تحدّثنا كأنّ شيئا لم يكن ، كأنّنا افترقنا منذ يومين فقط على ضوء ابتسامة و ميعاد حب .
لأنّ لا شيء يحدث صدفةً ، أتساءل كيف بدا للأيام أن ترتّب لقاءنا بعد أن احدودب الحلم و اشتعل القلب حزنا ، و شاخت في مروج العمر شجيرات الأماني ؟ كيف ... بعد أن غرّبتنا الدروب و امتد ما بيننا زمنٌ تافه ، بليدٌ ، معبأٌ بالدمع و الوجع و تراتيل النسيان ؟المساء لم يكن عاديا في الشارع النائي من مدينتي الصاخبة . شيء يشبه الحنين يراقص ذرّات الهواء و المكان يلفه هدوء غريب ،كالذي ينذر بحدوث أمر رهيب .
هادئة كنت ،مثل المساء . خطواتي ثابتة فوق الرصيف . صحيح ، في داخلي جرح عتيق لكن يبدو أنّه اندمل . تماما... استكان بعد أن أمدّني كفايتي من الألم. ما عدت أحسّه ، أدرك فقط بأنّه هنا ، مثل وشم قديم باهت. مجرد خطوط ضبابية فوق صفحة العمر .
خربشة لم تعد تعني الكثير .
رفيقتي تمسك بذراعي في طريق عودتنا من العمل .. نثرثر و نتبادل التعليقات كلما قاطعتنا عيون تغازل . تكاد تخرج من محاجرها . أحدهم كان يطوي الطريق بسيارته جيئة و ذهابا محاولا جلب انتباهنا . ما أن يتجاوزنا حتى يضاعف السرعة ، و عند نهاية الشارع يستدير و يعود أدراجه باتّجاهنا أمام استغراب بعض المارة .
قالت رفيقتي ضاحكة :
-أرأيت كم هو وسيم؟ إنّه يغازلكِ ..
قلت :
- لم أنتبه . لعلّكِ بُغيته .
- لا . أنه يلاحقك أنتِ منذ خروجنا من الشركة .
قلت في غير اكتراث :
- لا أدري متى سيكفّ الرجال عن ملاحقة النساء !
- نعم . كأنّما آدم يود لو تعود حواء ضلعا في قفصه الصدري !
- تعدّدت الأقفاص و السجّان واحد يا عزيزتي !
و ضحكنا ، لكن ضحكتي تجمّدت فوق شفتي حين مرّت السيارة بقربي تماما و ابصرت من نافذتها وجها ألفته روحي و نقش في جدارات شراييني و حفظ قلبي ، ذات زمن ، أدق تعابيره .
كان يبتسم لي في حنان .
توقّفت فجأة عن السير و قد ذهلت عنأمر نفسي و أخذت مني الدهشة كل مأخذ ، و دون وعي تركت رفيقتي و مشيت نحو السيارة . مشيت ؟ لا لم أمش بل جريت ، و قد بدت الأمتار القليلة التي تفصلني عنه أميالا لا نهاية لها .
نزل من السيارة . تبادلنا التحيّة ، تصافحنا بحرارة و كل جوارحنا تبتسم ، و الدنيا من حولنا مهرجان فرح .
تحدّثنا كأنّ شيئا لم يكن ، كأنّنا افترقنا منذ يومين فقط على ضوء ابتسامة و ميعاد حب . كأنّنا لم نختلف , نتخاصم , نجرّح بعضنا و نقسو على بعضنا و نتّهم بعضنا . كأنّنا لم نخنق بأيدينا حبا جميلا و نختصر فصول مشروع العمر في فصل واحد ابتدعناه معا ... هو الخيبة .
يا للحظة المثيرة ! قصيرة كانت ، لكن كافية لكي أغرق في يمّ من الأحاسيس . ثانية من الزمن اختصرت سبعة عشر سنة من البعد و الجفاء و الصمت ... ثانية فقط مررتُ فيها بكل تدرّجات اللقاء المباغت... دهشة ثم ارتباك ثم رجّة قلب ثم فرحة ثم عتاب بطعم الدمع رأيته يطل من جفوني ، ثم ... شوق فاض من حنايا روحي ، و عصافيرٌ ملوّنة ، بديعة الشكل ، أفلتت من ثقوب ذاكرتي و ملأت من حولي المكان بشدو الحب ... الذي كان .
قال و وجهه طافح بالحنين :
- كنت مارا و رأيتك فأصررت أن تريني ، لذلك قمت بتلك المناورة بالسيارة كأنّي مراهق مجنون .
- لا أصدّق أن نلتقي هكذا ببساطة بعد كل تلك السنين . أخبرني كيف أنتَ ؟
- بخير و أنتِ ؟ سمعت بخبر طلاقك .
- نعم . لم نتّفق و انفصلنا منذ مدّة ... و أنتَ ؟
- كان يجب أن تفهمي أنك لن تكوني سعيدة إلا معي .
- في كلامك رائحة شماتة . ألم تشف بعد من غرورك ؟
تهمي لحظة صمت و نحن عند سدرة الماضي البعيد و لا أحد منا يصدّق بأنّه يحدّث الآخر .
- أنتَ لم تحبّني حقا .
قلتها كمن يصدر حكما نهائيا يتمنى فيه وقف التنفيذ :
- بل أحببتكِ . بجنون . خاصمتُ الدنيا من أجلك.
عيناه مهرتان مطهّمتان بالوجد تجوسان وجهي .
- لا تزالين جميلة .
شفتاه ترتعشان ، تنفرجان ثم تنغلقان ، تختزلان كلاما لا يسعه الزمن ، كلاما ظلّ طويلا مرابطا عند حدود الغياب.
يداه طائران محمومان ،يشتبكان ثم يبتعدان في محاولة لتلمّس سبيل إلى يدي .
نظرته شعاعُ صبابة يتغلغل في تفاصيل جسدي .
- لا يزال نهدك حمامة نافرة ... لم تكن لتهدأ سوى في كفّي . هل تذكرين ؟
- و أنت لا تزال جريئا و مجنونا و ... وسيما ...أخبرني...هل زواجك ناجح ؟
- نعم ...و لديّ ثلاثة أطفال ... بنت و ولدان .
- حفظهم الله لك .
- البنت أسميتها على اسمك . لولا عنادكِ لكانت ابنتنا معا .
-كان غروركَ .
- أبدا . هو كبرياؤكِ المتضخّم .
- بل أنانيتكَ السافرة .
و غيّرنا دفّة الحوار ، حتى لا يصبح لقاؤنا معركة . حدّتني في عجالة عن عمله و أسفاره و عائلته ، عن شوقه و فشله في أن يحب مرّة أخرى .
- هذا رقمي . اتّصلي بي قبل نهاية يوم غد لأقرّر إذا كنت سأسافر أم لا . الأمر يتوقّف عليك . بإمكاننا أن نعوّض الذي فات .انتظرك حبيبتي .
و انطلق بالسيارة . و واراه الشارع الطويل .
و مضيت أتعثّر في الماضي البعيد . وصلت البيت يسبقني الذهول ... أحسست برعشة في دمي و برودة في عظامي .
انكمشت في فراشي . تدثّرت . أدركت أنها نزلة حب شديدة الوطأة . جافاني النوم ليلتها . أرّقني دبيب الذكريات . كأنّما الزمن توقّف . تكسّر . أفلت من عقال الأرض . و كما السمكة ، مرقتُ من فجوة في الحاضر و وقفت هناك عند ربوة أول حب في حياتي . أول رجل استفاق على همس عيونه نبضُ قلبي ، و رقصت على عزف أنامله زهور أنوثتي . رجلٌ تهجّيت معه أبجدية الحب في روعته و سحره و جنونه و قسوته ، أو ربما ... قسوتنا عليه !
و عبثا كنت أستجدي أجوبة لتساؤلاتي ... كيف ابتعدنا ؟ مالذي أجهض حبّنا ؟
كان مقدّرا أن نفترق لأنّ ...لأنّ ماذا ؟ ...
لا عبارة مقنعة تكمل السطر .
مؤسف في كل الأحوال أن ينتهي الحب ، و مؤسف أكثر أن يموت بغباء و حمق ، دون سبب واضح ، سوى طعنات متبادلة من عنْدٍ و شكٍ و غيرة.
قبعت في البيت ليومين . لم أجد رغبة في الخروج . لم أذهب إلى العمل . سكرت من نشوة اللقاء، مرضت من التفكير فيه ، كلامه و لهفته ، " حبيبتي " التي اشتاق قلبي سماعها ، و تلك النظرة الآسرة ، فيها دعوة صريحة لبدء القصة من جديد لكن ، أي بناء سوف يرتفع فوق الأنقاض ؟ و هل يعود الذي كان كما كان ؟ هل سيكون حبا أم نسخة لا تطابق الأصل ؟ حبا أم مسخا ، و محض صورة مموّهة ، متصدّعة للوحة كانت ألوانها زاهية ذات زمن ؟
" بامكاننا تعويض الذي فات " ! أيمكن ذلك ؟ ..كيف أيها الحبيب الذي لم يعد حبيبي ؟ كيف سنشفي ثُكل قلبينا و نمحو ما تراشقا به من جراح ، كيف سنلملم أحلامنا التي جرفتها السنين ؟ كيف سنعيد بناء أعشاش المنى و قد اقتلعنا بأيدينا شجرة الحب من جذورها ؟
تذكرت " نحن لا ننسى أبدا حبّنا الأول لأننا اضطررنا أن نتخلّى عنه " .
فعلا . لكن ما تغمّده الماضي لا يمكن بعثه من جديد ...مهما حاولنا .
سوف نكون كمن ينفخ في الرماد .
هادئة. في طريقي إلى الشركة . خطواتي ثابتة فوق رصيف الشارع النائي من مدينتي الصاخبة . توقّفت هنيهة عند مكان اللقاء . شردت للحظة ثم خلعت عن قلبي صورة الصدفة الجميلة .
و واصلت السير و في رأسي صوت يهمس : لا جدوى . عد يا قلب لبياتك العاطفي ولتكملي دورتك أيتها الأيام !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.