بين فلسطين وأذربيجان عشرات الآلاف من الأميال، وبينهما فسيفساء معقّدة متنافرة من الثقافات واللغات والحضارات والتواريخ. ولكنّ هذا التباعد انقلب إلى حلقة اتصال واحدة حيّة انطلقت ذات يوم من شواطئ المتوسط، فقطعت "قوس الإسلام التاريخي" في قلب آسيا، وتوقفت في باكو على شواطئ بحر قزوين، على ما ينبيء بذلك تقرير نشره موقع "الجزيرة نت".
كان الأديب والفيلسوف والعلاّمة والمؤرّخ الفلسطيني بندلي صليبا الجوزي (1871ـ1942) هو الرحّالة الذي اختزل التباعد وأقام الصلة، وكان التراث الإسلامي والعربي هو محتوى هذه الرحلة الاستثنائية.
وثمة أقدار عجيبة هنا، يتابع التقرير، فلقد ولد الجوزي في القدس لأسرة مسيحية أرثوذكسية، وتلقى تعليمه الأول في مدارس مسيحية (كلية «دير المصلبة» في القدس، ثم مدرسة "كفتين" الأرثوذكسية في طرابلس)، ثم أُرسل إلى موسكو عام 1891 لكي يدرس اللاهوت ويعود إلى بلاده وأهله كاهناً.
بعد 18 عاماً سيعود بندلي إلى فلسطين بالفعل، ولكن ليس في مسوح الكاهن، بل في ثياب الأستاذ الجامعي الذي يقود فريقاً من الطلبة الروس القادمين للقيام بدراسات ميدانية في تاريخ الشرق الأوسط القديم والإسلام.
عاش (بندلي) غريباً في بلاد بعيدة، ولعل ارثوذكسيته، على ما يرى صقر أبو فخر، ساهمت في تلطيف أوجاع الغربة، لكنه ما كاد ينال درجة الأستاذية في بلاد الموسكوب حتى وقعت ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1917، فعاش غربة مزدوجة في إطار النظام الشيوعي الجديد، ولا سيما أنه لم يكن شيوعياً بل ليبرالي التفكير وأرثوذكسي العقيدة. و"لهذا لم يتمكن من التلاؤم كثيراً مع الأفكار الاشتراكية إلا في سياق فكرة العدالة الاجتماعية، وفي ميدان التخلص من اللاهوت التقليدي، وإخضاع الروايات الدينية للنقد التاريخي".
لمع نجم الجوزي في النصف الأول من القرن العشرين كعلم من أعلام الاستشراق واللغات السامية في روسيا، واشتهر كمؤرخ عربي كبير، وباحث لغوي تولى كرسي العربية في جامعة قازان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى .
وفي أثناء وجوده في القدس سنة 1928 أصدر كتابه "من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام"، وكان له فيه فضل الريادة في النظر إلى التاريخ الاسلامي على ضوء التفسير المادي للتاريخ ضمن مقاربات ثورية في المحتوى والمنهج.
وفي هذا الكتاب، رسم الجوزي صورة شاملة مركبة للتواريخ الاجتماعية والاقتصادية الأسطورية والرمزية وراء التاريخ الفكري التقليدي، لكي يرى حركة المجتمع وتصارع الجماعات وراء مختلف ظواهر التراث الإسلامي والعربي، بدءاً بالمذاهب والفِرَق والحركات السرية، وانتهاء بالنصوص الدينية والمصادر التاريخية.
وفي مقدمة الطبعة الثانية للكتاب التي صدرت 1981 كتب حسين مروة تحت عنوان "هكذا نقرأ بندلي الجوزي":
"أما القول عن بندلي الجوزي، إنه رائد في حقل الدراسات التراثية العربية – الإسلامية، فذلك أصبح مألوف القول عندنا، بل يكاد يكون من بديهياته.. على أن عناصر الريادة في عمل بندلي الجوزي متعددة، فهي لا تقتصر على اقتحام التراث بقراءة منهجية، مادية، تاريخية، بل تضيف إلى ذلك عنصرين يزيدان هذا العمل قيمة تاريخية بالغة الأهمية، هما:
أولاً: إن بندلي ينطلق منهجياً من وعي علمي لارتباط حركة تطور المجتمع العربي – الإسلامي بالقوانين العامة الموضوعية ذاتها التي ترتبط بها حركة تطور المجتمع البشري ككل، مع إدراكه أهمية الخصائص التاريخية التي تميز مصداقية تلك القوانين في المجتمع العربي- الإسلامي.
أما العنصر الثاني من العنصرين الإضافيين في ريادة الرجل، كما يتابع مروة، فهو سبقه إيانا نحو نصف قرن، إلى كشف المنطق الفكري للمنهج البرجوازي الغربي في دراسته تراثنا الفكري، وتحديد هذا المنطق بكونه ينكر شموليته القوانين العامة الموضوعية لحركة تطور المجتمع البشري، أي كونه ينكر خضوع المجتمع العربي – الإسلامي لتلك القوانين ويفتعل قوانين خاصة لهذا المجتمع "الخاص" تحكمه، بمعزل عن القوانين العامة لتلك.
في الكتاب ذاته، الذي أثار صدى واسعاً، يتصدى الجوزي للمستشرقين الغربيين الذين تخبطوا خبط شواء وتجنوا على العرب والشرق، وبينّ لهم قصر نظرهم وتعصبهم.
يقول في مقدمة الكتاب: "إن هؤلاء المؤرخين ويذكر نيبسور( (Niebhur ورانكه (Ranke) وشلوسر (Schlosser) بنو أحكامهم ونظرياتهم على تاريخ الغرب وحده، إذ لم يكونوا يعرفون من تاريخ الشرق، إلا الشيء اليسير، وسهل علينا والحالة هذه أن ندرك مقداراً ما في أقوال مؤرخي الغرب عن الشرق وتاريخه من الغرابة والطيش، فهل طيش أكبر من أن يقول أحدهم (إنه لم يكن ولن يكون للأمم الشرقية تاريخ بمعنى هذه الكلمة، المعروف بين علماء أوروبا، وأن أساليب البحث التاريخي التي وضعها علماء الغرب لا يمكن أن تطبق على تاريخ الشرق). وأية غرابة، أو بالحري أي جهل أعظم من أن يقال: "إن العوامل المؤثرة في تاريخ الأمم الأوروبية، والنواميس العمومية الفاعلة في حياتهم الاجتماعية، هي غير العوامل والنواميس العاملة في تاريخ الأمم الشرقية وحياتهم وثقافتهم".
ويعلق على هذه الاستنتاجات المتعسفة: لو صدرت هذه الأفكار الغربية من مؤرخي الأجيال الوسطى، أو لو صدرت عن أناس عرفوا بالتعصب الديني أو القومي والأغراض السياسية والاستعمارية، لكان لهم في الجهل والتعصب عذر، أما وقد صدرت، ولا تزال أحياناً تصدر، عن فئة من العلماء ومؤرخي القرن التاسع عشر بل العشرين، فأي عذر لهم؟
ورغم امتداح الدكتور ناصر الدين الأسد للجوزي وقوله إنه "كان من كبار علماء اللغات والتاريخ، ومؤلفاته تدل على صبر وجلد على جمع النصوص والروايات وتتبعها واستقصائها" إلا أنه ينتقده، ويتهمه بأنه "حين يكتب عن العرب والمسلمين، كان يميل مع الهوى، وينحو نحواً أبعد ما يكون من التجرد للعلم".
كان لموت ابنته ألكسندرا في سنة 1931 اثر كبير في حياة بندلي الجوزي، ففقد هناءة العيش ومتعة العمل. ثم أصابته الخيبة في النظام السوفياتي نفسه بعد اندلاع الصراع المكشوف بين ستالين وتروتسكي في منتصف عشرينيات القرن العشرين. وكانت ثالثة الأثافي هي سوقه إلى السجن في سنة 1941 بتهمة التجسس للانكليز. ومع أنه خرج بريئاً بعد سنة، إلا أن آلامه كانت كبيرة، ولم يلبث ان توفي في سنة 1942 ليدفن غريباً في بلاد بعيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.