من
الطبيعي امتلاك الإنسان لعينين في رأسه ،ولكن أن يكون له عين ثالثة فهذا
امتياز من دون شك ، وقد حظيتُ بهذا الإمتياز أو الزيادة ، فكنت أحمل عيني
الثالثة على كتفي وأجوب بها لأمضي في مرادي ، والمعضلة أن هذه العين
الثالثة باتت محطّ الرؤية ،وكأنني لاأبصر إلاّ بها ، كانت تحدد لي الهدف وتنبهني إلى بؤرة الحدث ، وتظهر لي ما أريد، من دونها قد أرى الأشياء مغايرة ولكنها تبيّن لي الحقيقة ، كانت حبيبتي ورفيقتي وبصيرتي.
سافرت معها إلى مدن عدة ، ثم تطور الأمر فوصلت معها إلى دول أخرى مختلفة ، جُبنا معاً مطارح كثيرة ، وأكثر ماكان يشدني ، هو فن العمارة أحس وأنا أدقق الأماكن بعيني الثالثة ، الصادقة الفاحصة ، التي تسجّل بأمانة وحياد أنني قد دخلت إلى الروح البشرية ، وأتخيل من طريقة البناء والهندسة الفنية مشاهد
عدة ، وحوارات نفسية قوية ،وأسمع موسيقا الأيدي المبدعة ، تتهادى في تناغم
رخيم ، لتصوغ سقفاً ما أوتمثالاً يكاد يكلمني محدّثاً عن رؤيته وهو يعاصر
الأزمنة بصمت .
لم
تقتصر مشاهداتي على المظاهر البشرية من بناء ومعارض ، بل تعدت هذا إلى
الطبيعة حيث كانت في بعض بقاع العالم ، تأسرني وتتركني في حيرة أمام إبداع
الإله وحقيقته في خلقه ،التي تدل بوضوح على وجوده وعظمته.
هكذا
كانت أيامي تمضي ، طيراً حراً ألتقط الجمال وأتذوقه برفاهية مترفة رغم أن
أوروبة هي موطني ، إلاّ أن العالم كان بالنسبة لي ، يعدّ ملكية غريبة فلي الحق بأي حجر فيه ، وبجميع أركانه .
هناك كثيرون مثلي، ولكن اهتماماتنا كانت مختلفة ، منهم من يعنيه الحدث وآخرون
البيئة ، بعضهم يتتبع التطور والأمور العلمية ، هناك من يهمة الآثار وباطن
الأرض، تتراوح في مابيننا الأهواء ، وما يجمعنا هو الرؤية .
كنت
أمتلك أرشيفاً رائعاً ، أسرتُ فيه جميع مشاهداتي القيّمة ،كان معرضاً
فنياً حقيقياً يعدل روحي ، وأحرص على إغنائه دائماً ، لهذا يستفزني المكان
فأطير إليه مهما بعدت المسافة، كنت في مكتب أحد زملائي المحببين إليّ، وكان
من عشاق الحدث ، كنت أراه وهو دائم الانزعاج ، غريب طبعه ،
يبحث عن الصدع والشقّ ليضع أُصبعه فيه ويصرخ ، هكذا كنت أراه ،مجرد غريب
سألني وعينيه ترتجي الإجابة : ( أرجوك اذهب عوضاً عني ، افعل الأمر كخدمة
لي ، ولك ما تريد ، أمي تحتضر ولايمكنني السفر ، ليس هناك أحد أفضل منك ،
تمتلك بصيرة رائعة ، هلاّ سافرت ، أُناشدك القبول ؟ ! ) .
ولم
أدري كيف قبلت ! ، فنوعية التغطية لاتستهويني ولا تروقني ، ومع ذلك وجدت
نفسي على متن الطائرة التي حملتني إلى تلك الشاحنة الصغيرة ، والتي بدورها
رمتني وعيني على كتفي عند ذلك المعبر ، تفرست في وجوه الأشخاص من حولي ،
عيني دائماً لاتكذب ، أرتنيهم بشكل واضح ، كان الحزن يعصر الوجوه ، بشكل
رمادي يعادل دماراً غريباً ،أذكر أنني رأيته في بقايا أعاصير مدونة بقوة في
ذاكرتي .
ماهذا
المكان ؟! جال بعينه متفحصاً ، المئات يتحركون أمامه ، ومايجمعهم تلك
النظرة الغريبة، من هؤلاء الأشخاص ؟!، لم يصادف أن أبصرَ مثلهم في رحلاته ،
ولارأى من يشبههم ولو في جمادات التماثيل التي سجلّها ، أو اللوحات التي
علقت على جدران المعابد والكنائس والمتاحف.
تخطى
الناس وهو متفحصاً لهم وللمكان ، وإذ به بزملاء مهنة مثله ، اقترب منهم
وبادرهم من باب التعارف ، حتى يعلم ماذا سيفعل ؟! وكيف سيخطّ جدول تحركه
؟!. وماهي إلاّ ساعات حتى كان في الداخل ، وببساطة كان شبه مشدوه . كأنه
تحول لتمثال متحرك ، يخترق بالسيارة ، تلك الشوارع وعينه تكاد لاتصدق ماترى
!.
أين دخل ؟! ماهذه الأحياء ؟! ، هل هو على نفس الكوكب؟!.
كان
قد رأى في حياته مشاهداً كثيرةً ، وصوراً عديدةً ، لكنها لاتشبه هذا
الواقع ، دخلت السيارة حيّاً غريباً ، متفرعاً متداخلاً ، وأقسم بينه وبين
نفسه أنه لايعرف الخروج منه لوحده إلاّ بخارطة.
وترجل
منها أمام أحد المنازل ، وضع عينه التي اعتاد الرؤية بها ، وأخذ يسجل
مايرى ، الباب يشبه أي شئ إلاّ باب المنازل ، والمنزل هو أي شئ إلاّ مسمى
المنزل ، إنه مختصر بغرفة واحدة واسعة ،قسم منها مغطى بالفُرُش والملاءات
المهترئة ، وخزانة كبيرة مضعضعة تسد الحائط الأول ، ونافذة كبيرة تطل على
المنازل المقابلة ،تتوسط الحائط الثاني ، وسجادة بلا خيوط متآكلة خشنة البلاط أشد نعومة منها ، وبعض الاسفنج والوسائد يشكل على الحائط الثالث أريكة طويلة أرضية ، كراسٍ خشبية متداعية، وأجساد تجلس عليها ، أكثر تداعياً ولكنها تبدي التماسك.
ركضتْ منه الدقائق تتبعها الساعات ، وما شعر بها، كان الحديث يأخذه من زمن إلى آخر، ومن معاناة إلى
معاناة أقسى ، واختصر الشرح ستين شتاءً قاسياً عاشوه، يسقط شهداؤهم على
الأرض كالياسمين ومازال عبقهم في داخلهم، وكل ما بقي معهم ، وهم يشرحون له
،والدموع تنساب بقهر وألم من العيون ، مجرد مفتاحٍ حديديٍ طويلٍ صدئ ،
لبابٍ في ذاكرة مايزال يفتح أملهم بالعودة يوماً.
وجسراًً بين حاضرهم والباب، صنعته أشلاء أجسادٍ وبقايا عيون ،كانت تنظر إلى المستقبل بحب ، وتحمل في دموعها قصة شتاتٍ وغربة .
لم
يستطيع النوم ليلتها ، فغارة الحقائق من جهة ،وغارة القصف الغاشم من جهةٍ
أخرى تتجاذبه وتمزقه إلى أبعاض ،فكّر مسترسلاً حياتي ومشاهداتي السابقة
تكورت في بعضٍ ودفن في غياهب اللامبالاة .
وطموح
لمتابعة الحياة كان في البعض الآخر مسيّر في اللامدرك، وخارج دائرة
الاهتمام ، وفي البعض الباقي حياة من حولي ومأساة المشاهد الحمراء وغطت على
الإدراك والشعور.
حتى
الثوابت كانت ترتجف مع كل دويٍّ يصمُّ على أثر قصف ليليٍّ أبله مجنون
والمفردات أيضاً توقفتُ أمامها حائراً ، الإنسانية ، الحق ، العدل ،
الجريمة المجتمع الدولي ، المنظمات ، العالم ، الحضارات؟!!! مامعنى كل هذه المفردات هنا ؟! ليس لها وجود ولامعنى !، إنها عبث وخيالات.
الحقيقة الوحيدة هنا هي الموت أو البقاء و النضال والمقاومة ،الخبزوالضوء، وما يحزّم هذه الحقيقة هي الإرادة، وفجأة
أحسستُ بالكون ينقسم إلى شطرين غير متساويين ،جلّه أبيض باهت باستثناء
بؤرة صغيرة بلونيها الأسود والأحمر ، صبغتْ مفاهيمي وقلبي .
عندما
أشرقت الشمس فرحتُ لأنها ماتزال حقيقة أراها ، خرجت أحملُ عيني على كتفي ،
تاركاً ورائي الكرم بعينه والحب والعطف متجسداً بتلك العائلة أخرجت من جيبي عندما لمحت محلاً ، بضع أوراق مالية ، لأشتري شيئاً أشربه وللمرة
الأولى أمعنت النظر بتلك الأوراق ، ماقيمتها ماذا تعني ؟!، ولكن هنا قد
تعني حياةً قبل موت ، قد يأتي من طعامٍ أو من دمِ متبرعٍ، يُنقذ قبل فوات
الأوان ، كرهت نفسي ، كرهت العالم الأخرس،وكرهت أرشيفي الذي يذكرني بأنني
كنت أعمى ، ولكن أبداً لن أظلَّ أعمى ،تذكرت زميلي وسبب قدومي فلم أعد أجده
غريباً، بل أنا من كنت غريباً.
تحركت
قدماي تسيّرها عيني الزيادة ، شكرت الله أنني هنا ، وأخذت أجوب الحارات ،
أركض معهم ، أصرخ لهم ، أسجل لحظات خروج أرواحهم بخشوع ، أجوب المشافي
وألتقط الدموع ،وأتمنى لو أرجعها إلى المآقي ، ثم أخرج لأُقبِل على الدُور
من جديد ،وألتقط همسات الدعاء عبر حروف الأطفال في صلاة عظيمة لله ، أسجل
بعيني سيمفونية القداسة والطهر الملائكي وهي تعرج نحو السماء ، كنت كالذي
أبصر النور بعد طول ظلام ، حياتي أمامي باهتةُ المعالم، ووجودي فقد بريقه ،
وعيوني الثلاث وحدها تعمل وتذكرت أنني زرت مرةً مدينةً كتب على مدخلها
ابتسم فأنت على مشارف كذا ؟…
فجلست
على الأرض ،ورأسي منحنٍ، والناس يتراكضون من حولي ، في سباق البقاء
المحموم ، قربت وجهي من الأرض ، شممت رائحتها، ثم فكرت نعم إنها تستحق ،
إنها تستحق ، بكيت من قلبي ، والدموع تحرق وجهي وتطبع عليه اعتذاري ،وحبي
العميق إلى الملائكة البشريين من حولي ، ثم تناولت قلمي من جيبي ، ووجدت
نفسي أكتب عبارةً على حائطٍ مهدمٍ أمامي
(ياأيها العالم الأعمى تبصّر) ،ويا أيها الزائر ( ابكي فأنت فـي غـزة )…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.