أخر الأخبار >> مجلة المصباح دروب ثقافية أدبية * ثقافية * فنون تشكيلية كما نرحب بجميع المساهمات الواردة عبر البريد الإلكتروني m.droob77@gmail.com أهلا بكم أصدقائنا * مع تحيات أسرة التحرير

أحـدث المقالات

حوار مع الروائي الفلسطيني الدكتور حسن حميد

حوار مع الروائي الفلسطيني الدكتور حسن حميد.
صفحات حسين توكالروائيون الفلسطينيون يحلقون إبداعياً عندما يكتبون عن الأرض
حاوره في دمشق:الشاعر سمير درويش
خاص لمجلة الفصول الاربعة الليبية العدد المزدوج 115/116
 كتابتي الروائية، وحتى القصصية، مختلفة عن كتابات الآخرين لأنني حاولت أن أضع فيها كل ذخيرتي ومعرفتي وموهبتي ورؤاي وتشوفاتي

 أنا تلميذ لمعلمين هائلين: الأسطورة والتراث.. ذلك لأنني أنتسب لحضارة الأنهار التي أوجدت الزراعة وأدواتها، والمهن وأدواتها، والحروب وأدواتها، والجمال وأدواته!
 الروايات اليوم لا تأخذ مادتها من الأيديولوجيا، وذلك لأن أغلاط الأيديولوجيا في الأدب عموماً والرواية خصوصاً باتت فاقعة
 مصطلح الأدب المقاوم اشتمل على نماذج روائية رديئة، ولكن يحق للكتاب الفلسطينيين أن يفخروا بأنهم أوجدوا أدباً روائياً رائقاً داخل مدونة الأدب المقاوم!!
 الروايات العبرية تسم العربي بالجهل والقذارة والغدر، في حين تسم الرواية العربية اليهود بالباطنية والخداع والمكر ونقض العهود والمسكنة الكاذبة والعدوانية!
 اليهودي لا يزال عدواً وسيبقى كذلك ما دام يستولي على الأرض، والحقوق، والتاريخ، والحلم.. وما دام قاتلاً وسجّاناً!
 كم من النقاد العرب يعرفون ما احتوته (عوليس)! وهل عرف أحدهم لماذا هذا الحضور المكاني الفلسطيني في رواية مكتوبة سنة 1904؟!
كثيرون في مصر عرفوا الروائي الفلسطيني 'حسن حميد' بعد أن قرأوا روايته المميزة 'جسر بنات يعقوب' التي صدرت عن مطبوعات اتحاد كتاب سورية عام 1996.. والتي ابتكر فيها حيلة فنية بارعة، حيث يقدم الرواية وكأنها نص كتاب قديم ورثه عن أجداده، فقد وصل إليه عن ثلاثة عشر جدًّا من أجداده، وقد عثروا عليه في خزانة كتب الجد الرابع عشر العلامة المقدسي المعروف 'إلياس الشمنذوري'؛ الذي عاش في مدينة القدس في بداية القرن الثالث عشر الميلادي أيام المماليك.. وفي الكتاب تاريخ حياة المهاجر يعقوب وبناته وأخبارهم، وقد عاشوا بجوار الجسر العتيق المبنى على نهر الأردن، والذي عُرف فيما بعد بـ'جسر بنات يعقوب'، وبالقرب من قرية الشماصنة التي كان أهلها يتكلّمون الآرامية، والواقعة إلى الشمال الغربي من قرية طبريا.. الخ، وهي حيلة مكنته من رواية هذا التاريخ بلغة فنية راقية، وجعلت روايته بين أفضل الروايات العربية على الإطلاق.
حسن حميد ولد في كراد البقارة (صفد ـ فلسطين) عام 1955، هاجر إلى سورية مع أسرته، تلقى تعليمه في القنيطرة ودمشق، وتخرج في جامعة دمشق حاملاً الإجازة في الفلسفة وعلم الاجتماع، ودبلوم الدراسات العليا ودبلوم التأهيل التربوي، ثم نال الإجازة في اللغة العربية من جامعة بيروت العربية.. عمل معلماً في دمشق، ثم امتهن الصحافة، وقد حصل مؤخراً على درجة الدكتوراه في الأدب العربي.. بالإضافة إلى أنه عضو مجلس إدارة اتحاد الكتاب السوريين.
أصدر عدة مجموعات قصصية، من بينها: (اثنا عشر برجاً لبرج البراجنة، زعفران والمداسات المعتمة، ممارسات زيد الغاثي المحروم، طار الحمام، دويّ الموتى، هنالك.. قرب شجر الصفصاف، مطر وأحزان وفراش ملوّن، أحزان شاغال السَّاخنة، قرنفل أحمر.. لأجلها، حمّى الكلام، وكائنات الوحشة).. ومجموعة من الروايات، منها: (الوناس عطية، أنين القصب، السواد أو الخروج من البقارة، جسر بنات يعقوب، تعالي نطيّر أوراق الخريف).. وله مجموعة من الدراسات، منها: (ألف ليلة وليلة.. شهوة الكلام.. شهوة الجسد، البقع الأرجوانية، المصطلحات ـ المرجعيات ـ دراسة الأدب العبري، والبقع الأرجوانية في الرواية الغربية).
التقيته وكان هذا الحوار:
** في ظني أن حسن حميد لا يعتمد الحبكة التقليدية لأن لديه تنوعاً في أساليب السرد.. هنا أود أن أسألك: كيف تنظر إلى رواياتك في إطار التنوع والاختلاف في بنية الرواية العربية؟!
ـ نادراً ما أعود إلى رواياتي بعد طباعتها لكي أقرأها. قد أعود إليها إذا ما نبهت إلى أمر ما فيها. أقول هذا لأن الرواية لا تخرج من بين يديّ إلا بـ(طلعان) الروح. كتابة رواية واحدة (رواية حقيقية) تستلزم من الكاتب أن يغير دمه لأنها تستنزفه جسدياً، وعصبياً، وروحياً، ومعرفياً. ذلك لأن الرواية الناجحة هي رواية معرفة، رواية جدة واختلاف، رواية دهشة محمولة على كف الرؤية التي يتوخاها الكاتب.
نعم.. أنا ميال إلى التنوع، والاختلاف، والمغايرة.. لأن هذا الميل طبيعة موجودة داخل كيمياء الفرد البشري، فهو ليس عاطفياً أو يحب التملك فقط وإنما هو نزوع إلى التفرد والمفارقة في كل ما يفعله.
أظن أن الرواية العربية بلغت سن الرشد مع عمنا نجيب محفوظ، فرواياته كانت جديرة بالمناددة مع الروايات العالمية التي استوردناها من الغرب (الأوروبي والأمريكي) بعد أن كانت القطيعة مطبقة مع آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا.. وقد جربت الرواية العربية عبر تجارب روائية مهمة جداً، أساليب عدة في الكتابة جعلت سمتها الرئيسة التنوع والاختلاف.. فالآن لا يكتب واسيني الأعرج مثلما كتب نجيب محفوظ كما لا يكتب إبراهيم نصر الله مثلما يكتب آلان روب غرييه، إنه يكتب روحه والأمكنة التي عرفها، والأزمنة التي غصَّ بها، والشخوص التي ابتدعها أو عايشها أو أحبها. حسن حميد لا يكتب أيضاً مثلما يكتب واسيني الأعرج وإبراهيم نصر الله، ولا يكتب مثلما كتب أرسكين كالدويل.. إنه يكتب ما يسميه الخصوصية التي ستميزه بين هذا وذاك. بلى، كتابتي الروائية، وحتى القصصية، مختلفة عن كتابات الآخرين لأنني حاولت أن أضع فيها كل ذخيرتي ومعرفتي وموهبتي ورؤاي وتشوفاتي.
تداخل الأسطوري والتراثي
** هناك من يقول إن الروائي العربي ينشر رواية واحدة على الأغلب، ثم يكتب روايات عدة تدور حولها أو تحاكيها، ما رأيك؟!
ـ أظن أن الأقرب إلى الصواب هو أن نجاح الروائي قد يكون وقفاً على عمل روائي واحد، وباقي رواياته تصبح وصيفات لا أكثر. هذا ربما حدث مع فلوبير في (مدام بوفاري)، ومع دوستويفسكي في (الجريمة والعقاب)، ومع أرسكين كالدويل في (طريق التبغ)، ومع فوكنر في (الصخب والعنف)، ومع نجيب محفوظ في (الثلاثية).. الخ، ولكن المقولة التي طرحتها ليست خاطئة أو مغلوطة لأن تجارب روائية عدة تمثلها رواية واحدة إلى حد أن الروايات الأخرى تصير كما لو أنها إعادة إنتاج للرواية الأولى.
** يبدو أن الحوار كان فاعلاً ومهماً في عدد من رواياتك: الوناس عطية وجسر بنات يعقوب، تُرى ألا يمكن اعتبار شخصيات رواياتك قد تحررت من كبتها حين تفاعلت مع الحوار؟ أقول هذا لأنني أجد بأن الحوار يكاد يكون مفقوداً في غالبية الروايات العربية.
ـ في وهمي أن الحوار وحده لا يدلل على تحرر شخصيات العمل الروائي، أو فعاليتها، وإن كان كما قلت مؤشراً. حرية الشخصيات وفعاليتها تتبديان في الهيكلية العامة لها، كدت أقول من (الكاركتر) العام كما يقول نقاد المسرح.
الحوار في الرواية مهم جداً وضروري لكي تخلق التأويلات، والتناقضات، ولكي تبدو الثنائيات التي يحتشد بها المجتمع العربي تماماً مثلما تحتشد بها الذوات العربية.
** اعتمدت في رواياتك على الموروث الشعبي والأسطورة.. ألا تعتقد أن توظيف الموروث والأسطورة، بشكل عام، جرى كموقف أيديولوجي؟!
ـ أظن أن أهم كتابين لا يرتوي منهما الروائي هما: كتاب الأسطورة، وكتاب التراث الشعبي. والروائي الذي يحيّد هذين الكتابين هو روائي شديد الضحالة، ومصاب بالعطش المعرفي، ومصاب بمرض اسمه (عطالة الحواس).
أنا تلميذ لمعلمين هائلين هما: الأسطورة والتراث.. ذلك لأنني وعيت مبكراً أنني أنتسب جغرافياً وتاريخياً لحضارة الأنهار التي أوجدت الزراعة وأدواتها، والمهن وأدواتها، والحروب وأدواتها، والجمال وأدواته. أنا ابن حضارة نهر الأردن الذي له ضفتان باذختان من المعرفة والحضارة، عنيتُ بالضفة الأولى: وادي النيل، وعنيتُ بالضفة الثانية: بلاد ما بين النهرين. ومن يقرأ التاريخ سيجد بأن حضارة باذخة عمرتها تلك الأنهار بأيدي أهلها العارفين، لهذا لا عجب حين تتداخل الحدود ما بين الأسطوري والتراثي في مدونات ومرويات تلك الحضارة. واستنادي إلى الأسطورة والتراث ليس استناد معرفة وحسب وإنما هو محاولة لتشرب جمالية الفنون التي كانت آنذاك كالرسم، والتلوين، والنقش، والروي.. وتفاصيل كيمياء النصوص من حيث الاستهلال، والإبطاء، والالتواء، والمداورة، والتكرار، والمراوحة، والطي، والقفز، والمجاراة، والتشويق، والخواتيم والنهايات.. الخ.
واستغراقي في الأسطورة والتراث ليس استغراقاً ولّدته نزعة الإعجاب والأنانية.. حتى ليصير موقفي موقفاً إيديولوجياً! إطلاقاً.. ما أردته من الاستغراق في ذينيك الكتابين هو التخفيف من وطأة الاستهلاكية، وسطوة المعرفة الجاهلة التي محت التاريخ أو غطته بالراهن. ومحاولة أيضاً لإنقاذ الأرواح من خلالها، ومتاهاتها، وضعفها بعدما بُهرت بالجديد ضوءاً، وقوةً، وحضوراً.
ها نحن نرى أمريكا اللاتينية من خلال أدبها، نرى تاريخها القديم والحديث.. وقد جهلناهما سابقاً. وأوروبا اليوم تقرأ أمريكا اللاتينية من روايات كتّابها بعد أن حيدتها قروناً.. وهذا ما سيحدث في أزمنة آتية بالنسبة لآسيا، وأفريقيا. روايات أمريكا الجنوبية قدمت لنا أساطير أهلها وتراث ناسها عبر مواقف ومرئيات يومية.. فهل نقول إن ذلك موقفاً إيديولوجياً؟! إن قلنا نعم، فهذه الإيديولوجية أحبها، وآخذها طيّ صدري.
** إلى أي حد تعتبر أن الأيديولوجيا أضرّت بالأدب؟! وإلى أيّ حد حجمته؟! بقولة أخرى ألا ترى أن الشعر العربي قد تخلص من المقولات الكبرى والشعارات الفضفاضة واتجه عبر قصيدة النثر إلى الإنسان بوصفه إنساناً.. بينما لا يزال الروائيون يستقون رواياتهم من الأيديولوجيا؟!
ـ بداية أوافقك على أن الأيديولوجية الشعاراتية الإعلانية أضرت بالأدب كثيراً، ولكن ما كتبته الأيديولوجيا ليس أدباً، إنه مقالات إعلانية حول أحزاب، أو تيارات، أو بلاد، أو قضايا. ولكن الأيديولوجيا باعتبارها رؤية، أو مجموعة مواقف وأفكار لا يمكن لأي نص روائي أن يتحيدها. العيب هو في طريقة الكتابة، وفي ضعف المواهب، والاكتفاء بالسهل، والموافقة على إرضاء الآخرين بأية طريقة. روايات كثيرة مجّدت الثورة البلشفية لا أحد يذكرها اليوم لأنها مملوءة بالشعارات، روايات كثيرة تحدثت عن القضية الفلسطينية لا أحد يذكرها أو يعود إليها لأنها مملوءة بالشعارات و(الهوبرة)؛ ولكن هذه وتلك كان لابد منها في وقت من الأوقات، وأصحابها أعدّهم ضحايا للزمن والظروف والإملاءات. عادة ما يطغى ألشعاري والقولي على الفني والإبداعي في أوقات الأزمات، أو النشوة التي بولغ في التعبير عنها.
وأنا غير ميال للموافقة على أن الشعر تخلص من المقولات الكبرى.. ما زالت الأحداث تتردد أصداؤها كمقولات كبرى في القصائد. وقصيدة النثر العربي جيدة في بعض نماذجها وليس في كلها!، والروايات اليوم لا تأخذ مادتها من الأيديولوجيا، وذلك لأن أغلاط الأيديولوجيا في الأدب عموماً والرواية خصوصاً باتت فاقعة.
إعادة الاعتبار لأدب المقاومة
** حسن حميد، كيف ترى خصوصية الرواية الفلسطينية؟! ما هي ميزاتها؟! لا سيما أن الشعر الفلسطيني أوجد هويته، بينما الرواية الفلسطينية تأثرت كثيراً بالجغرافية داخل الوطن الفلسطيني وخارجه؟!
ـ نشأة الرواية الفلسطينية شبيهة بنشأة الرواية في مصر، وبلاد الشام عموماً. أي أنها لم تكن وليدة الكفاح المسلح الفلسطيني في أواسط الستينيات من القرن العشرين. صحيح أن عدد الروايات الفلسطينية اليوم أصبح كبيراً، ولكن الصحيح أيضاً أن هذه الصفة تنطبق على واقع الرواية في غالبية البلدان العربية.
للرواية الفلسطينية أحقابها وأزمنتها، ولها تياراتها، وموضوعاتها أيضاً. ليست كل الروايات الفلسطينية تحدثت عن الكفاح المسلح، أو جرح نكبة 1948، ولكن كان من الطبيعي أن تتحدث الرواية الفلسطينية عن هذه المأساة الكبرى التي تعرض لها أبناء الوطن الفلسطيني العزيز، مأساة لم يعرفها شعب في العصر الحديث إطلاقاً.
توجد الكثير من الأغلاط الفنية في العديد من الروايات والتجارب الفلسطينية، ولكن هذا لا يمنع من القول إنه توجد روايات وتجارب فلسطينية لا تقل شأناً وأهمية عن أحسن النماذج الروائية العربية. صحيح أن مصطلح الأدب المقاوم، اشتمل على الكثير من النماذج الروائية الرديئة فنياً ولكن يحق للكتاب الفلسطينيين أن يفخروا بأنهم أوجدوا أدباً روائياً رائقاً داخل مدونة الأدب المقاوم.. وقد باتت تجارب روائية فلسطينية لكتاب مثل: غسان كنفاني، جبرا إبراهيم جبرا، أميل حبيبي، رشاد أبو شاور، إبراهيم نصر الله، يحيى يخلف، وليد أبو بكر، أحمد عمر شاهين، من أساسيات المدونة الروائية العربية.
أما إن الشعر أوجد هويته، والرواية لا تزال متأثرة بالجغرافية، فإن الأمر يثير حفيظتي كثيراً. ذلك لأن جاهلاً (لا أود أن أسميه) قال قبل عشر سنوات أن للفلسطينيين اليوم شعراءهم وذكر محمود درويش، وسميح القاسم، ويوسف الخطيب، وخالد أبو خالد، وأحمد دحبور، وفواز عيد.. وأن لهم قصاصيهم، وذكر: سميرة عزام، وغسان كنفاني، ومحمود شقير، وخليل السواحري، ويوسف ضمرة، ورشاد أبو شاور، ويحيى يخلف،.. ولكنهم بلا روائيين، إنهم لا يكتبون الرواية، وما كتبوه كان رديئاً لأنهم (كما يقول) لا يمتلكون المكان، فالمكان بالنسبة إليهم مجرد حلم، وأن الروائي الفلسطيني شبيه بالروائي الصهيوني الذي لا يمتلك المكان، والمكان بالنسبة إليه مجرد حلم! قلتُ لذلك الجاهل يومئذٍ وماذا نسمي ما كتبه أميل حبيبي، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، ورشاد أبو شاور، ويحيى يخلف، ووليد أبو بكر، ويوسف شرور؟! وإذا كنا لا نملك المكان فماذا نكتب غير المكان؟! وما الذي تقصّه علينا الجدات والأمهات غير المكان! آنذاك أحلت الجاهل إلى كتابات غالب طعمة فرمان العراقي الذي عاش في المنفى (في موسكو) والذي لم يكتب سوى المكان العراقي. قلت لذلك الجاهل آنذاك الشعب الفلسطيني مصاب بعلة فقد (المعيل) والمعيل عندهم هو الأرض، المكان.. لذلك فإن الروائيين الفلسطينيين يحلقون إبداعياً عندما يكتبون عن الأرض، عن المكان.
واحدة، يا سيدي، من أهم مزايا الرواية الفلسطينية أنها كتبت المكان كما لم تكتبه رواية من قبل، إنه من الطبيعي أن ينتفض الإنسان حين يلدغ بالنار.
** كيف تنظر إلى التشابه والاختلاف في رسم صورة الآخر في الثقافتين العربية والعبرية؟! هل تعتقد أن القضية الفلسطينية قد أخّرت في فهم صورة اليهودي؟!
ـ لا أظن أن اليهودي يحتاج إلى اكتشاف جديد.. بين أيدي أبناء البشرية جمعاء (وحسب الاهتمام) مدونات تاريخية تخبر عن السلوك اليهودي، وعن الطبيعة اليهودية، وعن التعامل اليهودي مع الآخرين. اليهودي كيهودي شخصية مدركة الأبعاد، لها صفاتها ومميزاتها الواضحة جداً، لكن هذه الشخصية اليهودية باتت شخصية مركبة وذات حمولة دينية وسياسية وثقافية وعاطفية، وقد تناهبتها التأويلات اليهودية، والإسرائيلية، والصهيونية، والعبرية معاً.
معايشةً، نعرف اليهودي منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، وتاريخياً نعرفهم من مئات القرون، وقد تبلورت (عبر هذا التاريخ الطويل) معطيات باتت أساسية وارتكازية في الشخصية اليهودية.. هذا من جهة، ومن جهة ثانية باتت للشخصية العربية مرتكزاتها ومميزاتها أيضاً، وقد تبدت هذه الصفات والمميزات وتجلت في الأدب، كانت تلح الروايات العبرية على وسم العربي بالجهل، والقذارة، والغدر، في حين تلح الرواية العربية على وسم الشخصية اليهودية بالباطنية، والخداع، والمكر، ونقض العهود والمواثيق، والمسكنة الكاذبة، والقتل والعدوانية (بعدما امتلك الكيان الصهيوني القوة).
وهنا لعبت القضية الفلسطينية دوراً أشبه بدور المرآة فمن خلالها راحت الرواية العربية تشخص الشخصية اليهودية، وفي الطرف المقابل النقيض للفلسطينيين، راح الأدب العبري يشخص الشخصية العربية.
المشكلة هي أننا أمام تعريف لهذا المصطلح (الآخر)! فهل اليهودي هو (آخر) أم هو (عدو)؟! أعتقد أنه من السابق لأوانه أن نسمي اليهودي الغاصب للأرض، والتاريخ، والأحلام بـ(الآخر) الذي عليَّ أن أحاوره، أو أن أراه في صورة ليس فيها قتل، أو تدمير، أو أسر، أو سجن، أو اغتصاب. اليهودي لا يزال عدواً وسيبقى كذلك ما دام يستولي على الأرض، والحقوق، والتاريخ، والحلم.. وما دام قاتلاً وسجّاناً!
الغلط الابتدائي الأبدي
** هناك قراءة مختلفة للآداب العالمية في كتابك (البقع الأرجوانية).. هل كان المثقف العربي مستلباً من قبل الثقافة الغربية؟!
ـ ولا يزال!
هذا أمر طبيعي جداً لأنهم، أعني الغربيين، كانوا في القرون الثلاثة الأخيرة كل شيء في الدنيا: شعراً، ورواية، وقصة، ومسرحاً، وتصنيعاً، وعمراناً، وتسليحاً، وغزواً...الخ.. ولكن بعد هذا الهدوء الذي تعيشه البشرية؛ آن الأوان لمراجعة الكثير من الآراء النقدية حول تيارات الأدب (ما دمنا نتحدث عن الأدب) والثقافة، والإبداع، والفنون.. على أن تكون هذه المراجعة بأيدينا وعقولنا وبعد معرفة أهلها معرفة موضوعية لنقول أو لنعرف أين أصاب نقاد الغرب وأين أخطأوا، كي لا نظلّ أسرى لما قالوه. بقولة أخرى أن نكف عن النقل، وننتقل إلى العقل، أي الانتقال من التقليد إلى العمل. أردت أن أورث شكوكي ووقفاتي النقدية لبعض العاملين في الجامعات العربية الذين يدرِّسون آداب الغرب من مقالات نقدية كتبها نقاد الغرب أنفسهم دون أن ينظروا فيها، دون أن يراجعوها.. وذلك لأنهم مشغولون بأمور أهم من التدريس والمراجعة (وقد غدوا دكاترة) كأن يصبحوا وزراء أو قادة، أو مصلحين اجتماعيين، أو فلاسفة.. ترى كم من النقاد العرب الذين طبّلوا وزمروا كثيراً لـ(جيمس جويس) يعرفون ما احتوته روايته (عوليس)؟! هل قرأ أحد منهم أسماء المدن الفلسطينية التي تتردد داخل الرواية فتساءَل لماذا هذا الحضور المكاني الفلسطيني في رواية مكتوبة سنة 1904؟! وهل أدرك أحد من نقاد العرب أن هرتزل مات عام 1905 أي في أثناء كتابة الرواية، وأن كتابه (الدولة اليهودية) كان يقرأ في بلاد الغرب بقداسة ومهابة؟! وأن السيرة الذاتية لـ(جيمس جويس) تخبرنا بأنه تعرف إلى ابنة طبيب يهودي تكفلت بـ(قبر) فقره في مدينة النور باريس! وأنها هي من سعى إلى تزويجه بـ(نورا باركنيل).
والأسئلة ذاتُها أوجهها أيضاً حين يدار الحديث عن مارسيل بروست، وفرانز كافكا.. بعيداً عن الغلو، والتشنج، والمذهبيات المسبقة. من حق المثقف العربي أن يقرأ تلك التجارب الأدبية الكبيرة قراءة معمقة وكلية ليس من أجل المحاججة وإنما من أجل المعرفة الحقة كي لا يظلّ الغلط الابتدائي غلطاً أبدياً!
** أخيراً.. كيف تفك الاشتباك بين الصحفي والمبدع في شخصيتك؟!
ـ العمل في الصحافة هو أقرب أشكال العمل للكتابة الإبداعية، لذلك عملت في الصحافة من أجل أن أعيش، وأخدم قضيتي الفلسطينية، بالصحافة أعبر عن أحلامي، وأعايش الناس. ولكن لابد من القول حقيقة أنني في حوار دائم ما بين الشخصيتين لأفكّ اشتباكاتهما فأنا أعمل على الشخصيتين كإطفائي.. وأخمد حرائق الصحافة إن استغرقتني، واخمد حرائق الإبداع إن استغرقتني العزلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المصباح .. دروبــــــ ــ ــ ــ .doroob
/ قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } سورة ق الآية 18/
الرجاء الالتزام بأداب النشرفي كتابة الاستفسارات والتعليق.

دروب أدبية

دروب المبدعين

دروب ثقافية