هجر
الزمان إلى أرض الأحلام، عبر حدود الآلهة، عانق الأساطير، وصنع طائرةً من
ورق حملت كل حكايات الأجداد التي زرعوها في قلوبنا وعقولنا.. مشافهةً.
هي الرواية قديماً وحديثاً تستطيع أن تشكل عالماً وفضاءً يطوف بك عبر حمالك وعصور تعيد برمجة وتكوين الحياة.
وهذه
الطائرة دون الكاتب عليها ملايين الرسائل لكل إنسان يفتّش عن الحقيقة ليصل
إليها ويسجل موقفاً ما يكون من خلاله قد صنع ووجد إنساناً عظيماً يرفض
السير إلى الوراء.
ويأبى
تلك النظارة السوداء التي أجبر على وضعها فوق أرنبة أنفه، ويخطو ليسبق ركب
من وضعونا في قوقعة الجهل والظلام بعد رميها في عمق البحار..
..
لقد أعدت قراءة كل حدث مرات ومرات.. وبدأت أصارع الحقيقة بالخيال فوجدت أن
من سطر هذا التاريخ أخرجنا من عالم الفوضى إلى عالم تهذيب النفس والخلق.
جعلنا نرصف الكلمات في عقلنا لنحاكي بها الزمن وندون حكايات تصل الماضي
بالحاضر عبر جسر ينسج من نزيفنا المستمر لنصل إلى الحقيقة ونجسدها في رفضنا
لكل من يحاول أن يقهر الكلمة داخلنا ويغتالها، فمن يغتل الكلمات يغتل
التاريخ ويغتل أصل التكوين ورحلات الأجداد حيث كنا ندور حلقة قوية ودافئة
نستمع إلى تفصيلاتهم وحكاياتهم.
في كل ما سبق كنت أشعر أنني أعوم في أمواج حلم تمنيت أن يطول لأكتشف المزيد.. مما أراد أ، يسلك ضمائرنا من خلال الكاتب.
و”جسر
بنات يعقوب” أسطورة لا تقل أهمية عن أي سفر من أسفار هذا الكون والذي من
خلاله يصور تحول الأرض والمفاهيم الجغرافية والطبيعة والقيم وتطور المكان
والزمان والإنسان..
هي تلك الحقيقة التي غاصت بين الصخور وذرات الهواء. لتصل رئتنا نتنفسها بألم ولا نستطيع زفرها.
هي
الروح اتحدت عبر حلم أخذني إلى ذاك العالم وبنفس التاري.. وها أنا أطوف
بين الجسر والدير والرهبان وحنا المحرم أتنقل بين الراهبات الثلاث ماريا..
وصفية ومرجانه
والتي كانت كل واحدة قصة منفردة بحد ذاتها.. أعبر ردهات الدير.. ألف الأشجار المحيطة به أغتسل بماء النهر.
وأتخيل جلسة كل واحدة على كرسي الاعتراف أمام الهيكل تغتسل روحها تطهر بصرها وتتخلص من قذارة الماضي.
(لم
أستطع أن أطفئ حنيني إليه بالصلوات الكثيرة، فهو معي يجري في دمي.. أخاف
إذا ما أتى مرة ثانية إلى هذا الدير المقدس أن أحل ثوبي له مرة أخرى).
وهذا
كان حال ماريا في كل اعتراف قبل رحيلها عن الدير وعلى نفس السيات من
الحياة ومقارنة الماضي بالحاضر تبقى القرية والدير والرهبان من أنقى وأجمل
الأماكن لولا ذاك التحول الخطير الذي هاجم القرية الهادئة الجميلة إنه قدوم
ذاك الغريب مع بناته (يعقوب).
يعقوب القادم بالكثير والذي تشابكت بجسده ملايين الجراثيم والتي كان أملها أن نجد الأرض والمكان المناسب لتتكاثر وتتوالد.
هو
كأي قادم جديد يحمل الاستجداء والاستعطاف ليكسب ثروة ومالاً وبشتى الطرق
التي حللها لنفسه بتعاطف كل من التقاه نتيجة خديعته ودجله، المنتشر منذ
اليوم الأول لوصوله دون أن يشعر أحد بذلك.
(لم يكن وصول يعقوب وبناته قرية الشماصنه لافتاً للانتباه! لقد بدا لمن رآه هو وبناته رجلاً يجر خلفه أحزانه).
وبدا
التحول السريع في الأحداث فهو يريد مباركة الرب لتلك الإقامة ومباركة الصك
المعطى من قبل السلطات للاستيلاء على الجسر.. والمستعد للتضحية بأي شيء
لتطيب إقامته بمباركة الرب(بدت أولى حلقات لفت الانتباه عندما جلس على
ركبتيه بين بناته قبالة بيته الجديد مسبل اليدين ناشف الوجه ثابتاً لا
يتحرك وحين سألته ما به قال بهدوء عجيب تطهرتن يا بناتي)..
لم
أكن للحظة وأن أطوف حالمة عبر الصور والكلمات والسطور أتخيل تلك الدقة في
وصف الأماكن ترتيبها وهندستها وسم الأشخاص بكل تعابيرها الدقيقة وملامحها
وخلاياها المتناثرة بين أوراق الرواية لأجد أنني أمام صورة حية قد تحاكيني
وأحاكيها ترى أي مخيلة وضاءة تزدحم بالوصف الجميل والرائع والدقيق لكل حدث
وشخص.
(
لكم تمنت كل واحدة منهن لو كان بمقدورها دون أن تؤذي مشاعر سليمان عطاره
لو تمسح لعابه السائل من زاوية فمه اليمنى إلى أسفل ذقنه والذي يبدو كمجرى
ماء صغير مع صفحته وسط شعيرات ذقنه النابتة فوق وجهه الأحمر الذي بدا كأنه
دعك دعكاً شديداً للتو).
بدا
لي الكاتب كأي فنان يبدأ بصف أفكاره لإنجاز لوحة ما وأفاق على حقيقة واضحة
بأنه رسم صور رائعة من خلال لوحات كثيرة في وصف جغرافيا الجسد بكل إتقان.
(بدت
الأختان في عمر واحد وكأنهما توأمان طولهما زينه، بوجهين مدورين أبيض وشعر
كستنائي. وآخر أسود لكل منهما غمازتان تأخذان من القلب غصة) (كانتا
ممتلئتين وكأنهما تتواريان مملوءان بالحجر المدهش).
فمن أبدع هذا الوصف سيبدع في دخولنا عالم الحقيقة الذي نبحث عنه.
أي
فضاء يملك الكاتب؟ لتتشابك خيوط أعصابه وتلافيفه داخل رأسه لتحلق مع ما
طرحه علينا من أفكار وتوضيحات تصلح لأن تكون مرجعاً تاريخياً لأصل التواجد
اليهودي على أرضنا العربية.
وأي
عدسة حملها الكاتب وطاف بها على هذا التاريخ القرن الثالث عشر ميلادي
لتخدم جغرافية المكان والزمان وتتحد مع فصول الرواية فصلاً.. فصلاً في وحدة
جغرافية ترسم حدود الماضي وتزحف بنا إلى الحاضر وتشكل مزيجاً من عواصف
تلتقي مع بركان داخلي يؤجج الرفض داخلياًّ ورفض لكل ما هو قادم عن طريق
الغرب مدنساً أرضنا الطاهرة. رفض كل التشويش والذي حاول من حاول لتغير
قناعتنا (بعد موت يعقوب، انطلقت بناته في غرف الخان، كل واحدة تبني مشروعها
الخاص، كن يركضن في المقبرة ويبكين بصمت شديد أولادهن الذي لم يركضوا فوق
الجسر).
وهذه
هي حال أي يهودي قادم يزرع الدنس ويستولي على الأرض بالحيلة والخديعة.. لن
يهنأ يوماً بالتمتع في هذه الأرض والتي عاث فيها دنساً وقذارةً، الأرض هي
تلفظه، وتتقيؤه لتبقى نظيفة نقية.
إذاً فهذا البركان الخامد كان ينتظر تدفق حممٍ وفتيل ٍضئيلٍ يوقدها.
الكاتب
حسن حميد: لا أبالغ إذا قلت إن ” جسر بنات يعقوب” هو ذلك الممر الطويل
جداً الذي عبر داخلي.. وتولّدت تلك الحقيقة التي كانت نائمة داخلنا وتفجّر
بعضاً من أهدافها وشروطها.
إن
الرواية كنص تملك فيضاً من الشاعرية والرمزية التي أضفت على المكان
والزمان شخصية مميّزة.. فكل شخصية رسمها الكاتب بقلمه هي امتداد لما نحن
عليه اليوم من العجوز الطويلة الناحلة.
إلى
يعقوب وبناته و رحمون وعثمان وسابقاً الدير والرهبان هي الصورة الحقيقية
لما نحن عليه اليوم كواقع عربي، يتأرجح على خشبة فوق سطح ماء بين دول الغرب
وأمريكا.
لعل
الكاتب حسن حميد وبكل إصرار والواضح من خلال تفاصيل الرواية يقول إن هذه
الأرض هي عربية حتى الموت وطاهرة حتى آخر نقطة دم موجودة فيها وماؤها
وهواؤها وشمسها خلقت من روح الملائكة.
“في
أعالي الجبل شجر، المطل على قرية الشماصنة كانت هامة الدير العتيق.كان
الجبل غابة داكنة الخضرة. تآخت الطيور فيها، كثرت الأعشاش، تجاوزت الزهور
والأشواك.
هذا
الوصف الرائع لتلك الأرض الطيبة والتي هي جثة للناس الذين يستحقون أن
يعيشوا فيها ليزيدوها.. جفافاً وخضرةً”. هي حق لكل من يحس بألمها..
وقهرها..
لقد
أعدت قراءة الرواية مرتين وفي كل مرة اكتشف عوالم جديدة ومساحات واسعة من
الخيال الصافي النقي فمن خلاله عبر الكاتب عن رؤيته الواضحة لكل حدث وعن
مفاهيمه الثابتة القوية حيث لا يستطيع أحد أن يغير هذه المفاهيم مهما علا
وسما.. وبعد هذا الخوض الجميل والطوفان في ذاك الحلم الطويل على جسر بنات
يعقوب أفقت لأجد نفسي أعبر سطور الصفحة الأخيرة من الرواية وأخذت أدون ما
سبق.
غادة فطوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.