مها حسن ـ باريس
في طريقي إلى طبيبتي، التي تبعد عن منزلي، بضع دقائق مشيا على الأقدام،
باغتني"مطر حزيران" كما جاء من عنوان لرواية جبور الدويهي، ولكن طقس باريس
المتقلب، يسمح بمطر في حزيران، وفي تموز، وفي آب.. وجدتني أحتمي بمظلة موقف
الباص، منتظرة أن تعبر هذه الزخّة العنيفة. كان ثمة شاب يجلس في زاوية
المقعد الذي يتسع بسهولة لثلاثة أشخاص، جلست في الطرف الآخر من
المقعد،أتأمل ركض الناس الذين لم يحتاطوا بمظلات، وفوضى الازدحام، بينما
تابع أولئك المحتمين بمظلاتهم، أو قبعاتهم، أو قبعات معاطفهم، سيرهم
بهدوء..مقابل الشاب الجالس في الطرف الثاني من المقعد، وقف صديقه، وراحا يثرثران عن الفرق في العيش بين الجزائر وفرنسا.
شابان من النوع الذي أتجنب المرور جواره حين أعود وحدي ليلاً، من النوع الذي يثير الفوضى في فرنسا،من النوع الذي يتشاجر، ويصرخ في الشارع، ويستفزّ الآخر،الرصين، العاقل، القانوني...
هذا النوع من الشباب، وأحيانا الشابات، هو نفسه الذي تتم تداول أخباره في " فيت ديفير" ، في صفحات الأحداث والشجارات.
كان الشاب الوقف قبالتنا، صديقه وأنا، يتحدث إلى صديقه، ناظراً إليّ، وكأنه يوجه حديثه إليّ.
ومع رصانتي وجديتي التي تتماشى كثيراً مع المزاج الغربي، ولا أدّعيها، بل جئت بها من سورية، عبر كتابتي وعوالمي، كنت أتجاهل نظرات الشاب العربي، وأتلصص على حديثهما المغري بالنسبة لي، فأنا قريبة من "وكر الأفعى".
هؤلاء الشباب المتمردين، العالقين في مسافة مخلخلة بين الشرق الذي جاء منه أهلهم، وينتمون إليه فكرياً وتاريخياً، وهويتهم مرتبطة هناك، وبين الغرب الذي عليهم بناء حياتهم فيه.
كان الجالس جواري، يتحدث عن أزمة العمل في فرنسا، وعدم إمكانيته لتحقيق ذاته، وكانت لغتهما، أيضا خليط من العربية والفرنسية.. هؤلاء الذين أثّروا في اللغة الفرنسية، فأدخلوا فيها كلماتهم العربية، إلى أن الفرنسية الدارجة صارت تحمل بعض العربية.
أما الواقف قبالتي، فكان يتحدث عن النساء..
كانت تشوب حواراتهما بعض العبارات الجنسية بالعربية.. الذي بجواري، لم يهتم بمعرفة إن كنت أفهم لغته أم لا، وغالبا شعر بأنني من هؤلاء الرصينين الباردين العاقلين، فاستمتع بإزعاجي.
وسط المطر،وانتظار عبور الزخّ المباغت،لأنطلق نحو طبيبتي الجديدة،توسطنا رجل أشقر. جلس بيننا، فتح كتابه برصانة، وراح يقرأ، رغم المطر، وحوار الشابين الذي لا يخلو من إيقاع عنيف في اللغة، والنبرة الصاخبة، التي يتميّز بها أغلبية الأجانب.
هدأ المطر قليلاً.. نهضت فجأة، إذ كان قد بدا وكأنني أنتظر الباص.ومضيت...
أحسست كما لو أن ثمة خطوات تتبعني.. أطمئن، لأن الوقت نهار،ولو كان ليلا لخفق قلبي خوفاً، أعرف صبية الحي، وقدرتهم ولا مبالاتهم على الأذى.. حتى مع رجال البوليس.
إنها وسيلتهم في إثبات ذاتهم، قلع عين الآخر......
وصل جواري، وألقى التحية عليّ، وأنا أخطو مسرعة.
استدرت نحوه، كان الشاب الواقف قبالتي.. يبدو أنه ترك صديقه ما أن مضيت، وتبعني.
هذا لا يحدث من رجل فرنسي، عليّ أن أتوقع كل شي، مع أبناء الجالية.
ابتسمت له وأنا أتابع طريقي مسرعة، لألحق بموعدي.. سألني إن كنّا نستطيع أن نتعارف.. توقفت وضحكت بصوت مرتفع.. استغربت من جرأتي وقلت له " كم عمرك؟" أجاب " 31 سنة"... قلت له: " أنا عمري 44 سنة.. ترى، أنا في عمر كبرى أخواتك.. لن ينفع" ضحكت وتابعت طريقي.. تابعني هو أيضا، وكالعادة راح يمدحني بأنه لا يبدو عليّ أني أتجاوز الثلاثين.. وقفت، ووجدتني بغتة أضع يدي على كتفه بلطف وأنا أقول له" كن لطيفاً ومهذباً.. ليس هكذا نتعرف على النساء.. أنا مرتبطة فعلاً ولست من النوع الذي تتمناه".. اعتذر بسرعة وأكد لي أن يبحث عن زوجة لا عن صديقة، أنّه متدين ولا يبحث عن علاقات عابرة.. الخ من هذه التبريرات التي اعتدنا عليها، نحن النساء، مدركات نية الآخر.
المهم في هذه التجربة، ليس الحدث الذي وقع لي، وهو ما قد يحدث في كل يوم، بل موقفي أنا أمام هذا النوع الذي كنت أتحاشاه من بعيد، وأتجنب المرور جواره، طلباً للستر كما يقولون، وإلا فعليّ الاتصال بالبوليس، وهذا ما يرغب به هؤلاء، وما لا أرغب به أنا. إنها وسيلتهم لإثبات ذواتهم المهملة، ولا يتسع المجال هنا، لشرح مأزق الاندماج، حيث يتحمّل الطرفان، الحكومة والبلد، والمهاجر أو الأجنبي، مسؤولية الفجوة بين المجتمع،والآخر.
قبل الانتفاضات الأخيرة في العالم العربي، كنت أتصرف بفوقية على الآخر المختلف/ المتخلّف..كنت أتعامل مع هؤلاء الشباب بحذر. أما اليوم، فثمة ألفة غامضة أو ثمة مساحة أمان جديدة ومختلفة، انبثقت بداخلي، تجعلني أقبل بالاقتراب من هذا المختلف، دون تقييمه، ودون رفضه مسبقاً.
الشاب نفسه، الذي كان بمثابة عامل استفزاز نحوي، وربما يحمل نحوي "كآخر مختلف أيضاً" رغبات إيذاء لمجرد الإيذاء، لتحطيم هذا الرمز، الرصين، المنطقي، المتعارض معه.. الشاب نفسه، وحين جلست قرب صديقه، بهدوء، دون توجس، متأثرة بما يحدث في العالم العربي من انقلابات فكرية عن معنى الآخر، التقط بطريقة ما، حُسن نواياي، وكفّ عن رغبته في الأذى، بل وهرع خلفي محاولاً، بطريقته الساذجة، لا ضرر، أن يبني معي علاقة ما.
لا يستطيع شاب مثله، وليس عليّ افتراض هذا، القيام بأي اقتراح آخر لبناء جسر مع الآخر، سوى عبر فكرة الزواج. هذا التبرير هو المنفذ الوحيد أمامه للاقتراب مني، كامرأة. بينما كنت أنا أستعمل أدواتي التلصصية ككاتبة، موغلة في هذا الآخر الذي يقلقني، خاصة في الليل، لأتعمق في عينيه الطيبتين وهو يحدثني بفرنسية تتداخل معها العربية، خاصة في صيغة القسم" والله العظيم"، ليقنعني بحسن نواياه، فأغرق في داخله، عبر بوابة عينيه، لأجد جيلاً ثائراً من الإقصاء وعدم الفهم، والرفض المسبق.
لم أتأخر على موعدي مع طبيبتي، رغم ذلك المطر، ومشاريع الإيقاع بالحب، واصطياد النساء. يمكن للحياة أن تكون على ما يُرام، حين ندخلها، دون خوف مسبق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.