مها حسن ـ باريس
بعد غياب سبع سنوات عن المحيط العربي، حيث أعيش في الغرب، وأتنقّل من
بلد لآخر، داخل القارة الأوربية، دون أن تتاح لي فرصة زيارة أي بلد عربي،
وسماع اللغة العربية في الشارع، والتحدث بها مع الباعة وسائقي التكسي،
وسماع الأغاني العربية في الشارع والمحلات ومن السيارات العابرة... كان ذلك
حلماً راودني، حققته أخيراً بذهابي إلى بيروت.تأخرت صديقتي الصحافية غادة عني بضع دقائق. كنت أنتظرها في فتحة"المنور"، فتحة الدرج، المطلّة على الشارع، مباشرة فوق بائع الخضرة... الطقس الذي افتقدته لسبع سنوات.
في "المارشيه" الباريسي، نتسوق الخضار واللحوم الطازجة، ولكن طريقة توزيع الخضار، وترتيبها، وطريقة البيع مختلفة...
هنا... الطقس عربي بحت.
نساء يأتين حاملات في أيديهن، لا حقائب يد نسائية، بل "جزادين" صغيرة يضعن فيها النقود، حيث كلهن يأتين من الحي ذاته، لا يسرن طويلاً، ولا يأخذن المواصلات، حتى أكاد أجزم بأنهن لا يحملن معهن بطاقاتهن الشخصية. معظمهن تقطنّ في الشارع ذاته، ما أن ترفع صوتها منادية على أحد أفراد الأسرة، حتى يُفتح باب أو نافذة ويطل منها أحد أولادها أو أولاد جيرانها. تأتي النسوة لاختيار الخضار، تثرثرن مع بعضهن، تفحن أحاديث تجعل من التسوق حالة بطيئة لامنتهية، طقساً هو أكثر من حالة شراء الخضار. ثمة من تعبرن فقط، يستوقفهنّ البائع، أو تقفن لوحدهن بحكم الجيرة والتاريخ الطويل، يقدم لهن ثمرة خوخ أو كرز، تتذوقها السيدة، تثرثر مع البائع، مع النساء داخل الدكان، تتابع طريقها.
بينما أنا مستمتعة باستعادة طقس لا يمكن حدوثه إلا في حي شعبي في بلد عربي، تنبّه إليّ القصاب الذي يقع محله على الزاوية المقابلة لمنزل غادة، وفي الشارع الممتد لبائع الخضار.
ترك القصاب الشاب الوسيم محله، ووقف قبالتي من أمام المحل، ولكنني تجاهلته دون افتعال، فكل ما يهمني تسجيل هذه اللحظات الحميمية في ذاكرتي، تفاصيل النساء، ملابسهن، دقتهن في انتقاء الخضار والفاكهة، تواصلهن مع بعضهن، ثرثرتهن العابرة...
القصاب الوسيم، لا أعرف ما الذي أثاره فيّ، أشعرَ باستغرابي فأثار فضوله؟ أوصلته غربتي المتأرجحة، بين حنين عارم للشرق، وتأمّل للتفاصيل وكأنني لم أكن يوماً في بلد عربي؟لا أعرف، إلاّ أنه راقبني طيلة مراقبتي للشارع. كنا بمثابة وعائين مستطرقين، أحدهما في داخل الآخر. كنت مستغرقة بدهشة ومتعة بتأمل تفاصيل كل ما تلتقطه عينيّ وتسجيله في ذاكرتي، كما لو كنتُ سائحة غربية مندهشة، وفي الوقت ذاته، أشعر بنظراته مثبتة عليّ، تقع عينيّ أحيانا عليه، وأنا أنقّل نظراتي، بنهم متتبّعة تفاصيل المارة. لم تفارقني نظراته. لم يكن الأمر مجرد رجل ينظر إلى امرأة. أعتقد أنه شعر بتتبّعي الطفولي لمشهد الحارة. كنت أشعر أنني في فيلم عربي في أحد الأحياء الشعبية، لا بد أن القصاب الشاب، ولعدم ازدحام محله بالزبائن، تمكن من الحدس أن ثمة ما بداخلي، مندهش ومستمتع.
في الوقت الذي لم يتوقف فيه عن النظر إليّ، وفي وقت تأخرت نظراتي عن الدوران، وأنا مركّزة على حوار النساء الحركي، إذ لم أكن أسمع ما يقلن، بل أتتبع حركاتهن فأخمّن ما يدور بينهن، يبدو أن الشاب سأم من تجاهلي له... حاولت رصد تنوع الشارع، إذ تمر صبية ترتدي بنطالاً ضيقاً، وقميصاً شفافاً، ولا تضع غطاء رأس، ثم تتبعها أخرى، في عمرها، أو أصغر، أو أكبر، ترتدي ملابس طويلة شديدة الاحتشام.. وأنا بطبيعتي أحب التنوع.. لا أحب المشهد الوحيد المتشابه المتكرر.. بغتة، رأيت الشاب على الرصيف المقابل لبيت غادة. كان قد ترك محله، واقترب أكثر إذ لم تعد تفصله عن بناية غادة سوى خطوات. في لحظة ما، شعرت بسخافة اللعبة، إذ استمتعت بأن ثمة من يراني، ويرقب مراقبتي، ويندهش لدهشتي، أما أن يحاول إذابة المسافة بيننا، والاقتراب أكثر، وتعريضي لحرج أن يتحدث إليّ، فأردّ مرغمة، بحكم انفتاحي، حيث تعلمتُ من الغرب، ولا اعرف إن كان هذا سائداً في بعض المناطق الشرقية، من باب اللباقة الاجتماعية، أن يجيب أي شخص على سؤال الآخر، أو يرد على تحيته، إذ لا تعتبر جنس المرأة حاجزاً يحجب قواعد اللطف.
لم أكن قد تبرّمت بعد، حين رأيت غادة تدخل الشارع وتلوح لي بيدها. كادت تفرط من الضحك وهي تعلّق على حديثي والشاب القصاب قائلة بأنه مهذب جداً، ولم يسبق له أن نظر يوماً إلى امرأة بطريقة غير مهذبة.
كان إحساسي في حي غادة ممتزجاً بالغرابة، التي لم أستطع فهمها حتى اليوم. إذ ثمة مشاهد ومواقف تتقاطع مع أجزاء في ذاكرتي مع مدينة حلب السورية، حيث وُلدتُ ونشأتُ، فأخلص إلى نتيجة أن جميع المدن العربية تتشابه، وفي الوقت ذاته، كان لديّ ما يشبه اندهاش المرة الأولى. يبدو أن غيابي، وإن لم يكن طويلاً جداً، قد أصاب ذاكرتي ببعض العطب، ففرّت تفاصيل الشرق، وجلست محلها، تفاصيلي اليومية في فرنسا، الأمر الذي أشعرني في مواقف ما، أن هذا يحدث للمرة الأولى.
أهم مافي تلك التفاصيل، الألفة والتلقائية.
في الغرب، ثمة حواجز لامرئية، تسمى الحذر. لا أحد يتحدث إن لم يكن متأكداً مما لديه، ليس هناك حديث فائض، أو لغو،أو كلام لمجرد فتح الكلام.
السائق الذي قال لي:" لستِ لبنانية؟"، وهو يلتقط لهجتي. أجبته"لا"، فقال:" من أين إذن؟". أجبته بعبارته الأولى ذاتها:" لستُ لبنانية". هذه التلقائية والرغبة في معرفة الآخر، وكسر الحواجز، غير مرحّب به في الغرب. يستطيع الفرنسي أن يجيب ببساطة"ولماذا تسألني؟"، أو بأية إجابة مشابهة، لاستهجان السؤال، وثمة أجانب كُثر يعيشون في فرنسا، قد يستسيغون السؤال، ويعتبرونه مدخلاً إلى الثرثرة. ولكن الثرثرة هذه، ليست من ضمن الثقافة الفرنسية مع الأغراب.. على الأغلب هي نتاج أجنبي، بسبب وجود الأجانب.
سائق آخر، راح يحدثني عن ملله الزوجي، الأمر الذي أدهشني. من الصعب، ولأقل من النادر جداً، أن يفتح أي سائق سيارة أجرة، حديثا مع زبونه. معظم السائقين، يضعون "الهيدفون" في آذانهم، ويسمعون الموسيقا، دون أن يتحدثوا إلى الراكب. يضع كل منهم الـ جي بي إس، يسجل العنوان، ينطلق دون أي كلمة، حتى تتوقف السيارة، ويدفع الراكب أجرته، وينزل. بونجور وميرسي، هما الكلمتان اليتيمتان اللتان تجريان بين السائق والراكب.
كنت أنوس إذن ، بين ذاكرتي القديمة، وبين الحياة التي أعيشها في الغرب. احتفيتُ بـ"الفوّال" بطريقة أدهشته، كنت أرى محله بعيون أصدقائي الفرنسيين، رحتُ ألتقط الصور لقدور الفول الهائلة الحجم، ولأطباق الفول.نستطيع أن نعثر على الفول في المعلبات، أما "الفوال" كمكان بهذا التخصص والتخصيص، فأمرٌ محال.
كل شيء في حارة غادة كان يدهشني ويمتعني. صخب الشارع، حين أعود مرهقة، فأحلم بقليولة صغيرة، وإذ تنقطع الكهرباء، وهذه من مفاجآت الشرق التي نسيتها، أضطر لفتح باب الشرفة، بحثاً عن بعض الهواء... أسمع صراخ الباعة المتجولين، مكبرات الصوت التي تعلن عن نشاطات دينية أو سياسية، مزامير السيارات... أشعر وأنا في السرير، حين أغمض عينيّ، أن الشارع يدخل إلى الغرفة، وكأن الشارع داخل بيت غادة، وكأن السرير منتصب، وسط الشارع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.