أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

فتنة الحكي (شهادة) || سارة كرم*


لم يكن أكثر ما فتنني في العالم حين كنت طفلة عروستي هايدي من القطن، التي طرزت لها أمي فستانًا جميلاً بشكل لا يصدق من أقمشة فساتين الزفاف بحجمٍ صغير يناسب جسدها، والتي كنت أحبها كثيرًا جدًا. ولا صديقاتي الثلاث الرائعات اللواتي ما زلت وفية لذكراهن إلى اليوم.  لم يكن أي شيءٍ آخر قد فتنني في العالم أكثر من قصة "أرنوب وثعلوب"، وبخاصة تلك اللحظة المفصلية (الذروة) التي يقوم فيها ثعلوب باستغلال نوم عائلة أرنوب بأكملها ليمسك المغرفة ويغرف قطع اللحم والمرق من القِدر (رغم ان الأرانب لا تأكل اللحم؛ هكذا أراد الخيال المثير للقاص، وقد صدقته حينها) كانت أكثر اللحظات فتنة على الإطلاق في طفولتي كلها وربما في حياتي!. كانت أول قصة أقرؤها، في عمر السابعة، وكنت مفتونة بشكل لا يصدق، إلى درجة ما زالت معها لذة هذه الفتنة تعود إليَّ، يتسرب منها شيءٌ إلى روحي كلما تذكرتها.

 ثمة فتنة أخرى تقل قليلاً عن الأولى، لكنها تظلُ فتنةً شديدة، وتأتي في المرحلة التالية مباشرة.. في عمر السادسة، عندما كنت أندس وسط المراهقات في الحديقة العامة لأستمع إلى حكاياتهن المشوقة، لحظات الصراع الفاصلة مع الكبار، المخاوف والآمال.. تاركة صديقاتي الثلاث الصغيرات مثلي يتذمرن وحيداتٍ بدوني.
لا شك أنَّ كل كتاب القصة والرواية في العالم يولدون وفي داخلهم جينات الحكي، الأمر الذي يظهر في طفولتهم إمّا في صورة شغفٍ مبكر بتأليف القصص المكتوبة، وربما تلفيق الأكاذيب الشفوية في حياتهم الصغيرة، أو في صورة عشق قراءتها والاستماع إليها أكثر من الأطفال الآخرين.
وأنا اليوم  وقد تخطيت سن الرشد بأربع سنوات، أدرك جيدًا أني مثل كثيرين من الكتاب؛ صاحبة مزاج غريب ومختلف.. امرأة لا تحب المجوهرات ولا الرقص، لكنها تحب تأليف القصص. لن يفتنها أبدًا عقدٌ ثمين وخلاب من الألماس مثلما سيفتنها كتابٌ يعجبها؛ سيتضاءل العقد أمام الكتاب الجميل كقزمٍ منحنٍ أمام عملاق، ولن تضيّع وقتها أبدًا في تعلم شيء لا تحبه كالرقص مثلما ستضيع وقتها في ممارسة الكتابة، قراءة رواية لفلان ورواية لعلانة.
ولأنَّ الكتاب كائنات مختلفة، فإنهم دائمًا وحيدون، يعيش الكاتب ويموت وحيدًا مهما تعددت علاقاته مع الآخرين حتى مع أمثاله من الكتاب، ويبدو الأمر كما لو أنّ هناك ميلاً فطريًا لدى الكاتب إلى العزلة المحببة.  والشعور بالوحدة، الذي قد يكون أحيانًا سارًا ومثمرًا، وفي أحيانٍ أخرى قد يكون مريرًا للغاية، وأيّاً كان الأمر فالكاتب كائن مبدع ووحيد. الكاتب إنسان اكتشف مثل الآخرين أن العالم حكاية، وحده آمن أنها تستحق أن تُروَى، فكرّس حياته لهذا الغرض..


* أديبة من مصر/ الزقازيق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية