الشاعرقاسم حداد
يا بحرنا/ قبل أن تنسى.
يجوز لنا استعادتك كلما حزّت أطرافنا حبالُ المسافة وهي تمحونا بغيابك. يصحّ لنا أن نحكّ عدستك لنوقظ الماء النائم في مستنقعات تحزم الجزر الناعسة. ينبغي لنا، نحن الذين لم يكن يطيب لنا ليل بدون نجومك ولا يهنأ لنا نوم بغير أغاني أمهاتنا عنك. كنا نضع صناديق أحلامنا في موجك. فتضمها في التجاعيد مطمئناً ثقتنا في رحمتك. وتخصنا بأحلام لا تتركنا وحدنا عندما نذهب إلى النوم. حتى إذا ما سألنا أطفالنا عن الهدايا. نمسح بفصوص الملح الشفيف على أكتافهم. زاعمين أنك ستبعث معنا هلامياتك الناعسة توقظنا من سرير الأعماق. فنحملها معنا تلاعب أطفالنا وتؤنس نساءنا في الوحشة.
يا بحرنا/ قبل أن تنسى،
مثل الحيتان الخجولة كنا نجوب معك سواحل أفريقيا، نتقصى حصتنا في موسيقى الرقص الحزين المترنح ثملاً بالجراح. نصغي لأجساد محبوسة في الغيم. نحصيها مثل سعال أكبادنا. نسألك، فتغمرنا بفتنتك الصارمة. نسأل فتشملنا بغضبتك الحانية.
يا بحرنا/ قبل أن تنسى،
في الأجنحة المتعبة لنوارس التيه. تقودنا فنارات محيط الهند. نتبع سبل البهارات المتصاعدة من عتمة غابات المطر المتواصل. أبازير نشمها مثل عطر الأعشاب البحرية عالقة في أقدامنا ونحن نخرج من جيوبك المشحونة بأجراس النكهات النفاذة. الهاطلة في صهدنا ودموعنا. وشهقات اللذة في الأرز مذاق الثمار الفجة في الأواني الشهوانية الثملة بأخلاطها.
يا بحرنا/ حتى إذا ما نسيتنا،
وأحزاننا تحرس النحيب، نستعيد ربط العصائب الخضراء في أصابعك فتتذكرنا. نحن ضحايا الماء نرفع نحيبنا كلما بعثت لنا بجنازة غامضة. وطلبت منا التحلي بالصبر وعدم إطلاق الصوت الفازع لئلا تجفل الأسماك عن مصائدنا. وتشرح لنا العلاقة القاسية بين الفقد الغامض والصيد الوفير وشحّ الأرزاق.
يا بحرنا/ على نسيانك،
تفرز مشتهياتك في رمل عواطفنا الفائضة. وتكثر تصانيف الأحبار الماكرة وتعدنا بالحقائب المكتنزة بالقواقع. فنصدق الرسائل ونبدأ في قراءة موجك على نسائنا اللاهيات بالسهر على أواني الطرائد وفاكهة الصيد. وحده كلامك يسعفنا ساعة إقناع النساء بالذهاب إلى النوم حيث الأحلام في انتظارهن.
يا بحرنا/ انسنا إذا طاب لك ذلك.
فنحن نحتفظ بأنيابك الصخرية وحَسَك أسماكك المستوحشة في الأعماق مثل الوشم في أجسادنا الناحلة. فليست الهدايا وحدها تقدر على صقل مواهبنا. الجراح تفعل ذلك أيضاً.. وتحسنه.
يا بحرنا/ إذا نسيت،
نتذكرك في الخطر المريع الذي تحرسه خطواتك. كلما رأينا أخطبوطك العجوز يتخبط في غائطه. فيما يرقب المخلوقات الفظة وهي تتحشد لتهندس لنا الكارثة. تحدق وتفتك وتنال منا.
يا بحرنا/ لا ننساك،
نحن نساؤك الفاجرات نفقد رجالنا في غيابك. فنصون لهم مكامن اللذة بفتيان قليلي الخبرة. منذورين لوحشة المرافئ. نستفرد بهم. نلقنهم درسنا الباكر في المعاشرات الماجنة حتى ننهكهم بالمتع. فإذا فرغنا منهم. استدرنا لك يا بحرنا الوحيد قبيل أن تهرم. نناديك بالشغف وغيره. بالغنج وغيره. بالشبق وأكثر منه. نحنّي لك كعوبنا بالشهوة وندللك بالغوايات. حتى إذا ما نزلنا نغمس أقدامنا المشبوقة في زرقتك الكامنة. تعتريك الرعشة الباهرة. فتصرخ فينا وتنهرنا موبخاً طيشنا النبيل. وتذّكرنا بأزواجنا الغائبين. وتأخذ في سرد أسماء رجالنا واحداً بعد الآخر في ترتيل من يكرز لرعية جاحدة. وتغرس اسم كل رجل بإبرة ناعمة في كتف امرأته. فتتصاعد صرخاتنا ضاجة بمرح الذبائح في شريطك الساحلي من رأس البر إلى رأس الرمان.
يا بحرنا/ بندماء نسيانك،
تلك نساؤك المتحذلقات. يطلقن تضرعاتهن من غربة الآبار العذبة. رجاة أن يكف الوقت عن الحركة. وتواصل الشمس انتظارها في كبد السماء. وتنام كل امرأة في حلمها الساطع. ويتأخر الليل... ولا يأتي.
يا بحرنا/ إن تنسنا،/ ضعنا بعيدا عنك. أنقذنا./ وأنت مدجج بالمستعان به من الذكرى/ فكن أدرى/ لقد طاش الجنون بنا/ ونحن ندرب الموتى على النسيان/ ندفع خطوة ونؤجل الأخرى/ فخذ يا بحرنا يدنا/ مدلاة كما يستنجد الغرقى / بموج الرحلة السكرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.