آمال موسى
(تونس)
إذا
صدّقنا – وهو الصدق بعينه – أن الكتابة هي تعرية للذات وللنفس وللوعي
الفردي والجماعي والمطلق، فإن هذه التعرية المقدسة تتحقق في غفلة من الكاتب
ودون إذن مسبق منه. لذلك فالكتابة تكشف وهي المكاشفة التي تفاجئ صاحبها
وتباغته.(تونس)
ورغم أنها كما يصفها ماركيز لحوحة ولجوجة وذات سلطة على المريض بهوى اللغة، فإن الكاتب غير قادر على تحديد ملامحها أو الإمساك بها ككائن محسوس يجعلنا في حالة حمى متواصلة.
إن مشروع الكتابة الإبداعية، يُقشر ببطء. وفي زمنه الأول بدا لي وكأني أكتب في حالة منام غير مألوفة وما أنتجته في هذه الحالة،
منحني ما يشبه العلبة السوداء التي تدلنا على المفقودين والخريطة التي تريد ذاتي السير عليها والطيران فوقها. أي أن الكتابة في حالة منام غير مألوفة، قد هيأت لي ظروف وعي لكتابة القصيدة في اليقظة.
فلم أختر في القصيدة الأولى أن أغني ذاتي ولكني في القصيدة الحالية أختار وأنا في كامل صحوي الذهني والشعري. فإذا بكتابة الذات/الذات تسلبني والشغف العاصف لابتكار كينونة أنثوية أساسية ومركزية في عالم الشعر بدلا عن كينونة فرعية، تشغل موقع الموضوع الشعري في نسق قصيدة الرجل العربي يستبدّ بي. إنها الرغبة القوية في تقصي كينونة ذاتي كإنسانة وكامرأة والإبداع ضمن شروطي الخاصة البيولوجية والتاريخية الاجتماعية.
ولكن كيف يمكن ابتكار كينونة أنثوية مستقلة عن الكينونة الذكورية في ثقافة بني نظامها القيمي على مباركة الإنتاج الثقافي الذكوري أولا وأخرا ؟
وهل لصالح المرأة الشاعرة أن تنخرط في شعر يقوم على الغيرية في كافة الأبعاد ؟
إن التفكير في هذين السؤالين بعيدا عن إرادة البحث عن إجابات حاسمة واهمة، قد مثلا خشبة النجاة، إذ بدأت أتحسس حاجتي في القصيدة وأن المطلوب مني أن ألتصق بذاتي وفتح كافة الأبواب والشبابيك لها كي تعبر ذاتي عن ذاتها والاجتهاد في مزج الشخصي بالذاتي بنحو يجعلني أرى في المرآة وجوها لا وجه واحد. لدلك فالقصيدة عندي سرير الذات وغرفتها وبيتها وشوارعها وحانتها .والغيرية المطلقة اغتيال جمالي للذات.ولا مجال كي أخرج من دائرة الموضوع والدي أسرني فيه نسق الشاعر الفحل سوى بالتحول إلى ذات لغوية تصمم هندستها المعمارية الخاصة. وأدا كانت القصيدة العربية التقليدية وفية للآخر اجتماعيا وللقيم السائدة والشاعر يلعب دور لسان القبيلة فان الاستراتيجية المطلوبة هي تلك التي تتصالح مع الذات كصانعة للقيم ومتجاوزة والتي تحمل تصورا للإنسان وللذات بشكل يعارض النموذج القائم والمعتمد.
من هنا عدت إلى ذاتي راضية مرضية. أتباهى بها. أعشقها. ألثمها. أباركها. وأتساءل : أي جدار يتحملني لوحة. عدت وفي جرابي أساطير توجت المرأة رمزا للخصوبة ونافورة للماء وجعلتها الخالقة والأصل.
وجدت في الالتصاق بالذاتي، تحررا من ثابت جنسي اجتماعي سلطوي. فإذا بالضمير المتكلم يهيمن على قصيدتي أقول في قصيدة "اعشقني" من مجموعتي الشعرية الأولى "أنثى الماء" :
أحملني فوق أناملي/ أحملني على صهوة أحداقي/ ألتفّ بجلدي قماطا/ أعانقني شوقا إليّ/ أبارك تدفقي، تلاطمي/ أحضنني في صدري/ ألثم هاتين اليدين المخضوبتين بشعري/ أتهجى ألواحي/ نقشي على الحجر/ صورتي تحمل الماء للعطش/ الطعم لشباك الصيد/ أقضي أجراس الليل/ في نحتي/ أنام تحت ظلّي/ ألبس بداوتي/ نكاية في المدن/ فيّ أتنزه/ ساعة الضجر منّي/ أدخلني حديقة/ لا توقع/ بيني وبيني/ أعشقني مستحيلة/ لا يعرف التراب قدميها.
إذا ردّ الاعتبار إلى الذات أولا وإلى الذات الأنثوية كانا هدفي ومشروعي. فالثقافة التي قامت على ذهنية الجماعة والقبيلة والسلطة الذكورية سواء كانت أبا أو زوجا أو شيخ قبيلة، تحتاج من المرأة إذا ما وطأت عالم اللغة أن تقوم بوظيفة مزدوجة : تكريس كتابة الذات/الذات بدلا عن الغير الجماعة. وأن تنسج خيوط كينونة أنثوية تستعيد بها اللغة إنسانيتها والنصف الآخر الذي لطالما كان غائبا أو حاضرا كموضوع أو كذات مقنعة لا عارية كما يجب أن تجلس الذات في لغتها وتقيم.
ولكن التباهي بالذات والتغني بالجسد وبالوجدان وبالكون وبالآخر من بوابة الكينونة الأنثوية استدعى مني الخروج عن السنة الشعرية وعن التخفي وراء ستائر من أدوات لغوية فحلة الصنع والرؤية وبالتالي المعنى.
وجدتني غير معنية بتعرية ذاتي ضمن قالب شعري جاهز. شيء ما، أغراني بالبحث عما سماه أنسي الحاج الأوزان الشخصية، حيث لا صوت إلا لإيقاعي الداخلي ولا نبرة إلا للموسيقى التي تُطرب بشكل مختلف كينونتي. بعيدا عن بحور الخليل أردت أن أقيم ورشتي الشعرية واستودع أسراري وأوزاني الشخصية والصور العديدة التي كلما تشكلت أمزقها. إنها قصيدة النثر، التي أغرت وعيي وتلبست برغبتي الهائجة في استنطاق صمتي الداخلي والتقاط صورا تشبهني أكثر ما يمكن للشبه أن يبلغ .
صادقتُ القصيدة، وفيها صادقت أساطيري والطبيعة وهي حبلى بتناقضاتها وفصولها الأمزجة. تزوجت قصيدتي الماء. فصار أكثر عناصر الحياة تواترا في قصيدتي : لم يأتينا الماء/ يجري متظليا من شدة العطش/ لم الماء/ يقتفي خطواتي/ وينسى مجرى السواقي/ مسقط المطر/ لم لا أدلي بوجهي/ في أطراف الماء/ لأعرف/ كيف أخفى عنّا لونه/ ومتى أفقدناه عطره/ لم لا أصبح سر الماء ؟/ لم لا أكون أنثاه/ أنتظره في الجرّة/ حتى قدوم الصيف. ( قصيدة أنثى الماء). وبقدر ما كنت مرنة مطيعة للبوح بقدر ما كانت القصيدة في ذهني زئبقا أمسكه لحظة ويهرب في لحظات. لقد عشقت قصيدتي والذات والأنثى، فإذا بالمرأة عالما وأغنية وهي الماء أي إكسير الحياة والمرهم السحري. وهي العاشقة والمعشوقة وفي كلتا الدورين المتلازمين يقطن مركز العالم الشعري .
ولكن التباهي بالذات بدل الغير، جعلني عرضة لشبهة أراها محمودة وهي النرجسية. تلك الشبهة التي تليق بالشاعر ولكن في حالة الشاعرة تصبح دليلا على ذات متورمة. فالمرأة في المخيال الشعري العربي يتغزل بها ولا تتغزل بنفسها. إن التباهي بالذات كان بالنسبة إلي تعلة لتقشيري وتعريتي أولا ولتعرية الآخر أيضا. أليست الذاتية صوتا ولكنها أداة تسرب من خلالها كل ما ينتمي للجماعي، كما يرى فلادمير كريزنسكي.
أليس الذاتي جزء من الجماعي ونصف الآخر أو ثلثه أو ربعه أو حتى خمسه وعشره !
ألا تحتاج المبدعة للكتابة بعيدا عن قوامة الجهاز الشعري الذكوري وعن رقابة القيم العتيدة.فمراجعة الأدوار داخل العالم الشعري كبديل إبداعي افتراضي خطوة ومقدمة لمراجعة الأدوار في العالم الواقعي. ورغم أن بروست كان بارعا في نقل التفاصيل الحميمة للمرأة. ولا شك أيضا أنّ فلوبير قد وُفق جدا في تصوير عاطفة مدام بوفاري، إلا أن تعبير المرأة على كينونتها الأنثوية الإنسانية بلسانها وببصرها وبنبضها وبكيفية تعانق وتنافر العناصر في داخلها هو المدخل المنهجي والطبيعي لتكريس تلك الكينونة على أرض الواقع. ومن خلالها تتمكن الكينونة الذكورية من تحقيق مسافات حميمة صادقة إنسانية بعيدا عن البطولات الحقيقة والوهمية. ذلك أن دخول المرأة على الخط والحفر في قيمة الذات والإقامة في نقطة المركز في العالم الشعري سيحولها إلى فاعلة في اللغة وبالتالي فاعلة في الواقع من خلال كسر الطوق حول المسكوت عنه ورفع البرقع عن وجهها وعن روحها وذاتها لتتحرك كإنسانة حرة لا تفوقها العصافير حرية. وهي إذ تتعرى يتعرى معها الرجل والمجتمع. وهي إذ تهتك الأسرار يعم النهار ويصبح زمنا أبديا.
هكذا أرى ما يمكن أن تقوم به المبدعة إزاء النسق القيمي للثقافة العربية وهي ما تشترك في السعي إليه عدد كبير من الشاعرات العربيات اللواتي أضفن لعملية الإبداع ذاتها على المستوى الفني وكذلك المضمون الذي غير بعض المقولات، ومازال سيغير أكثر وأكثر كلما التصقنا بالذات وتلصصنا على الجميع ككائنات تعيش في الداخل كما في الخارج.
شهادة قدمت في مدينة تورينو الايطالية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.