المحور هو المرأة، في مجتمع ذكوريته متجذّرة كما الجريمة، تحكم وثاقه أربعة
"خيوط" أساسية: الأحداث الراهنة، والأساطير، والأمثال الشعبية، والمعتقدات
المتوارثة.
المحور هو المجتمع، بعنفه الدامي واللفظي، المشتهى والقسري، وتأقلم المجتمع مع عنفه هذا.
في مسرحية "خيط حرير" للمخرجة مايا زبيب وفرقة "زقاق"، التي تعرض راهناً في طوابق مبنى "زيكو هاوس"، ضحكٌ يليه ترقّب، فأسطورةٌ يليها دم، والدم يقودنا بين القصص، والنص يقطع النفس، كلامه كثيرٌ ومتنوّع: موزون على القافية،
محكي كما المفاجأة، معروف كشرب الماء، خيالي كما الشعوذة، مشعوذ حدّ الإضحاك، ضحكٌ يرافق الجريمة، جريمة تتكاثر ولا تصبح معتادة، وإنما تصبح جارةً، نتعايش معها، كمقابر يسكنها أحياء مخفيون قسراً لا يختفون، كهياكل عظمية تؤخذ عنوة في جولات لهو في الساحات.
ثلاث راهبات يستقبلن أربعين متفرّجاً في حديقة المبنى، يعلّقن ملابس داخلية ويستعدن القصة. يشعن جواً من المرح، يلتقطه منهن رجلان بمعطفين أبيضين: خبيران جنائيان أو ممرضان، يقوداننا عبر الأدلة، والسرديات، والخيوط المضيئة، والحبال. وقبل "الدخول" إلى القصة، تستقبلنا إمرأة برداء أحمر أنيق، تدخن سيجارتها وتحتسي كأسها على بار، نراها صورةً جذّابة قبل أن نخترق الهيكل الذي تقوم عليه.. هيكل مَرَضي يُحمى اجتماعياً كأنه القدر.
قصص واقعية، من جريمة كترمايا إلى فنانة اغتصبها سائق شاحنة وقتلها.
أساطير عامة، من صاحب اللحية الزرقاء الذي يقتل نساءه، إلى أميرة نائمة تنتظر أميراً، فعذراء لم تقلق طهارتها حبّة فاصوليا.
معتقدات ترويها عدّيات و"رقيّات"، تتكرر بإيقاع يلغي الهدوء، مخدّر، مغنطيسيّ التأثير، محفّز على الإدمان، يهجس به العقل، حتى يستسلم لحركته.
وتأتي الأمثال الشعبية لتمنح القصص كلها "مصداقية التجربة"، على اعتبار إنها ليست أفكاراً تُفرض، وإنما نتائج لتجارب حياتية تثبتها، فتحكم إقفال المخارج من القصص، ومن تلك المنظومة المجتمعية.
خمسة ممثلين بارعين كالسحر (دانيا حمود، ولميا أبي عازار، وجنيد سري الدين، وهاشم عدنان، ومايا زبيب)، يدخلون في شخصية ويخرجون من أخرى، وجوههم وملابسهم وأمزجتهم تتغير، قصصهم تترابط، في نص بدأ قبل أن يعلن بدايته، ولم ينته عند إعلان نهايته. حول العيش في قرية كفرجهل التي نعرفها، كُتب نصٌ لا مكان للملل فيه، ويقود سامعه بالتكرار والابتكار من غرفة إلى أخرى، من طابق إلى آخر.. فهو "خيط الحرير" المتين، الذي يحكم وثاقه حول المرء في بيت تكثر أبوابه، حتى تضيع خريطته من الرأس، فيقف المتفرج في صلب عرضٍ مشدوداً، يريد المزيد ويخشاه. وعندما يتحرر المتفرج من جغرافيا المكان ومن غموض القصص، يسكنه إحساسٌ مقلق: فهو يحيا معلّقاً على خيطان شبكة العنكبوت هذه.
ويأتي العرض على عدّة مستويات، يؤمن لكل مستوى تفكير مادةً يعاينها، ليس شعبياً صرفاً ولا هو نخبوي بحت، وهو بذلك يعكس مضمونه: مجتمع بأكمله حاضر هنا، فلتكن مستوياته الثقافية كلها هنا.
في تلك الحديقة، حيث يسود ضوءٌ أزرق مثلج هادئ، تتحرّك أجساد الأربعين متفرّجاً، بين أجزاءٍ من أجسادٍ تتحرّك على شاشتين تطلّان من نافذتي غرفة أخرى. هي أجزاء لوحات لكارافاجيو وجنتيليسكي وكالو، أعيد تقديمها بعد تقطيع عناصرها. حركة اليد بالسكين، الكف التي تلتقط النهد، رأس الجنين الذي يخرج من الرحم، ... وقد استعاد الممثلون وضعيات شخوص اللوحات، وتقطّعت صورهم بالأسلوب ذاته، بحيث تتداخل اللوحة مع أحياء يجسّدونها، ويتداخل العرض مع تاريخ فني اجتماعي يستكمله.
وليحكم وثاق القصة، ينتهي العرض بتقديم المشروب والمأكول للزوار، كضيوفٍ في البيت، يُستقبلون بالأهلاً والسهلاً، ويودّعون بالضيافة عند الباب.. أما البيت فأسسه تقوم على جريمة، إن وقعت فلن تُنسى، وقد وقعت فباتت مؤسِّسة.
سحر مندور
السفير اللبنانية
المحور هو المجتمع، بعنفه الدامي واللفظي، المشتهى والقسري، وتأقلم المجتمع مع عنفه هذا.
في مسرحية "خيط حرير" للمخرجة مايا زبيب وفرقة "زقاق"، التي تعرض راهناً في طوابق مبنى "زيكو هاوس"، ضحكٌ يليه ترقّب، فأسطورةٌ يليها دم، والدم يقودنا بين القصص، والنص يقطع النفس، كلامه كثيرٌ ومتنوّع: موزون على القافية،
محكي كما المفاجأة، معروف كشرب الماء، خيالي كما الشعوذة، مشعوذ حدّ الإضحاك، ضحكٌ يرافق الجريمة، جريمة تتكاثر ولا تصبح معتادة، وإنما تصبح جارةً، نتعايش معها، كمقابر يسكنها أحياء مخفيون قسراً لا يختفون، كهياكل عظمية تؤخذ عنوة في جولات لهو في الساحات.
ثلاث راهبات يستقبلن أربعين متفرّجاً في حديقة المبنى، يعلّقن ملابس داخلية ويستعدن القصة. يشعن جواً من المرح، يلتقطه منهن رجلان بمعطفين أبيضين: خبيران جنائيان أو ممرضان، يقوداننا عبر الأدلة، والسرديات، والخيوط المضيئة، والحبال. وقبل "الدخول" إلى القصة، تستقبلنا إمرأة برداء أحمر أنيق، تدخن سيجارتها وتحتسي كأسها على بار، نراها صورةً جذّابة قبل أن نخترق الهيكل الذي تقوم عليه.. هيكل مَرَضي يُحمى اجتماعياً كأنه القدر.
قصص واقعية، من جريمة كترمايا إلى فنانة اغتصبها سائق شاحنة وقتلها.
أساطير عامة، من صاحب اللحية الزرقاء الذي يقتل نساءه، إلى أميرة نائمة تنتظر أميراً، فعذراء لم تقلق طهارتها حبّة فاصوليا.
معتقدات ترويها عدّيات و"رقيّات"، تتكرر بإيقاع يلغي الهدوء، مخدّر، مغنطيسيّ التأثير، محفّز على الإدمان، يهجس به العقل، حتى يستسلم لحركته.
وتأتي الأمثال الشعبية لتمنح القصص كلها "مصداقية التجربة"، على اعتبار إنها ليست أفكاراً تُفرض، وإنما نتائج لتجارب حياتية تثبتها، فتحكم إقفال المخارج من القصص، ومن تلك المنظومة المجتمعية.
خمسة ممثلين بارعين كالسحر (دانيا حمود، ولميا أبي عازار، وجنيد سري الدين، وهاشم عدنان، ومايا زبيب)، يدخلون في شخصية ويخرجون من أخرى، وجوههم وملابسهم وأمزجتهم تتغير، قصصهم تترابط، في نص بدأ قبل أن يعلن بدايته، ولم ينته عند إعلان نهايته. حول العيش في قرية كفرجهل التي نعرفها، كُتب نصٌ لا مكان للملل فيه، ويقود سامعه بالتكرار والابتكار من غرفة إلى أخرى، من طابق إلى آخر.. فهو "خيط الحرير" المتين، الذي يحكم وثاقه حول المرء في بيت تكثر أبوابه، حتى تضيع خريطته من الرأس، فيقف المتفرج في صلب عرضٍ مشدوداً، يريد المزيد ويخشاه. وعندما يتحرر المتفرج من جغرافيا المكان ومن غموض القصص، يسكنه إحساسٌ مقلق: فهو يحيا معلّقاً على خيطان شبكة العنكبوت هذه.
ويأتي العرض على عدّة مستويات، يؤمن لكل مستوى تفكير مادةً يعاينها، ليس شعبياً صرفاً ولا هو نخبوي بحت، وهو بذلك يعكس مضمونه: مجتمع بأكمله حاضر هنا، فلتكن مستوياته الثقافية كلها هنا.
في تلك الحديقة، حيث يسود ضوءٌ أزرق مثلج هادئ، تتحرّك أجساد الأربعين متفرّجاً، بين أجزاءٍ من أجسادٍ تتحرّك على شاشتين تطلّان من نافذتي غرفة أخرى. هي أجزاء لوحات لكارافاجيو وجنتيليسكي وكالو، أعيد تقديمها بعد تقطيع عناصرها. حركة اليد بالسكين، الكف التي تلتقط النهد، رأس الجنين الذي يخرج من الرحم، ... وقد استعاد الممثلون وضعيات شخوص اللوحات، وتقطّعت صورهم بالأسلوب ذاته، بحيث تتداخل اللوحة مع أحياء يجسّدونها، ويتداخل العرض مع تاريخ فني اجتماعي يستكمله.
وليحكم وثاق القصة، ينتهي العرض بتقديم المشروب والمأكول للزوار، كضيوفٍ في البيت، يُستقبلون بالأهلاً والسهلاً، ويودّعون بالضيافة عند الباب.. أما البيت فأسسه تقوم على جريمة، إن وقعت فلن تُنسى، وقد وقعت فباتت مؤسِّسة.
سحر مندور
السفير اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.