غرف التعذيب، وبهذه الأسلاك تريدون تجهيزي إلى غرفة الصعقات الكهربائية، لن أدلي بأيّ اعتراف.
الممرضة خائفة: لا يوجد هنا غرف تعذيب، أنت في غرفة العناية الحثيثة.
تذوي الذاكرة الواهنة على شتات الكلمات التائهة: أين سلاحي؟ أسرع، وبخطوة سريعة وزّع نظرات حادة في الأنحاء ثمّ اقتنص من عاملة النظافة مكنستها معلنا بعنف"هذا سلاحي" وخطف المقص من الممرضة مهددا: هذا سيفي سأقاوم حتى الرمق الأخير لن أسجد للحاكم الظالم، لن أسجد لمخلوق.
الممرضة بغضبة مرعوبة: من طلب منك السجود، ما هذا الهراء!!
يندفع الممرضون صوبه، تكوّر على أعضائه، وأحدث جلبة عالية، تأوهات محمومة، ضجيج متقطع، وضربات متلاحقة هنا وهناك، مستمرا فى قهقهاته المرعوبة ثمّ زحف مختبئا في خزانة الملابس.
الممرضة تصرخ: عد إلى سريرك، أنت في غرفة الإنعاش، أنت في خطر، قد تصاب بنزف!!
تهاجمه أسراب الأفكارفيلّوح بذراعيه وبتأتأة تائهة للكلمات: اصمتي المكان محاصر يريدون اعتقالي لست، لست، لست إرهابيا ولاولا بلطجيا أوأو شبّيحا، أنا أنا إنسان يطلب أدنى حقوق المواطنة، قليل من السلام والسكينة، وبعض الحقوق التي تعيد إليّ كرامتي.
الممرضة بلهفة فزع: عد إلى سريرك، ستنزف جراحك وتموت!!
يدوي بضحكة ساخرة: ها ها ها الموت، الموت حقيقة سرمدية، لقد متّ مرات ومرات تحت لسعات التعذيب على جسدي وبين أنياب الكلاب وصعقات الكهرباء، لست سلفيّا ولا وهابيّا ولا إخوانيّا ولا "قاعديّا"ولا شيوعيا ولا... ولا ... أنا إنسان بسيط ، العدو احتل وطني وشردني إلى أجيال قادمة، أبحث عن أمتار قليلة تأويني في بلدي لأزرع حقلي وأطعم منه أولادي، لأحيا بكرامتي، لن أقبل أن أظل حاملا للقب لاجيء جيلا بعد جيل.
الممرضة برأفة: عد إلى سريرك، ستؤذي صحتك! يوجه إليها نظرات مرعبة، تنادي بخوف: استدعوا أهل هذا المريض، يبدو أنه أصيب بلوثة في عقله.
ظل ساعات في معتقل أوهامه إلى أن حضر أخوه وزوجته وأبناؤه، نظروا إليه بكوا من هول حاله قالت زوجته: رضيت بك مبتور اليد وجريح حرب فداء للثورة ورضيت بغضباتك المستبدة لكن، قل لي كيف سأتقبل جنونك، أيّ معارك تلك التي تتحدث عنها، أنت مريض، اهدأ حتى يعالجوك.
بنظرات مضطربة لوّحها في الوجوه الغريبة عن ذاكرة تداخلت في أزمنة غابرة: لن أهدأ، أنت وهؤلاء تتآمرون عليّ، لن أقبل أن تسطو المؤامرات على وجودي، لن أدخل غرفة التعذيب، سأدافع عن هؤلاء المعتقلين حتى آخر رمق، هذا المكان بؤرة اعتقال، أتسمعون.. أتسمعون ،نشيج المعذبين، صراخ المستضعفين والمظلومين.
تقدّم منه الطبيب ليعطيه حقنة مهدئة صرخ فيه: لن تعتقلني لن أركع، سأدافع عن المستضعفين والمقهورين من أيّ نظام، أتسمعون صرخات المعتقلين في الطابق السفلي؟؟
الطبيب ناهرا: لا نسمع شيئا، أنت تصغي لأوهامك، عد إلى رشدك.
الأطباء فى حالة انهماك عجيب يتجنبونه ويتشاغلون بغيره ثم ينفجرون فى ضحك صاخب والبعض في ضحك مكبوت،ويواصل الانفعال بشكل عشوائي مضطرب ثمّ وجّه لهم نظرة صارخة ولطم الأرض بقدمية وتفل عليهم، رفع عصا المكنسة في وجوهم، أنتم الحكام القساة، ثيابكم بيضاء وقلوبكم سوداء دامية، ورمى بنظرةٍ أخيرة على الوجوه القصية ولفه دوار قسري ليفقـد ما تبقى من ريـق، ليرتمي متهالكا على الأرض، قيدوه وحقنوه بالإبرة المهدئة وحملوه إلى سريره وأعادوا وضع الخراطيم والأسلاك وتمّ تشغيل الأجهزة والكل في حالة حيرة من أمره، نظر الطبيب إلى زوجته الباكية قائلا: لا تقلقي على قواه العقلية، إنها فوضى ذاكرة من أثر البنج، سيستعيد وعيه بعد قليل... وانصرف.
الكلّ في حيرة من أمره، تقدم إليهم رجل كبير في السن يعمل في الجهاز الأمني للمشفى: في هذا المكان، زمن الحرب الأهلية وقعت مجزرة رهيبة وبني المشفى فوق معتقلات ومقابر جماعية، لا تستغربوا يبدو أن الرجل من المحاربين القدماء، نحن في عوالم لا تستقيم لحكامها سلطة إلا إذا ارتوت بدماء الضحايا وقامت فوق آهات معذبي المعتقلات وأقبية التعذيب، ثمّ رفع يديه"اللهم الطف بنا واسترها معنا".
سمعوا همهمات صوته التفوا حول سريره، فتح عينيه: أريد ماء، حدق مليّا في الجميع وناوشته الأسئلة الملحة: لم أنتم هنا؟ ألم تذهبوا لجامعاتكم ومدارسكم، نظروا إليه باطمئنان وضحك الجميع ضحكات رضىً، قالت الأم بفرح : عاد أبوكم إلينا،هيا لنعد إلى حياتنا المعتادة، انصرف الجميع ناداها بهدوء: سناء عندما أخرج أشتهي طبقا من شوربة العدس مع الخضار ردت بفرح: حاضر، الحمد لله على سلامتك، نحبك واشتقنا لوجودك بيننا.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية