تمهيد: ماذا بعد استقرار الجنس الأدبي؟
هل يمكن تعليم كتابة القصة القصيرة جداً؟؟
وهل يمكن أن نخرج من نظرية وادي عبقر؛ لنؤكّد أن الصناعة يمكن لها أن تتدخل في تحسين شروط الكتابة، وتوجيه الكاتب نحو آليات جديدة، تفتح رئتيه على هواء الإبداع؟
لقد قطعت الجامعات في الدول الأوروبية ودول القارة الأمريكية أشواطاً مهمة في تعليم الكتابة الإبداعية شعراً ومسرحية وقصة... ولا بأس في أن نجرّب ونعيد التجربة في تنمية الخيال الإبداعي، من أجل أن نؤسس لثقافة تعدّ الموهبة شرطاً لازماً غير كافٍ للإبداع، وتعمل على تحرير طاقة المبدعين من سجن المراوحة في المكان.
وقد أقيمت في أماكن متعددة من الوطن العربي محاولات خجولة لتعليم الكتابة الإبداعية ، وافتتحت في عدد من الجامعات (دول الخليج بشكل خاص) مراكز للكتابة، غير أن الأغلب الأعمّ يهتم بالكتابة
الوظيفية، وينظر إلى تعليم الكتابة الإبداعية نظرة مرتابة ترى في الإبداع ميداناً يعتمد على الموهبة الفردية، ولا يؤمن إلا بنظرية وادي عبقر التي يسعى تعليم الإبداع وتطويره إلى الحدّ من نفوذها.
ضرورة تعريف القصة القصيرة جدّاً:
خلال التعريفات الكثيرة التي أطلقها النقاد للإحاطة بمصطلح القصة القصيرة جداً لفت نظري تعريف لطيف للأستاذ محمد محي الدين مينو يقول فيه: إن "القصة القصيرة جداً حدث خاطف، لبوسُه لغةٌ شعرية مرهفة، وعنصره الدهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة ". وعلى الرغم من أنني لا أميل للتعريفات، ولا أظنّ أن ثمة تعريفاً جامعاً مانعاً لأي مصطلح يضع حدوداً للجنس الأدبي، فإنني أميل في أثناء تنفيذ الورشات التعليمية إلى وضع تعريف افتراضي للقصة القصيرة جداً يتم استنباطه من أركانها وتقنياتها، وانطلاقاً من هذه الضرورة يمكن أن نعرفها كما يلي:"هي جنس سردي قصير جداً يتمحور حول وحدة معنوية صغيرة، ويعتمد الحكائية، والتكثيف، والمفارقة، ويستثمر الطاقة الفعلية للغة ليعبّر عن الأحداث الحاسمة، ويمكن له أن يستثمر ما يناسبه من تقنيات السرد في الأجناس الأخرى".
ورشات عمل تناسب القصة القصيرة جداً:
وحتى يمكن أن نضع تخطيطاً نظرياً لورشات عمل يمكن تنفيذها على مجموعة من الموهوبين لا بد أن نقسم ورشات العمل إلى قسمين رئيسين:
• قسمٍ يسعى إلى التركيز على أركان الكتابة القصصية القصيرة جداً.
• وقسمٍ يسعى إلى التدريب على كيفية استثمار التقنيات المختلفة.
خطوة أولى:
ورشة عمل حول توظيف المفارقة في القصة القصيرة جدّاً
جامعة الإمارات العربية المتحدة - وحدة المتطلبات الجامعية العامة
برنامج اللغة العربية، 20/ 2/ 2013
انتهى الجدل القائم في رأينا حول مركزية ركن المفارقة في القصة القصيرة جداً، وبات من المعترف به لدى منظري هذا الفن أنها عنصر من العناصر التي لا غنى عنها أبداً، وقد تمّ تمييزها عبر التراكم النقدي عن الطرفة على الرغم من أنها قد تضحك المتلقي من خلال سعيها إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء من حوله.
ولا شك في أن المفارقة لا تقحم إقحاماً قسرياً في السرد، بل تختار الصيغ السردية المناسبة النابعة من طبيعة الحبكة، والتي تمنح النهاية (القفلة) من الخصائص التي ذكرها مسلك ميمون، إذ رأى أن النهاية (القفلة) في القصة القصيرة جداً تمتاز بكونها مفاجئة لا يتوقعها المتلقي، وهي تحدث توتراً وانفعالاً، بسبب نسقها الدلالي والصدامي، وتبعث على التأمّل والتساؤل، وتفتح آفاق التأويل، وتضفي جمالية دلالية على النص، لما تختزنه من معنى .
ويشار هنا إلى أنّ المفارقة يمكن استجلابها من مصادر مختلفة، لعلّ أهمها الإفادة من فكرة جوهرها أنّ الكون ـ كما قال شتراوس ـ قائم على مجموعة من الثنائيات الضدية، على صعيد المفاهيم والزمان والمكان واللغة والحوادث والألوان وغير ذلك، وإن مثل هذا الفهم يجعل من توظيف المفارقة في القصة القصيرة جداً أمراً ممكن التعليم.
وانطلاقاً من أهمية الإحساس بأهمية المفارقة وحسن تلقيها عند المتعلمين قمتُ بتنفيذ ورشة عمل لتعليم كتابة القصة القصيرة جداً لطالبات الجامعة يوم 20/ 2/ 2013، وحضرت تلك الورشة نحو ثلاثين طالبة من مختلف التخصصات، ممن تتوفر فيهن مواهب الكتابة القصصية، وكان الحضور اختيارياً يتم عبر تسجيل اسم الطالبة الراغبة بالحضور عند مسؤولة الأنشطة الطلابية.
وقد اعتمدتُ خلال تنفيذ تلك الورشة اعتماداً كبيراً على تحفيز التفكير بالثنائيات الضديّة، من خلال عرض مجموعة من الكلمات والصور المتقابلة على الطالبات المتدربات، متدرّجاً في عرض تلك الصور عبر ثلاث مراحل:
• مرحلة تعرض صورتين يلمس الرائي تضاداً ما بينهما.
• مرحلة تعرض صورة واحدة تبرز تناقضها من خلال علاقاتها الداخلية.
• مرحلة تعرض صورة لا تبرز تناقضها بشكل مباشر، وهي بحاجة إلى قوة تخّيل من أجل إيجاد تناقض ما بين متضادين.
وقد عرضتُ على الطالبات في المرحلة الأولى صوراً متقابلة للثلج والشمس، والحرية والقيد، والنور والظلام، والإعاقة والإرادة وغير ذلك. ومن الصور المعروضة على الطالبات الثنائيتان الضديتان اللتان تمثلهما الصورتان (1، 2: الثلج والشمس) والصورتان (3، 4: الحرية القيد). وقد طلبتُ من الطالبات إيجاد علاقات سردية بين الثنائيات الضدية المعروضة، أو تصوّر علاقات ضدية بين أشياء قد لا تبدو متضادة في جوهرها، من أجل صناعة مفارقات سردية، يحاولن فيها تجاوز وظيفة اللغة الإبلاغية الصحيحة المفهومة إلى وظيفتها الجمالية التي تؤثر في القارئ وتجعله يتعاطف مع منتج الصياغة الإبداعية. وقد جاءت النتائج مشجعة، ومنها الصياغات السردية التالية التي صححنا فيها بعض الأغلاط اللغوية:
أولاً ـ الثلج والشمس:
1 ـ "فكّر الثلج ليلة كاملة أن يتخلّص من خجله القديم، ويبوحَ بعشقه للشمس. لكنه حين وقف أمامها في الصباح ذاب من الخجل".
2 ـ "كلّ صباح تربت الشمس على كتف الثلج قائلة له بحنان غبي: لا تذرف الدموع يا صديقي".
3 ـ "قالت له الشمس. تعال لتنام على كتفي. قال لها الثلج: كم بكيتُ بسببك، والعاشق لا يلدغ من عشقٍ مرتين".
ثانياً ـ الحرية والقيد:
1 ـ "قال السجين: كم كنت قاسياً عليك أيها العصفور حين وضعتك في القفص".
2 ـ "ليس ثمة قفص من ذهب، وإن كان مذهّباً".
3 ـ "قالت له متى نتزوج.رأى آدم سجناً ورأت حواء فضاء بهيجاً يملؤه الأطفال".
وعلى الرغم من أن بعض النصوص التي قدمتها الطالبات لم ينتمِ للقصة القصيرة (مثلاً النص الثاني من نصوص الحرية والقيد بسبب افتقاده للحكائية) فإنّ جميع ما قُدّم استطاع أن يبني تلك المفارقة المدهشة، بل وينوّع فيها، فقد بدا الثلج عاشقاً خجلاً محبّاً، وبدت الشمس قاسية بل غبية، تقتل عاشقها بيدها دون أن تبدي أسفاً أو ندماً. في حين بدا مفهوم الحرية مشدوداً بين رجل مسجون وعصفور نال حريته، وبين ذهب ثمين وذهب لا قيمة له، وبين ذكورة وأنوثة تختلفان في تقييم تجربة الزواج.
ويلفت النظر في هذه المفارقات أنها تبنى بطرق مختلفة، وتبعاً لتصورات مختلفة لطبيعة العلاقات بين الأضداد، وقد لجأ معظم الطالبات إلى تشخيص الثلج والقفص والعصفور، واستثمر طاقات سردية متنوعة كالتناص والحوار وحسن التعليل.
* * *
وقد شجعتني نتائج هذه الخطوة (على الرغم من توفر العديد من اللوحات المتقابلة التي تحتوي على ثنائيات ضدية) على التقدّم مرحلة أخرى، عبر عرض صور يتخيّل القاص المبدع مفارقاتها، أو يخترع مفارقات تنبع من صميم رؤيته الشخصية، عبر عرض صورة واحدة في كل مرّة، ثم يُترك للمتدربة بعد ذلك التعبير عن الصورة من خلال علاقة سردية قصيرة جداً. ومن الصور المعروضة على الطالبات صورتا المرآة المحطمة (5) والإنسان والظل (6). وبعد عرض هاتين الصورتين قدّمت الطالبات صياغات سردية لافتة للنظر، تحاول أن تقرأ كلاً من الصورتين واقعاً أو تخيلاً. ومن تلك الصياغات:
أولاً ـ المرآة المحطمة:
1 ـ "خان وطنه مرة بعد أخرى، قبض أموالاً كثيرة، وعندما نظر إلى نفسه كسر المرآة".
2 ـ "أكّدت لنفسها أنها تستطيع أن تخدع الجميع، ولكنها قبل أن تنام نظرت في مرآة نفسها، وبكت مثل طفلة يتيمة".
3 ـ "المرآة لا ترحمني".
ثانياً ـ الإنسان والظلّ:
1 ـ "أعطاني رزمة من النقود ثم مضى، رأيت في ظلّه شكل لص".
2 ـ "أزاح الرجل الكهل عن ظلّه غبار السنوات، فرأى طفلاً صغيراً يلوّح له من بعيد".
3 ـ "إذا انعكس ظلّ القط على الأرض نمراً، فإنه لا يستطيع افتراس الأرانب".
ونلاحظ في جميع الصياغات السابقة لفكرة المرآة المحطمة (على الرغم من خروج الأخيرة منها من النمط السردي) إصراراً على أن المرآة تعني مواجهة مع الذات، مما جعل الأولى تمثل ارتداداً لخائن عميل عن الخيانة، والثانية تمثّل ارتداداً لمخادعةٍ عن الخداع، بينما تمثّل الثالثة نكوصاً عن مواجهة الذات، لأن هذه المواجهة غالباً ما تكون غاية في القسوة.
أما في صياغات فكرة الإنسان وظلّه فلم تقف عند الإنسان ضمن عملية العصف الذهني التي أنتجت رؤية موحدة (قد لا تكون صحيحة) ملخّصها أنّ الظل لا يجسّد حقيقة الأشياء، بل يناقضها في كثير من الأحيان، وقد يكون الظلّ حلماً بالطفولة أو الشجاعة أو غير ذلك.
* * *
وقد قمت من خلال تلك الورشة بتقديم نموذج ثالث من الصور لا يضمّ مفارقات واضحة، ولكنه يعرض مواقف ذات تأثير بالغ في النفس البشرية، وبعد أن عرضت الصور على الطالبات، طالبتهن بالتعبير عما توحي به هذه الصور من خلال مفارقات سردية. ومن بين هذه الصور صورة العجوز والشجرة (7). وفور عرض الصورة تساءلت إحدى المتدربات: هل هذه الصورة في فلسطين؟
فأجبتها: تستطيعين استنتاج ما تشائين.
ويبدو أن هذا السؤال قد وجّه النصوص السردية في اتجاه واحد هو التعبير عن هذه علاقة العجوز الفلسطينية بشجرة الزيتون. ومن الصياغات السردية التي كتبتها الطالبات ما يلي:
1 ـ "استطاعت الجرافة، بعد محاولات متكررة، أن تقتلع شجرة الزيتون، ولكنها لم تستطع أن تقتلع امرأة عجوزاً من جذورها".
2 ـ "الجندي الصهيوني الذي يراقب العجوز لم يلاحظ أن وجهها يشبه لون الأرض".
3 ـ "عندما حضر الجندي على ظهر جرافته قالت العجوز لشجرة الزيتون العتيقة: أحبّك يا أمي".
وبسبب من هذا التوجيه اتجهت المفارقة لتصوير التناقض الحاد بين شخصيتين: شخصية تتمسك بالأرض، بما تملك من قوة الإرادة، وشخصية تسعى إلى إفراغ الأرض من أهلها، بما تملك من البطش.
ملاحظات لا بد منها:
1 ـ إن لجوءنا في أثناء تنفيذ ورشة العمل إلى عرض الصور من أجل االتحفيز ليس طريقة وحيدة، إذ يستطيع أي مدرّب أن يعرض، عبر أي وسيلة بدائية أو ذات تقنية متطورة/ مكتوبة أو مرئية أو مسموعة، ما يراه مناسباً لتحفيز الإبداع في نفوس المتدربين الموهوبين.
2 ـ إن تنفيذ مثل هذه الورشات يتطلّب إعداد ملفات للمتدربين، من أجل تحليل نتائج تلك الورشات، والإفادة من تلك النتائج في تقديم توصيات تجعل الورشات التالية أكثر نجاحاً.
3 ـ إنّ تطور الكتابة الإبداعية عند الطلاب لجنس القصة القصيرة جداً يتطلب تحفيزاً مستمراً لهم من خلال وسائل التشجيع المتاحة في الجامعة من مثل إتاحة المشاركة في المسابقات والندوات والأمسيات الأدبية والنشر في مجلات مراكز الكتابة، والصحف المحلية.
4 ـ إن نجاح تجربة الكتابة الإبداعية لهذا الجنس الأدبي يتطلب تعديلاً في مناهج اللغة العربية، فتحتوي نماذج راقية من القصص القصيرة جداً، تشجّع المبدعين من الطلاب على اقتفاء آثارها.
هل يمكن تعليم كتابة القصة القصيرة جداً؟؟
وهل يمكن أن نخرج من نظرية وادي عبقر؛ لنؤكّد أن الصناعة يمكن لها أن تتدخل في تحسين شروط الكتابة، وتوجيه الكاتب نحو آليات جديدة، تفتح رئتيه على هواء الإبداع؟
لقد قطعت الجامعات في الدول الأوروبية ودول القارة الأمريكية أشواطاً مهمة في تعليم الكتابة الإبداعية شعراً ومسرحية وقصة... ولا بأس في أن نجرّب ونعيد التجربة في تنمية الخيال الإبداعي، من أجل أن نؤسس لثقافة تعدّ الموهبة شرطاً لازماً غير كافٍ للإبداع، وتعمل على تحرير طاقة المبدعين من سجن المراوحة في المكان.
وقد أقيمت في أماكن متعددة من الوطن العربي محاولات خجولة لتعليم الكتابة الإبداعية ، وافتتحت في عدد من الجامعات (دول الخليج بشكل خاص) مراكز للكتابة، غير أن الأغلب الأعمّ يهتم بالكتابة
الوظيفية، وينظر إلى تعليم الكتابة الإبداعية نظرة مرتابة ترى في الإبداع ميداناً يعتمد على الموهبة الفردية، ولا يؤمن إلا بنظرية وادي عبقر التي يسعى تعليم الإبداع وتطويره إلى الحدّ من نفوذها.
ضرورة تعريف القصة القصيرة جدّاً:
خلال التعريفات الكثيرة التي أطلقها النقاد للإحاطة بمصطلح القصة القصيرة جداً لفت نظري تعريف لطيف للأستاذ محمد محي الدين مينو يقول فيه: إن "القصة القصيرة جداً حدث خاطف، لبوسُه لغةٌ شعرية مرهفة، وعنصره الدهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة ". وعلى الرغم من أنني لا أميل للتعريفات، ولا أظنّ أن ثمة تعريفاً جامعاً مانعاً لأي مصطلح يضع حدوداً للجنس الأدبي، فإنني أميل في أثناء تنفيذ الورشات التعليمية إلى وضع تعريف افتراضي للقصة القصيرة جداً يتم استنباطه من أركانها وتقنياتها، وانطلاقاً من هذه الضرورة يمكن أن نعرفها كما يلي:"هي جنس سردي قصير جداً يتمحور حول وحدة معنوية صغيرة، ويعتمد الحكائية، والتكثيف، والمفارقة، ويستثمر الطاقة الفعلية للغة ليعبّر عن الأحداث الحاسمة، ويمكن له أن يستثمر ما يناسبه من تقنيات السرد في الأجناس الأخرى".
ورشات عمل تناسب القصة القصيرة جداً:
وحتى يمكن أن نضع تخطيطاً نظرياً لورشات عمل يمكن تنفيذها على مجموعة من الموهوبين لا بد أن نقسم ورشات العمل إلى قسمين رئيسين:
• قسمٍ يسعى إلى التركيز على أركان الكتابة القصصية القصيرة جداً.
• وقسمٍ يسعى إلى التدريب على كيفية استثمار التقنيات المختلفة.
خطوة أولى:
ورشة عمل حول توظيف المفارقة في القصة القصيرة جدّاً
جامعة الإمارات العربية المتحدة - وحدة المتطلبات الجامعية العامة
برنامج اللغة العربية، 20/ 2/ 2013
انتهى الجدل القائم في رأينا حول مركزية ركن المفارقة في القصة القصيرة جداً، وبات من المعترف به لدى منظري هذا الفن أنها عنصر من العناصر التي لا غنى عنها أبداً، وقد تمّ تمييزها عبر التراكم النقدي عن الطرفة على الرغم من أنها قد تضحك المتلقي من خلال سعيها إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء من حوله.
ولا شك في أن المفارقة لا تقحم إقحاماً قسرياً في السرد، بل تختار الصيغ السردية المناسبة النابعة من طبيعة الحبكة، والتي تمنح النهاية (القفلة) من الخصائص التي ذكرها مسلك ميمون، إذ رأى أن النهاية (القفلة) في القصة القصيرة جداً تمتاز بكونها مفاجئة لا يتوقعها المتلقي، وهي تحدث توتراً وانفعالاً، بسبب نسقها الدلالي والصدامي، وتبعث على التأمّل والتساؤل، وتفتح آفاق التأويل، وتضفي جمالية دلالية على النص، لما تختزنه من معنى .
ويشار هنا إلى أنّ المفارقة يمكن استجلابها من مصادر مختلفة، لعلّ أهمها الإفادة من فكرة جوهرها أنّ الكون ـ كما قال شتراوس ـ قائم على مجموعة من الثنائيات الضدية، على صعيد المفاهيم والزمان والمكان واللغة والحوادث والألوان وغير ذلك، وإن مثل هذا الفهم يجعل من توظيف المفارقة في القصة القصيرة جداً أمراً ممكن التعليم.
وانطلاقاً من أهمية الإحساس بأهمية المفارقة وحسن تلقيها عند المتعلمين قمتُ بتنفيذ ورشة عمل لتعليم كتابة القصة القصيرة جداً لطالبات الجامعة يوم 20/ 2/ 2013، وحضرت تلك الورشة نحو ثلاثين طالبة من مختلف التخصصات، ممن تتوفر فيهن مواهب الكتابة القصصية، وكان الحضور اختيارياً يتم عبر تسجيل اسم الطالبة الراغبة بالحضور عند مسؤولة الأنشطة الطلابية.
وقد اعتمدتُ خلال تنفيذ تلك الورشة اعتماداً كبيراً على تحفيز التفكير بالثنائيات الضديّة، من خلال عرض مجموعة من الكلمات والصور المتقابلة على الطالبات المتدربات، متدرّجاً في عرض تلك الصور عبر ثلاث مراحل:
• مرحلة تعرض صورتين يلمس الرائي تضاداً ما بينهما.
• مرحلة تعرض صورة واحدة تبرز تناقضها من خلال علاقاتها الداخلية.
• مرحلة تعرض صورة لا تبرز تناقضها بشكل مباشر، وهي بحاجة إلى قوة تخّيل من أجل إيجاد تناقض ما بين متضادين.
وقد عرضتُ على الطالبات في المرحلة الأولى صوراً متقابلة للثلج والشمس، والحرية والقيد، والنور والظلام، والإعاقة والإرادة وغير ذلك. ومن الصور المعروضة على الطالبات الثنائيتان الضديتان اللتان تمثلهما الصورتان (1، 2: الثلج والشمس) والصورتان (3، 4: الحرية القيد). وقد طلبتُ من الطالبات إيجاد علاقات سردية بين الثنائيات الضدية المعروضة، أو تصوّر علاقات ضدية بين أشياء قد لا تبدو متضادة في جوهرها، من أجل صناعة مفارقات سردية، يحاولن فيها تجاوز وظيفة اللغة الإبلاغية الصحيحة المفهومة إلى وظيفتها الجمالية التي تؤثر في القارئ وتجعله يتعاطف مع منتج الصياغة الإبداعية. وقد جاءت النتائج مشجعة، ومنها الصياغات السردية التالية التي صححنا فيها بعض الأغلاط اللغوية:
أولاً ـ الثلج والشمس:
1 ـ "فكّر الثلج ليلة كاملة أن يتخلّص من خجله القديم، ويبوحَ بعشقه للشمس. لكنه حين وقف أمامها في الصباح ذاب من الخجل".
2 ـ "كلّ صباح تربت الشمس على كتف الثلج قائلة له بحنان غبي: لا تذرف الدموع يا صديقي".
3 ـ "قالت له الشمس. تعال لتنام على كتفي. قال لها الثلج: كم بكيتُ بسببك، والعاشق لا يلدغ من عشقٍ مرتين".
ثانياً ـ الحرية والقيد:
1 ـ "قال السجين: كم كنت قاسياً عليك أيها العصفور حين وضعتك في القفص".
2 ـ "ليس ثمة قفص من ذهب، وإن كان مذهّباً".
3 ـ "قالت له متى نتزوج.رأى آدم سجناً ورأت حواء فضاء بهيجاً يملؤه الأطفال".
وعلى الرغم من أن بعض النصوص التي قدمتها الطالبات لم ينتمِ للقصة القصيرة (مثلاً النص الثاني من نصوص الحرية والقيد بسبب افتقاده للحكائية) فإنّ جميع ما قُدّم استطاع أن يبني تلك المفارقة المدهشة، بل وينوّع فيها، فقد بدا الثلج عاشقاً خجلاً محبّاً، وبدت الشمس قاسية بل غبية، تقتل عاشقها بيدها دون أن تبدي أسفاً أو ندماً. في حين بدا مفهوم الحرية مشدوداً بين رجل مسجون وعصفور نال حريته، وبين ذهب ثمين وذهب لا قيمة له، وبين ذكورة وأنوثة تختلفان في تقييم تجربة الزواج.
ويلفت النظر في هذه المفارقات أنها تبنى بطرق مختلفة، وتبعاً لتصورات مختلفة لطبيعة العلاقات بين الأضداد، وقد لجأ معظم الطالبات إلى تشخيص الثلج والقفص والعصفور، واستثمر طاقات سردية متنوعة كالتناص والحوار وحسن التعليل.
* * *
وقد شجعتني نتائج هذه الخطوة (على الرغم من توفر العديد من اللوحات المتقابلة التي تحتوي على ثنائيات ضدية) على التقدّم مرحلة أخرى، عبر عرض صور يتخيّل القاص المبدع مفارقاتها، أو يخترع مفارقات تنبع من صميم رؤيته الشخصية، عبر عرض صورة واحدة في كل مرّة، ثم يُترك للمتدربة بعد ذلك التعبير عن الصورة من خلال علاقة سردية قصيرة جداً. ومن الصور المعروضة على الطالبات صورتا المرآة المحطمة (5) والإنسان والظل (6). وبعد عرض هاتين الصورتين قدّمت الطالبات صياغات سردية لافتة للنظر، تحاول أن تقرأ كلاً من الصورتين واقعاً أو تخيلاً. ومن تلك الصياغات:
أولاً ـ المرآة المحطمة:
1 ـ "خان وطنه مرة بعد أخرى، قبض أموالاً كثيرة، وعندما نظر إلى نفسه كسر المرآة".
2 ـ "أكّدت لنفسها أنها تستطيع أن تخدع الجميع، ولكنها قبل أن تنام نظرت في مرآة نفسها، وبكت مثل طفلة يتيمة".
3 ـ "المرآة لا ترحمني".
ثانياً ـ الإنسان والظلّ:
1 ـ "أعطاني رزمة من النقود ثم مضى، رأيت في ظلّه شكل لص".
2 ـ "أزاح الرجل الكهل عن ظلّه غبار السنوات، فرأى طفلاً صغيراً يلوّح له من بعيد".
3 ـ "إذا انعكس ظلّ القط على الأرض نمراً، فإنه لا يستطيع افتراس الأرانب".
ونلاحظ في جميع الصياغات السابقة لفكرة المرآة المحطمة (على الرغم من خروج الأخيرة منها من النمط السردي) إصراراً على أن المرآة تعني مواجهة مع الذات، مما جعل الأولى تمثل ارتداداً لخائن عميل عن الخيانة، والثانية تمثّل ارتداداً لمخادعةٍ عن الخداع، بينما تمثّل الثالثة نكوصاً عن مواجهة الذات، لأن هذه المواجهة غالباً ما تكون غاية في القسوة.
أما في صياغات فكرة الإنسان وظلّه فلم تقف عند الإنسان ضمن عملية العصف الذهني التي أنتجت رؤية موحدة (قد لا تكون صحيحة) ملخّصها أنّ الظل لا يجسّد حقيقة الأشياء، بل يناقضها في كثير من الأحيان، وقد يكون الظلّ حلماً بالطفولة أو الشجاعة أو غير ذلك.
* * *
وقد قمت من خلال تلك الورشة بتقديم نموذج ثالث من الصور لا يضمّ مفارقات واضحة، ولكنه يعرض مواقف ذات تأثير بالغ في النفس البشرية، وبعد أن عرضت الصور على الطالبات، طالبتهن بالتعبير عما توحي به هذه الصور من خلال مفارقات سردية. ومن بين هذه الصور صورة العجوز والشجرة (7). وفور عرض الصورة تساءلت إحدى المتدربات: هل هذه الصورة في فلسطين؟
فأجبتها: تستطيعين استنتاج ما تشائين.
ويبدو أن هذا السؤال قد وجّه النصوص السردية في اتجاه واحد هو التعبير عن هذه علاقة العجوز الفلسطينية بشجرة الزيتون. ومن الصياغات السردية التي كتبتها الطالبات ما يلي:
1 ـ "استطاعت الجرافة، بعد محاولات متكررة، أن تقتلع شجرة الزيتون، ولكنها لم تستطع أن تقتلع امرأة عجوزاً من جذورها".
2 ـ "الجندي الصهيوني الذي يراقب العجوز لم يلاحظ أن وجهها يشبه لون الأرض".
3 ـ "عندما حضر الجندي على ظهر جرافته قالت العجوز لشجرة الزيتون العتيقة: أحبّك يا أمي".
وبسبب من هذا التوجيه اتجهت المفارقة لتصوير التناقض الحاد بين شخصيتين: شخصية تتمسك بالأرض، بما تملك من قوة الإرادة، وشخصية تسعى إلى إفراغ الأرض من أهلها، بما تملك من البطش.
ملاحظات لا بد منها:
1 ـ إن لجوءنا في أثناء تنفيذ ورشة العمل إلى عرض الصور من أجل االتحفيز ليس طريقة وحيدة، إذ يستطيع أي مدرّب أن يعرض، عبر أي وسيلة بدائية أو ذات تقنية متطورة/ مكتوبة أو مرئية أو مسموعة، ما يراه مناسباً لتحفيز الإبداع في نفوس المتدربين الموهوبين.
2 ـ إن تنفيذ مثل هذه الورشات يتطلّب إعداد ملفات للمتدربين، من أجل تحليل نتائج تلك الورشات، والإفادة من تلك النتائج في تقديم توصيات تجعل الورشات التالية أكثر نجاحاً.
3 ـ إنّ تطور الكتابة الإبداعية عند الطلاب لجنس القصة القصيرة جداً يتطلب تحفيزاً مستمراً لهم من خلال وسائل التشجيع المتاحة في الجامعة من مثل إتاحة المشاركة في المسابقات والندوات والأمسيات الأدبية والنشر في مجلات مراكز الكتابة، والصحف المحلية.
4 ـ إن نجاح تجربة الكتابة الإبداعية لهذا الجنس الأدبي يتطلب تعديلاً في مناهج اللغة العربية، فتحتوي نماذج راقية من القصص القصيرة جداً، تشجّع المبدعين من الطلاب على اقتفاء آثارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.