أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

ساعي البريد إلى وحيد الطويلة

مها حسن ـ باريس
http://huossen.blogspot.com/في حديث لملم فيه أطراف النوستالجيا، أسرّ لي الصديق الروائي المصري وحيد الطويلة بشوقه إلى ساعي البريد، حيث كان يحمل الرسائل في الحارات الشعبية في بلادنا، في مصر وسورية ولبنان وغيرها، ويدور على أصحابها. تنبّهت فجأة أنني لا أعيش هذه النوستالجيا، نوستالجيا ساعي البريد، لأنه لا يزال موجوداً في البلد الذي أقيم فيه، في فرنسا. لا بل وإن ساعي البريد الفرنسي يحمل سمات أجمل وأبهى، ربما بالنسبة لي، مما يكسر الحلم بالنسبة لوحيد وأمثاله، لمن يحنّون إلى ساعي البريد في صورته التقليدية. إذ أن ساعي البريد الفرنسي، قد يكون أيضاً"ساعية بريد".

ساعي أو ساعية البريد الفرنسي، يستقل دراجته الهوائية"البسكليت"، ويأخذ في توزيع الرسائل على العلب البريدية. الفرق واسع بين صورة ذلك الرجل القديم، الذي يجلب رسائل الأهل والأقارب المسافرين، أو رسائل الحبيب في الجيش... فينادي على اسم المرسل إليه، وتعمّ الفرحة الحي، وبين ساعي البريد الفرنسي، الذي يأتي على دراجته، يفتح أبواب البنايات الكبرى المغلقة، بمفتاحه السحري، ويتجّه بصمت، نحو علب البريد، وببرود صامت، أو صمت بارد، يطابق بين الاسم على العلبة، وذاك على المغلف، ليدع المغلف يتزحلق في العلبة، بانتظار صاحب الرسالة ليجدها لاحقاً في انتظاره. هذا إن كانت الرسالة عادية، أما إن كانت مسجلة، فثمة إجراء آخر، يشبه قليلاً، صورة ساعي البريد في الأحياء العربية، أو في السينما العربية، المصرية خاصة. إن كانت الرسالة مسجلة، فعلى ساعي البريد أن يرن جرس"الانترفون" في منزل صاحب الرسالة، فإن وجده، وهذه نادرة، لأن ساعة توزيع الرسائل، في الصباح، يكون معظم الناس في أشغالهم وقلّما يوجد فرنسي في بيته، إن لم يكن عاطلاً عن العمل أو متقاعداً أو في إجازة طارئة. فإن وجد صاحب الرسالة، ذهب إليه في منزله، وسلّمه الرسالة وحصل على توقيعه، وإن لم يجده، ترك له إشعاراً بريدياً في علبته، بحيث يراجع صاحب الرسالة دائرة البريد في اليوم التالي، ليحصل على رسالته.
أما باسكال، فله شأن آخر.
يمتطي باسكال دراجته الهوائية كأنه يمتطي حصاناً. يرفع رأسه إلى درجة تجعلني أشكّ فيما لو كان يرى ما حوله. شعره الطويل المنساب يتطاير مع الهواء، وإن كان ثمة مطر، يبلله الهواء، فيتركه منساباً، لا قبعة تحميه ولا مظلة.. يقود دراجة سعاة البريد الخاصة في فرنسا، ذات اللونين الكحلي والأصفر، الأصفر الذي هو لون "لوغو" البريد الفرنسي.
ساعيات البريد تصبحن أجمل في المطر. بخصلات شعرهن المبللة، وهن يقدن دراجاتهن الهوائية، ويحفظن الرسائل في حقائب الدراجة.. ويتوقفن أمام كل مبنى، حيث لكل مبنى رقم، ليوزعن رسائل كل مبنى على حدى، داخل العلب المرصوفة في القاعة السفلية، في مدخل المبنى.
ويبقى لباسكال شأن آخر.
يكاد يكون باسكال أحد أعضاء الأسرة، فهو يستلم رسائلي العادية، يتركها في علبة بريدي، وأما المسجلة، فإني أحصل عليها بعدة طرق، غير قانونية، ولكنها ليست مخالفة للقانون أيضاً.
إن رنّ باسكال جرس الانترفون، وصادف وجودي في المنزل، صعد إلي منزلي، وسلمني الرسالة، وغالباً، دون توقيعي، أما إن لم يجدني، فهو يوقّع عني، ويترك لي الرسالة في علبة بريدي، أما لو صادفني في الطريق، في الوقت ذاته تقريباً، الذي يُصادف مروره في الحي، مع موعد خروجي مع كلبتي في جولتها الصباحية، أو موعد شرائي للخبز، فأصادفه في الحي، ليقف، وينزل عن دراجته، نتبادل القبل، حيث يطبعها على وجنتيّ كأصدقاء، يعطيني رسائلي، العادية أيضاً، ويتركني ملوحاً لي بيده، متمنياً لي نهاراً سعيداً.
من أجمل المواقف التي تصادفني، مع موزع بريدي، حين أنتظر بريداً خارجياً، يتأخر عليّ، وعادة البريد العربي يتأخّر، إلا أنه يصل، وحين أكون على سفر، وقلقة من ترك بريدي، حيث يحمل غالباً كتباً أو أفلاماً أو "سيديهات" موسيقية. ليفاجئني باسكال، وهذا حدث مرتين، وأنا في الطريق إلى المحطة، أجرّ حقيبتي، لألمح باسكال طائراً على حصانه الرشيق"البسكليت"، ليوقفني ويسلمني المغلف الذي أنتظره: كتاب صديق أو فيلم صديقة... لأصحبه معي في رحلتي في القطار، بدلاً من ترك المغلف يبرد في قعر ظلمة علبة البريد الحديدية.
تجمعني بباسكال مواقف جميلة، وأنا أوصيه على ترك رسائلي المسجّلة في علبتي، بدلاً من أن أذهب للبحث عنها في البريد، منتظرة ساعات ليأتي دوري. ولكن باسكال بدوره، يجمعه معي موقف صعب، كاد يكلفه ساقه.
كنت في نزهتي الصباحية مع كلبتي، التي تعرف باسكال جيداً، والتي غالباً ما تتشمّمه بفضولها الطبيعي وأنا أتحدث إليه في مدخل المبنى جوار علب البريد وهو يوزع الرسائل على أسماء العلب. إلا أنني لم أنتبه لخاصية مختلفة، أن باسكال جاءني على دراجته.
كنت على الرصيف، حين استوقفني باسكال، وقال لي من الطرف الآخر:"لديك رسالة، انتظري أعطيك إياها". قطع باسكال الشارع وجاء صوبي، وما أن رفع إحدى ساقيه عن الدراجة ليضعها على الأرض نازلاً عن دراجته، حتى فاجأتنا كلبتي، وبسرعة أكبر مما يجعلني أتدخل، قفزت عليه، وعضّته من ساقه.
لم أكفّ عن الشعور بالذنب وأنا أرى تلك الكدمة الزرقاء الكبيرة التي خلفتها أنياب "كواتز" على ساق باسكال، الذي رغم ألمه، سلمني الرسالة، وذهب إلى المشفى على الفور.
رغم اللقاحات التقليدية التي أخذتها كلبتي، بحيث لا تسبب أية أضرار عن عضتها، إلا أن تلك الكدمة سببت الألم لباسكال، وسببت لي شعوراً بالحرج والذنب لا نهائيين.
عاد باسكال في اليوم التالي للعضة، مبتسماً كعادته، رشيقاً، مستعجلاً، لأن مهنته تتطلب الرشاقة والخفة والعجلة. تحدث إليّ وكأن شيئا لم يحدث،وحين رحت أعتذر له، أصيب الرجل بالقلق عليّ، وقال بأني أحمّل الأمر كثيراً.. رفع بنطاله وأراني ساقه، ثمة آثار خفيفة.. أكّد لي مبتسماً. قلت له أني غاضبة أن هذا يحدث معي للمرة الأولى، لأول مرة، تعض كلبتي أحداً، فكيف حين يكون هذا الشخص صديقاً للعائلة. قال باسكال مازحاً مخففاً عني:" إن كانت عضّت شخصاً غريباً يريحك الأمر أكثر؟". أجبته بمكر، وكنت أتخيل الحالة:" لو أنها فعلت مع شخص أراد إيذائي، لما كنت في هذا الغضب". " ولكنها تقوم بمهمتها، ظنت وأنا أرفع ساقي عالياً لأنزل عن الدراجة صوبك، أني أريد بك الأذى، فمارست مهمتها في الدفاع عنك، ما حصل لم يكن خطأ الكلبة، بل خطأ نتقاسمه، أنا بوقوفي ونزولي جوارها، وأنت لأنك لم تنبّهيني بألا أفعل، ولم تمسكي بها جيداً حين وصولي".
في نهاية الأمر، لا يزال باسكال صديقاً، ولا أزال ألقي نظرني الصباحية من الشرفة، حين لا أصادفه في الحي أثناء جولتي الصباحية، وما أن ألمحه، من الشرفة، قادماً على دراجته الكحلية والصفراء، أو ألمح دراجته مسندة على الرصيف، حتى أهبط إلى الطابق الأرضي، أفتح علبة رسائلي بالشغف نفسه، مقتطعة الطوابع العربية، لأخزّنها لباسكال، حيث ابنته مغرمة بتجميع الطوابع، وحيث أشكّل لها مصدراً مهماً، لطوابع تأتي من الكويت ولبنان وقطر وعُمان ومصر ...فتزيد عمق صداقتي مع موزع البريد.
باسكال، صديقي موزع البريد، معه، لا أشعر بالنوستالجيا لصورة ساعي البريد، كما طرحته الدراما العربية، بل هو قريب مني، إلى درجة تذكرني بصديق نيرودا"ماريو خيمينيث"، في رواية "ساعي بريد نيرودا"، لأنطونيو سكارميتا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية